Tuesday, November 23, 2021

أن تقرأ الأدب الأمريكي في كوبا كاسترو

 


 

خوسيه مانويل بييرتو

ترجمة: منصورة عز الدين

 

هيمنجواي في كوبا، 1934



في ربيع 2007، كنت مدعواً لعشاء نظمته مجلة باريس ريفيو على شرف نورمان ميلر. كان الروائي قد نشر لتوه ما سيكون روايته الأخيرة، "القلعة في الغابة"، وكان إي إل دوكتورو سيجري حواراً معه ليلتها. ذاك المساء، حين دخل ميلر الغرفة، بِسَمته المميز جداً – لرجل كان يوماً صلباً وقوي البنية، ويتكئ الآن على عكازين بسبب تقدمه في العمر- تأثرت بعمق. عبرت له – وماذا غير هذا يُقال في ظرف مماثل؟ - عن إعجابي الشديد  بكتبه وعن أنني بدأت قراءتها عندما كنت صغيراً جداً، قبل سنوات عديدة.

بعد أيام قليلة، حكيت لصديق عن هذا اللقاء. "لكن، كيف؟" سألني مندهشاً، "هل قرأت نورمان ميلر في كوبا؟!" وأضاف، "أليس من المفترض أنه واحد من كتاب أمريكا الشمالية الممنوعين في الجزيرة؟"

تخيل صديقي، ربما لسبب وجيه، أنه لم يكن بالإمكان العثور على أدب أمريكي في كوبا، وأن هذا الأدب مُنِع لأن البلدين كانا في حالة حرب شبه معلنة، وعداء معلن بوضوح. بصبر أوضحت له أن هذا لم يحدث قط.

كُتب ميلر وكثيرين غيره من كتاب أمريكا الشمالية لم تكن ممنوعة في كوبا؛ في الحقيقة، كانت تُباع على نحو واسع. كانت متاحة في كل مكتبة؛ وبإمكان كل شخص قراءتها.                            

ومع هذا، دفعني تعليقه، للتفكير في تأثير أدب جارتنا علينا في كوبا. دفعني لتأمل الكيفية التي تغلبت بها هذه الكتب على الرقابة والظرف السياسي، وكان (أي التعليق) سبباً لأن أتذكر مساراً ثقافياً، وأن أشكل قائمة مختصرة بالكتب الأمريكية الشمالية التي قرأتها كطفل في كوبا إبان حكم كاسترو، متأملاً في كيفية تأثير هذا الأدب بقوة على تكويني الأدبي.

أتحدث عن كُتَّاب مثل إرنست هيمنجواي، وليم فوكنر، ج. د. سالينجر، كارسن ماكالرز، وليم سارويان، شيروود أندرسون، جيمس فينيمور كوبر، ثورنتون وايلدر وكثيرين غيرهم: قائمة لا نهائية. هذه الكتب كشفت لي، ولا تزال تكشف، كيف يمكن للأدب عبور الحدود، وفوق كل شيء، اختراق جدار العدائية.

كنت طفلاً خلال حرب فيتنام، حيث كانت الصحف تغص بالكاريكاتيرات المعادية لأمريكا بدرجة فظيعة. الولايات المتحدة كان تلام على كل مصيبة، على كل شيء يحدث للدولة: كل حالة وفاة، كل كارثة طبيعية. كانت أمريكا مكاناً بلا قلب، حيث يتعاطى الناس المخدرات، ويبلغ العنف معدلات غير مسبوقة، وتسيطر العنصرية على كل شيء. هذا ما كنت تجده مذاعاً في الراديو ومعروضاً على شاشة التلفزيون يومياً.

 وإذا لم تستمع إلى الراديو أو تشاهد التلفزيون، ربما يمكنك المشاركة في مجموعة دراسية، من تلك التي كانت تعقد لتحليل آخر خُطب القائد الأعظم. هذه المجموعات الدراسية كانت واحدة من اجتماعات عامة تستمر لساعات وساعات، تتهم الولايات المتحدة بالعدوانات الأكثر غدراً، تحرض الجماهير وتزعج الدُمى التي يحركها المعتدون.

لكن، ما أريد لفت نظركم إليه – ما لا يزال يدهشني اليوم – أن كل هذا لم يغسل مخي. لم يشكِّل رأييّ في العالم الخارجي وبالأخص الولايات المتحدة. لا يعني هذا، أنه لم يكن ذا تأثير عليّ، لأنني طبعاً تأثرت، وظلت رؤيتي لسنوات مشوبة بأكثر الصور النمطية شيوعاً؛ لكن هذا لم يخرب كل شيء بالنسبة لي.

أدين بخلاصي للكتب. ربما كان كتاباً لهنري جيمس قرأته خلسة بينما يتلو قائد الشباب الاشتراكي بطريقة رتيبة خطاباً سمعناه كلنا قبل أسابيع قليلة. الخطاب السياسي للمسؤول الحزبي كان مملاً جداً ولا يمكن مقارنته بالأناقة التي عثرت عليها، مثلاً، في قصة "ديزي ميلر" لجيمس. هذا الكتاب أسرني. وقعت في هوى بطلته غير العادية لدرجة أنني بعد سنوات عديدة، عنونت واحدة من قصصي الأولى، المكتوبة في روسيا، "ديزي"، وهو اسم شائع لدينا أيضاً في كوبا.

في رأيي، من الواضح أن المسؤولين عن سياسات النشر خلال السنوات الأولى للثورة الكوبية كان لديهم تركيز على الجوانب الإنسانية؛ لم يكن الأمر عقائدياً جداً. أعتقد أنهم نظروا إلى الأعمال الأساسية للكتَّاب الأمريكيين باعتبارها جزءاً لا غنى عنه من التكوين الثقافي لأي شخص متعلم. ولا أظن أن أي مكتبة تم إخلاؤها من كتب أمريكا الشمالية. لم يكن هذا ما حدث، مثلاً، في مكتبة مدرستي، وقد درست في مدرسة لينين الشهيرة، حيث اعتاد المسؤولون الحزبيون الكبار إلحاق أطفالهم.

رغم أن هذا قد يبدو متسماً بالتناقض، فإن دور النشر المملوكة للدولة هي ما غرس بداخلي شغفي بالأدب، وبالأخص أدب أمريكا الشمالية. كانت هذه الدور تفضل الأدب الذي يتناول موضوعات اجتماعية؛ مُنِحت الأولوية للكُتَّاب الذين أتموا بطريقة ما عمل وزارة الحقيقة الكوبية[i]، أو للكتب التي تدين، على نحو راقٍ وفني، الجار الشمالي الكبير. نتيجة لذلك، كانت هناك دائماً عناوين أمريكية شمالية بين الكتب التي اعتادت أمي، وهي قارئة نهمة بدورها، أن تشتريها أسبوعياً. ذات أسبوع قد يكون الكتاب هو "بدم بارد" لترومان كابوتي، الذي لا بد أنه نُشِر ليُظهِر مناخ الجريمة الدائم في الولايات المتحدة. في الأسبوع التالي "تأملات في عين ذهبية" لكارسن ماكالرز، كتاب بلا نقد واضح (لا أظن) واعتقدت، ولا أزال، أنه حافل بالغموض. ثم قد تُحضِر أمي للمنزل عملاً تراجيدياً أمريكياً لثيودور دريزر، كان قد نُشِر ليبين الوجه القبيح للرأسمالية. كان من السهل العثور على "إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك؟" لهوراس ماكوي، أو "الغاب" لآبتون سينكلير. لا زلت أتذكر بوضوح  صورة من الغاب جعلت الطفل الصغير الذي كنته يرتجف: ثمة أواني طهو عملاقة يلقي فيها عمال متعبون دوماً، أحشاء الحيوانات المقتولة في مذابح شيكاغو، وذات يوم، يتعثر واحد منهم، ويقع في أحد هذه الأواني، لكنهم يتركونه فيه، لأن منطق رأس المال البائس يمنعهم من رمي كل هذا اللحم. ثم، في مطعم بشيكاغو، يقضم زبون شيئاً صلباً بأنيابه. يخرجه من فمه ويفحصه في الضوء. يتضح أنه زر يخص العامل المطبوخ. 

الكتب الأخرى التي كانت تُوزَّع على نطاق واسع، هي تلك التي تناولت استغلال السود في الولايات المتحدة. قرأتها باهتمام خاص. على سبيل المثال، قرأت "الولد الأسود" لريتشارد رايت عندما كنت صغيراً جداً، وقد صورت التمييز ضد السود في الجنوب بطريقة حيوية جداً. لا أزال أتذكر مقاطع كاملة من الكتاب وأسماء العديد من شخصياته: شورتي، الصديق البدين الكلبي لريتشارد والذي يسمح للناس بضرب مؤخرته مقابل نقود معدنية؛ السيد فولك، الأيرلندي الذي يسمح لريتشارد باستخدام كارت المكتبة الخاص به للحصول على  كتب لا يستطيع ولد أسود الحصول عليها؛ السيدة روس الحنون وابنتها بيس التي ساعدت الصغير ريتشارد كثيراً.

 

قرأت أيضاً الرواية "الاشتراكية" "طريق التبغ" لإرسكين كولدويل. قرأت ثلاثية أمريكا و"تحول مانهاتن" لجون دوس باسوس. قرأت "واينزبيرج – أوهايو" لشيروود أندرسون. قرأت سينكلير لويس وإرنست هيمنجواي، بالطبع. كان هيمنجواي مثال كاتب أمريكا الشمالية الطيب: محباً لكوبا (صورها بشغف، كما قيل لنا، في العجوز والبحر) ومؤيداً للجمهورية الأسبانية (لمن تدق الأجراس). في كوبا كان هيمنجواي معبوداً.

قرأت الكثير من أعمال وليم فوكنر. أتذكر بوجه خاص، ما بعد ظهيرة كان عليّ فيها أن أكون مع والدي في واحدة من زياراته للطبيب، لكن بدلاً من هذا، بقيت في السيارة أقرأ. كنت أقرأ طبعة قبيحة من "بينما أرقد محتضرة" صادرة عن دار النشر التابعة للدولة، وقرب النهاية، بينما تحمل العائلة جثة الأم وعليها عبور النهر بها وهو في حالة فيضان، اختبرت حالة انغماس صوتي، نوعاً من الهلوسة السمعية: كان باستطاعتي سماع هدير الريح، الماء وهو يخبط محور عجلات العربة، حفيف أغصان الشجرة. حين دق أبي أخيراً على شباك السيارة لينبهني لعودته، انتابني إحساس بأن الصمت ران على كل شيء حولي لأن أحداث الرواية توقفت عن الحدوث.

قد يمثِّل هذا مفارقة ساخرة، لكن الكتب التي مُنِعت أكثر من غيرها، كانت الكتب الخفيفة الرخيصة. "البيست سيلرز"، و"البالب فيكشن": بكلمات أخرى، كتب بإمكانها أن تكون مصدراً للتسلية. وكنتيجة لهذا، أصبحت حيازة أحدهم لكتب كهذه تعبيراً عن المكانة، حتى عندما يتعلق الأمر بشيء بلا طعم كرواية "مطار" لأرثر هايلي. أطفال الوزراء والدبلوماسيين الكوبيين تجولوا في مدرستي بهذه الكتب لأنها كانت بالضبط نوعية الكتب التي يشتريها الدبلوماسيون والوزراء الكوبيون خلال رحلاتهم للخارج. استطعت قراءة معظم الكتب الأعلى مبيعاً في هذه الفترة: "الفك المفترس" لبيتر بينشلي، "ملف الأوديسا" لفريدريك فورسيث، و العمل الأكثر ابتكاراً "بابيلون" لهنري شاريير. 

 

للأسف، هذا التحرر المبكر في ما يخص الثقافة في كوبا، والذي استفدت منه كقارئ خلال طفولتي ومراهقتي، استحال اليوم إلى انعدام مرونة، ورؤية أكثر دوجماتية لا تسمح بغزل ثقافي مماثل. رؤية القارئ الكوبي اليوم لأدب أمريكا الشمالية تنتمي، بكثير من التفاؤل، إلى السبعينيات. هي، بكلمات أخرى، متخلفة بمقدار ثلاثين عاماً. في كوبا لم يُنشَر أي عمل لدون ديليلو، توماس بينشون، أو توني موريسون. أبعاد هامة من الحياة في الولايات المتحدة، والحال هكذا، تم تجاهلها: على الأخص، التنوع العرقي الهائل في الولايات المتحدة، صعود الكتاب المنتمين للأقليات، الأمر الذي وسم المشهد الأدبي الأمريكي خلال العقود الأخيرة، وثورة المثليين.

مع هذا، لو أن تاريخي مع الكتب الأمريكية التي قرأتها طفلاً في كوبا كاسترو يوضح شيئاً ما، فإنه يوضح قدرة الأدب على دحض الصور النمطية، وإلغاء حتى أكثر الحملات الاتهامية وبرامج البروباغندا فظاعة. الأدب يقرب الأمم من بعضها البعض أفضل من آلاف الخُطب ذات النوايا الحسنة.

بالنسبة لي، الأدب ترياق مضاد للبروباغندا – ترياق أعانني على اكتساب فكرة أكثر إنسانية عن دولة قٌدِمت كعدونا الرئيسي، الذي يتجسس دائماً علينا ومتأهب لغزونا عسكرياً. ما الصورة التي وصلتني، بعد كل هذه الكتب، عن الأمريكيين؟ كانوا مهووسين عند فوكنر، وإقليميين بسطاء عند لويس، وعصابيين عند سالينجر، ووحيدين على نحو مروع عند كارفر. شعب – كيف أقولها؟ - من البشر، عاديون بشكل تام.

 

خوسيه مانويل بييرتو روائي ومترجم كوبي مقيم بنيويورك، ويدرِّس الأدب في جامعة سيتون هول.

 نُشِرت في "بستان الكتب" بجريدة أخبار الأدب، نوفمبر 2015



[i] هنا إشارة ساخرة إلى "وزارة الحقيقة" في رواية "1984" لجورج أورويل


Wednesday, November 10, 2021

جوان ديديون واللعب بمفردات الجحيم: كاتبة الخواء الإنساني

 




منصورة عز الدين




هناك قراءات تخرج منها كما دخلتها، كأنك مررت سريعاً علي سطح زلق لا قدرة له علي خدشك أو التأثير فيك، قد تقضي وقتاً مسلياً أو تبتسم إذ تصادف فكرة طريفة أو فقرة مضحكة، لكن لا شيء أكثر من هذا. في المقابل هناك أعمال تؤلمك وتوقظ جراحاً بداخلك ظننتها التأمتْ. ومنها هذه الرواية الجارحة المؤذية رغم براعتها أو بالأحري بسببها.


لا أقصد هنا، أن هذا شرط للجودة الأدبية، لكن اقترانه بها وبأن يكون العمل المقصود كاشفاً للنفس البشرية الملغزة، يضاعف من قيمته، كما يجعله أشبه بمرآة يرى فيها القارئ ذاته وحياته، مهما اختلفت تجربته الحياتية عن شخصيات العمل المقروء.


الرواية المقصودة هي"كيفما اتفق" للكاتبة والصحفية الأمريكية جوان ديديون التي تكاد تكون غير معروفة عربياً رغم كونها من أهم الكاتبات الأمريكيات، كما أنها أقرب إلى أيقونة ثقافية منذ الستينيات، حين لُقِبَّت بملكة الصحافة الجديدة، وحتى الآن. امرأة شكَّل حضورها الطاغي، وشهرتها القريبة من شهرة نجمات السينما، أسطورة وقع في حبائلها حتى من سعوا إلى تفكيكها وتفنيدها، ومنهم الكاتبة لِيلي أنولك، التي في محاولتها للاعتراض على ما سمَّته بتطويب ديديون كـ"قديسة" و"أم مقدسة"، وصفتها بـ"ملاك الموت" لمدينة لوس أنجلوس، فهي بحسب أنولك من اختلقت –مع صديقها وتوأمها الروحي والفني أندي وارهول- لوس أنجلوس، وهي وحدها من خرَّب المدينة. يبدو الأمر كأن ثمة ما يغري بالمبالغة والأسطرة في كل ما يخص حياة ديديون؛ أو المرأة القادرة على التحديق في وجه الموت وشرح وتحليل ألم الفقدان بهدوء أعصاب ووضوح ذهن لافت، كما فعلت في كتابيها "عام التفكير السحري" و"ليالٍ زرقاء".


بالعودة إلى "كيفما اتفق"، التي صدرت طبعتها العربية مؤخرًا عن دار المدى بترجمة أنجزها المترجم عماد العتيلي، أقول إن كون شخصيات الرواية تنتمي إلى عالم هوليوود المخملي وغارقة في الجنس والحفلات وتعاطي المخدرات، وكون أحداثها تدور في أواخر الستينيات، لا يحدان من قدرتها علي الوصول إلي قارئ اليوم أياً كان مكان عيشه أو نمط حياته.


لقد سبق للروائي البريطاني مارتن أميس أن وَصَف جوان ديديون بـ"شاعرة الخواء الكاليفورني الهائل"، وفي هذه الرواية، يبدو الخواء ماثلاً في كل ركن، ومطلاً بنظرته الميتة من كل شق في حائط الذات الآيلة للسقوط.

تبدأ الرواية ببطلتها الممثلة ماريا وايث في مصحة للأمراض النفسية. "قد يتساءل بعض الناس: "لماذا يُعَدُّ إياجو شريرًا؟ ولكنني لا أتساءل أبداً." هكذا تباغت ماريا قارئ الرواية بسؤال بينما تعلن أنها كفت عن الأسئلة. "أنا على ما أنا عليه الآن. فإن البحث عن "الأسباب" مضنٍ ولا معنى له. غير أن تتبع الأسباب هو الشغل الشاغل للناس هنا، ولذلك لا ينفكون عن طرح الأسئلة عليّ. ماريا، نعم أم لا..." تضيف لاحقاً.

في القراءة الأولى، لن ينتبه القارئ في الغالب إلى لماذا اختارت ديديون إياجو من بين كل الشخصيات الفنية الشهيرة المرتبطة بالشر؟ لكن السؤال سيقفز إلي ذهنه حين ينتهي من القراءة، ويجد نفسه في حاجة لإعادة القراءة مجدداً، ويري اسم إياجو، فيفهم أن السؤال لم يكن اعتباطياً، وأن مفتاحاً رئيسياً لقراءة العمل مخفي في أكثر الأماكن وضوحاً: الجملة الافتتاحية. أصفه بالمخفي لأن الرابط بين إياجو الغيور في مسرحية "عُطيل" وبين شخصية هيلين لن يظهر إلّا قرب نهاية الرواية اللاهثة سريعة الإيقاع.

سرعة الإيقاع تنبع من الدقة اللغوية وموهبة الإيجاز والصرامة في حذف كل ما هو زائد من كلمات أو أفكار أو أحداث، تنبع أيضاً من البناء الذي اختارته الكاتبة وتوفيقها في اختيار "الراوي" المناسب للعمل. هناك أربعة رواة. ماريا التي تفتتح الحكي ويتمحور حولها العمل، وهيلين "صديقتها"، والمخرج السينمائي كارتر زوج/ طليق ماريا (كلاهما يقدم إضاءة، لشخصية ماريا، مغايرة لتصورها هي عن ذاتها)، ثم الراوي بضمير الغائب المهيمن علي معظم الرواية والمتبني بشكل ما لرؤية ماريا وتصوراتها، وقرب نهاية الرواية، يتبادل الراوي الحكي مع ماريا، عبر مقاطع (فصول؟) قصيرة جداً وكاشفة للشخصية والأحداث التي ظلت غائمة ومغبشة لفترة.

يزيد التشويق أيضاً من إحساسنا بسرعة الإيقاع، فمنذ البداية تجذبنا شخصية ماريا وايث الخارجة على المألوف كما تجذبنا الحكمة في الفصل الأول المحكي بلسانها، ويزداد فضولنا لمعرفة كيف انتهى بها الحال في مصحة للأمراض النفسية؟ ولماذا فشل زواجها؟ والأهم من هو بي زي وكيف مات؟

الفصل القصير التالي المروي بلسان هيلين سوف يزيد التشويق بدوره، إذ تخبرنا هيلين أن ماريا قتلت بي زي! وسنعرف لاحقاً أن بي زي كان منتجاً سينمائيا شهيراً وزوجاً لهيلين.

"التقيت بماريا اليوم. أو بالأحرى حاولتُ أن ألتقيها.. بذلتُ ما في وسعي. غير أنّي لم أحاول كُرمى لماريا، بل كُرمى لكارتر، أو بي زي، أو كُرمى لصداقتنا القديمة أو ما شابه، المهم أني لم أحاول كُرمى لماريا. "لا أريد أن أتحدث معك، يا هيلين" كان هذا آخر ما قالته لي. "لا أعني صدَّك أنت تحديداً يا هيلين، ولكنني لا أريد أن أتحدث إلى أي أحد". ولذلك، لم أحاول كُرمى لها. وعلى أي حال، لم أرَها. قطعت الطريق كله بمركبتي كي أراها، وأمضيتُ النهار كله في تجهيز صندوق من أجلها: فيه كتب جديدة، ووشاح حريري كانت قد نسيته عند الشاطئ، ذات يوم (فقد كانت مهملة، على الرغم من أنها ابتاعته بثلاثين دولاراً. لطالما كانت مهملة ولا مبالية)". هكذا تبدأ هيلين الفصل الخاص بها، والذي نخرج منه بصورة غير مشرقة عن ماريا، فهي وفقاً لهيلين: شخصية مهملة، لا تطيق نجاح زوجها كارتر (ورغم هذا من ضمن الأشياء التي حملتها هيلين لها وهي تزورها في المصحة النفسية صفحة من النيويورك تايمز بها نبذة عن كارتر!) ماريا أيضاً قاتلة وفقاً لهيلين، ولا يزداد وزنها أبداً! وتبرر هيلين هذا بأنه صفة أصيلة في النساء النرجسيات. "السيدة لانغ تستريح الآن." هذا ما تقوله الممرضة لهيلين كمبرر لعدم قدرة (رغبة؟) ماريا علي رؤيتها، وما تعلق عليه هيلين بأنها هي من تحتاج إلى الراحة لا ماريا، إذ تقول: "لا أعني أنني أحمل ماريا مسؤولية المصائب التي حاقت بي، على الرغم من أنني أنا التي عضتها العذابات، ولذلك أنا التي يجب أن أكون مستريحة، لا هي. أنا التي خسرت بي زي جرّاء إهمال ماريا ولامبالاتها وأنانيتها.. ولكنني أحملها المسؤولية فقط بخصوص كارتر. فقد أوشكت على قتله أيضاً. لطالما كانت فتاة أنانية، ولطالما كان اهتمامها منصبّاً على ذاتها، أولاً وأخيراً ودائماً".

النبرة بالغة التحامل ضد "صديقة" قديمة من المفترض أنها مريضة تبدو لافتة ولا يبررها ادعاء هيلين أن ماريا قتلت بي زي، لأن هيلين تبدو مهتمة بكارتر طليق ماريا أكثر من اهتمامها بزوجها الراحل، لكننا لن ندرك الخلفيات سوي مع نهاية العمل، وتنجح ديديون في تدعيم حس الغموض هذا دون تكلف أو مبالغة.

جانب آخر من شخصية ماريا يقدمه الفصل الثالث القصير المروي بلسان الزوج/ الطليق كارتر. كمخرج سينمائي يستدعي كارتر ماريا عبر بضعة مشاهد، فالصورة البصرية هي الحاضرة بقوة في المقطع المروي على لسانه وتظهر ماريا فيه كشخصية غير مستقرة نفسياً توتر الآخرين وتذهلهم. فهي، وفقاً لكارتر: "لم تفهم قط معنى الصداقة، ولا الحوار، ولا أدب التواصل الاجتماعي. لدى ماريا مشكلة حقيقية في التواصل مع كل الذين لا تضاجعهم".

في أحد المشاهد التي يستدعيها كارتر تتفوه ماريا بتعليق يكذِّب ما يقوله، ينظر الجالسون إلى الطاولة معهما إليها ثم بعيداً عنها، مذهولين غير مرتاحين: شيء ما في الطريقة المتوترة ليديها علي طرف الطاولة، جعل تجاوز الأمر صعباً. وحده بي زي ظل محدقاً بها.

تفاصيل كثيرة تغمز لنا، منذ البداية، بأن بي زي يختلف عن الآخرين، هو الغائب الحاضر، ودائماً سيكون هناك خيط خفي يربطه بماريا، ماريا التي سيطلب منها، في النهاية، أن تنام قابضةً على يده فيما يبدأ رحلته نحو العدم أو الأبد.

"أنا وأنتِ ندرك أمراً ما. لأننا أدركنا أن لا شيء في الحياة يستحق." هذا ما يجمعهما وفقاً له، وما يعزز اختلافهما عن الآخرين، لكن هذا الاختلاف لا يعني بالضرورة أن المؤلفة تنظر إلي ماريا وبي زي كشخصيات جيدة في مقابل شخصيات أخرى شريرة، فهذا لا يعنيها. كل الشخصيات غارقة في جحيم رمزي وكلها تقترب من مفهوم البطل- الضد، الفارق أن ماريا وبي زي مدركان للخواء المحيط بهما، أنهما يعرفان شيئاً، لأنهما كانا هناك حيث اللا شيء! أما كارتر وهيلين فـ"ما يزالان يتساءلان. أنا كنت أتساءل في الماضي، وبتُّ أعرف الإجابة: لا شيء. الإجابة هي: لا شيء". تقول ماريا، ثم تنهي الرواية بصوتها "أنا أعرف أمراً يجهله كارتر، وتجهله هيلين، وربما تجهلونه أنتم أيضاً. أنا أعرف معنى اللا شيء، وسأظل صامدة في هذه اللعبة! ولماذا تستمرين في اللَّعِب، قد يسأل بي زي. وأنا أجيب: ولِمَ لا"!

هي هنا لا تميِّز نفسها عن كارتر وهيلين فقط، بل تعلن اختلافها عن بي زي نفسه، فمع معرفتهما لمعنى الخواء والعدم قرر هو مقاطعة لعبة الحياة، في حين قررت هي الاستمرار في اللعبة حتي ولو بعقل خامل وإحساس مُخدَّر، حتي ولو كانت تجهل طبيعة اللعبة باعترافها في الفصل الأول: "ربما كانت بين يدي كل الأوراق الرابحة، ولكن.. ماذا كانت اللعبة؟"

 ويعود سبب رغبتها في الاستمرار إلى غريزة الأمومة وتعلقها بطفلتها كيت ذات السنوات الأربع المريضة والمحتجزة في مستشفى ما، وحلمها بأن تتمكن يوماً من الاستقلال بحياتها مع صغيرتها. ويمكن القول إن غريزة الأمومة، أو بالأحرى حلم الأمومة المجهض، هو المحرك الخفي لأفعال ماريا والمسبب لأزمتها.

التفاصيل التي تشتغل عليها جوان ديديون -في المجمل- خارجة من قلب الجحيم الأرضي، جحيم النفس البشرية، حيث الظلمة والشر، وشخصياتها الفنية تعاني من شتى أنواع المآسي، إلّا أنها تنجح بمهارة لافتة في كتابة هذا كأنه تفاصيل حياة يومية، لا تستحق التوقف أمامها أو الشكوي منها. يحضرني هنا الجزء الذي تحكي فيه ماريا عن الميتة البشعة لأمها التي انحرفت سيارتها على الطريق السريع في صحراء نيفادا ومزقت الذئاب جثتها لدرجة صعّبت التعرف عليها، والطريقة العادية التي تقبلت بها قرار بي زي الأخير وأمسكت بيده وعادت للنوم، كما طلب منها، رغم إدراكها أنها حين تستيقظ سيكون النائم بجوارها ويده في يدها جثة هامدة.

لا يعنيني هنا حكي أحداث الرواية، فالفكرة ليست في الأحداث ولا حتى في الموضوع، بل في تقنية الكتابة، والمستويات المتعددة للحكي، بحيث تكتشف مع كل قراءة جديدة بعداً مخفياً وتفصيلة تدعم تأويلك الأولي أو تسخر منه. هذا تحديداً ما لا ينقص من إعجابك بالعمل حين تقرأه مرة ثانية وثالثة، بعد أن عرفت مصائر شخصياته، وما لا يقلل من حس التشويق الذي يغلفه ويجعله صامداً أمام قراءات تالية باحثة عن الثغرات والنواقص، فتمسك جوان ديديون بالبعد عن المباشرة وانحيازها إلي الإيحاء لا الكشف، يسمان العمل بحيوية فائقة.
والأهم، هنا، ليس ما دونته ديديون، بل ما حذفته. ليس ما أوضحته وأعلنته علي لسان شخوصها أو الراوي بضمير الغائب، بل ما تركته مغبشاً غائماً. ربما لهذا تحمل شخصية بي زي جاذبية مضاعفة رغم هامشيتها مقارنة بالشخصيات الثلاث الأخرى، فمساحة المخفي والمحذوف في ما يخصها أكبر. المثير للاهتمام أن ديديون اعترفت في حوار لباريس ريفيو بأنها لم تدرك أن بي زي شخصية مهمة في الرواية إلا خلال الأسابيع الأخيرة من العمل عليها، وحينها بدأت في العودة للشخصية والاشتغال عليها أكثر.

يمكن قراءة الرواية، في مستوى من مستوياتها، باعتبارها نقدًا غير مباشر لـ"الحلم الأمريكي" وكشفًا للخواء الكامن فيه، هذا إذا انطلقنا في تأويلنا من أكثر الشخصيات هامشية: هاري وايث الأب المقامر لماريا وأمها وصديقهما بيني أوستن، فالثلاثة يحلمون بالثراء السريع ويخيب مسعاهم المرة تلو الأخرى. وهاري وايث هو من غرس في عقل ابنته فكرة أن العالم لعبة قمار، وعليها اللعب كيفما اتفق ووفق ما ترميه الحياة في وجهها من أوراق.





دقة ديديون وقدرتها علي حذف كل ما هو زائد يذكران بإرنست هيمنجواي، لذا لن يفاجئنا كثيراً اعترافها بتأثرها بهيمنجواي، لكن عاملاً آخر لعب دوره في هذه المسألة، كما سبق ومثَّل تأثيراً علي أسلوب هيمنجواي ذاته، وأقصد بهذا العمل بالصحافة، ولا يجب أن يندهش القارئ حين يعرف أن العمل في مجلات مثل "فوج"، "لايف"، "فانيتي فير" تحديداً أثر تأثيراً مضاعفاً في حالة ديديون. في حوارها لباريس ريفيو، تسألها المحاوِرة عن كيف تأثر أسلوبها بالعمل كمحررة في "فوج" حيث تعلمت الدقة اللغوية من آلين تالمي. فتجيب ديديون: "اعتدت دخول مكتبها يومياً ومعي ثمانية أسطر من نسخة أو تعليق أو شيء ما. واعتادت الجلوس هناك وتصحيحها بقلم رصاص وهي غاضبة جداً بسبب كلمات زائدة أو أفعال غير ملائمة. لا أحد لديه الوقت لفعل هذا إلّا في مجلة مثل "فوج". لا أحد، لا معلم. لقد تعلمت وحاولت أن أفعل هذا بدوري، لكن ليس لدي كل هذا الوقت، وكذلك التلاميذ ليس لديهم وقت. في تعليق من ثمانية أسطر، كل شيء يجب أن يكون له وظيفة، كل كلمة، كل فاصلة. سينتهي به الأمر ليكون تعليقاً في "فوج"، لكن بشروطه الخاصة يجب أن يتسم بالكمال."


براعة ديديون مع اللغة، وتمرسها في تفجير أقصى طاقاتها، تدعمهما عين قوية الملاحظة وعقلية قناص. بكلمات قليلة يمكنها رسم شخصية فنية لا تُنسى في أعمالها الإبداعية أو إضاءة شخصية واقعية ممسكة بجوهرها في كتاباتها الصحفية. في "الألبوم الأبيض" مثلاً، وضمن فقرة عابرة تصف جيم موريسون نجم فرقة "The Doors" فتشعر بأنك تفهم شخصيته للمرة الأولى رغم قراءتك لمقالات عديدة عنه ومشاهدتك لفيلم مستلهم من قصة حياته. في الكتاب نفسه صكت ديديون الوصف الأشهر لهذه الفرقة: نورمان ميلّرز الموسيقى! وصف ارتبط بأفراد الفرقة وصار كافياً لتقديم قراءة كاملة في أفكارهم وكلمات أغانيهم وعلاقة الجنس بالموت فيها.


عن الفرق بين كتابة الرواية وكتاباتها غير الروائية تقول صاحبة "عام التفكير السحري" (دار المدى 2020): "في الكتابة غير الروائية، عنصر الاكتشاف لا يحدث أثناء الكتابة نفسها، بل خلال البحث وجمع المادة. هذا يجعل كتابة نص صحفي مسألة مملة. أنت تعرف مسبقاً عن أي شيء هو."

وقد لفت انتباهي، اختلاف مهم بين كتابات ديديون الإبداعية وكتاباتها الصحفية، في المقالات والريبورتاجات الصحفية التي قرأتها، ديديون حاضرة دوماً، كتابتها تحمل لمسة اعترافية وتسعى بشكل ما للبوح، حتي لو كانت تكتب عن حادثة اغتيال بشعة، أو قضية رأي عام، في هذه الرواية وفي رواية "كتاب صلاة جماعية"، أجدها ليست معنية بالبوح، بل مولعة بالإخفاء والإعجام، وإثارة الخيال وفتح الباب للتخمينات، وحتي لو لجأت ماريا مثلاً للبوح في بعض الأجزاء المروية علي لسانها، فهو بوح يخص الشخصية الفنية، كما أنه مُتحَكَّم به تماماً، وكل جملة منه، تضيف الكثير إلي العمل بحيث لا يمكن الاستغناء عنها.

لكن سواء كان الأمر يخص كتابات ديديون الإبداعية أو مقالاتها الصحفية، فالثابت هو ولعها بحكي القصص، فكما كتبت في "الألبوم الأبيض"، الحكي وسيلة بقاء: "نحكي قصصاً لأنفسنا كي نعيش. الأميرة محبوسة في القلعة. رجل الحلوى سيقود الأطفال إلى داخل البحر. المرأة العارية على الإفريز الخارجي لنافذة الدور السادس عشر ضحية لا مبالاة، أو المرأة العارية شخصية استعراضية، وسيكون مثيراً معرفة أيهما هي. نخبر أنفسنا أنه سيشكل بعض الفرق إذا ما كانت المرأة العارية على وشك ارتكاب خطيئة مميتة، أو على وشك تسجيل احتجاج سياسي، أو على وشك أن تكون رؤية أريستوفانية، تعاد إلي الشرط الإنساني بواسطة رجل إطفاء بثياب قِس يظهر في النافذة خلفها مباشرة، الرجل المبتسم لعدسة كاميرا التليفزيون. نبحث عن العظة في الانتحار، عن الدرس الاجتماعي أو الأخلاقي في اغتيال خمسة أفراد. نحن نؤوِّل ما نراه، نختار الأكثر ملاءمة من بين اختيارات متعددة. نعيش بالكامل، خاصة إذا كنا كتاباً، بفرض سطر سردي على صور مختلفة، بـ"الأفكار" التي تعلمنا عبرها تجميد الصور المتحولة والمتلاحقة التي هي خبرتنا الواقعية."

نُشِر المقال قبل سنوات قليلة في "أخبار الأدب"، وأعيد نشره هنا، مع بعض التعديلات، بمناسبة صدور الطبعة العربية للرواية مؤخرًا عن دار المدى، بترجمة أنجزها المترجم عماد العتيلي، والفقرات المقتبسة من الرواية من هذه الترجمة.

Friday, September 17, 2021

منصورة عز الدين: ليست الرواية فقط أن تحكي حكاية

 


28  فبراير 2018

حوار: مصطفى ديب





تتنقّل الكاتبة المصريّة منصورة عز الدين بين القصّة القصيرة والرواية، إذ افتتحت تجربتها الأدبيّة بمجموعة قصصية بعنوان "ضوء مهتز" 2001. ثمّ أصدرت في 2004 روايتها الأولى "متاهة مريم"، تبعتها في 2009 رواية جديدة بعنوان "وراء الفردوس". في 2013 عادت الكاتبة من جديد إلى القصّة القصيرة بمجموعة تحت عنوان "نحو الجنون". تلاها روايتين "جبل الزمرد" في 4201، و"أخيلة الظل" في 2017. لتصدر مجموعتها القصصية الثالثة في 2018 بعنوان ."مأوى الغياب"

  • بدايةً، صدرت قبل أسابيع قليلة مجموعتك القصصيِّة الثالثة "مأوى الغياب" هل من الممكن أن تحدّثينا عنها؟

كتبت أول قصة في المجموعة في 2013، وكانت وقتها جزءًا من مسوّدة روايتي "أخيلة الظل"، إذ شكلت فصلًا محوريًا فيها، ثمّ في مرحلة لاحقة انتبهت إلى أنّ نبرة القصّة/ الفصل مختلفة عن عالم ونبرة "أخيلة الظل"، فالأولى أكثر غرائبيّة وتكاد تشكّل عالمًا قائمًا بذاته، لذا فقد استبعدتها من الرواية واشتغلت عليها لأجد نفسي أنتهي منها لأبدأ نصًا آخر يتماس معها، ومن نصّ لآخر عرفت أنّ ما أكتبه متتالية قصصية، كلّ قصّة فيها يمكن قراءتها وحدها، لكن القصص كلها تكمل بعضها بعضًا. كنت مشغولة في الوقت نفسه بكتابة رواية جديدة بعد "أخيلة الظل" لكن عالم "مأوى الغياب" كان أشدّ إلحاحًا، فقمت بتأجيل الرواية مؤقتًا، لأتفرّغ للمتتالية القصصية التي تتكون من 16 قصّة قصيرة تتوسّل الغرائبيّة لمحاولة فهم واقعنا بكلّ عنفه وجنونه، وتتساءل عن مفهوم الواقع وعلاقته بالحلم والأوهام والهواجس.

  • هل من سّر وراء كون الشعر أو القصّة القصيرة مفتاحًا لمن يدخلون عالم الكتابة الروائيّة؟

لا أستطيع الحديث عن الآخرين، في حالتي كان الشِّعر أقرب إلى "فِطرة الكتابة"، لو جاز استخدام مصطلح مماثل، كنت صغيرة ومولعة بالشِّعر وأنظر إليه باعتباره فنًا سحريًا، لذا بدأت في كتابته وأنا طفلة، كانت محاولات ساذجة لم تستمر طويلًا، ثمّ عدت إليه في أثناء دراستي الجامعيّة، غير أنّني لم أجرؤ على نشر أي من القصائد التي كتبتها في تلك الفترة، انغمست في كتابة القصّة القصيرة في الوقت نفسه تقريبًا، لأنّها كانت ملائمة أكثر لنمط حياتي الفوضوي وغير المستقر خلال سنواتي الأولى في القاهرة. من جهة أخرى كنت متهيبة من كتابة الرواية، إذ لطالما شعرت نحوها بالرهبة والوجل. فالرواية وفق تصوري ليست فقط أن تحكي حكاية جيدة كانت أم غير ذلك، لكن بالأساس عليها تقديم رؤية مغايرة للعالم وزاوية جديدة للنظر إليه. يُفترض بالفن كلّه أن يفعل هذا بطبيعة الحال، غير أن الرواية مقارنةً بالقصّة والشِّعر، تتطلب الدأب والمثابرة بدرجة أكبر. في أثناء كتابتها ينشغل الكاتب بإضافة تفصيلة إلى أخرى وينسج بصبر دون دراية بالشكل الكلّي الذي سيبدو عليه عمله إلّا حين يقارب على الانتهاء منه، كل هذا يتطلب وقتًا ودرجة ما من الاستقرار والتفرّغ بل وربما النضج.

·        في هذا السياق، أين تجد منصورة عز الدين نفسها حقًّا، في القصّة القصيرة أم الرواية؟ ولماذا؟

لو سألتني السؤال نفسه قبل سنوات قليلة لأجبتك: "في الرواية" بلا تردّد، ولبرّرت هذا بأنّ الرواية تمنحني حريّة أكبر في التخييل وتشييد عوالم أوسع، إضافة إلى أنّها تُشبع حاجتي إلى التركيب وتشييد بنيات معقّدة. أمّا الآن فلا أنشغل كثيرًا بالتصنيف، أو للدقّة أحب اللعب في المسافات البينيّة بين القصّة والرواية، بمعنى أن أكتب رواية تنهل من جماليات القصّة القصيرة كـ"أخيلة الظل"، وأكتب مجموعة قصصية تستفيد من سمات الرواية ومزاجها كـ"مأوى الغياب".

  • عدد كبير من الروائيين كانوا صحافيين. ترى ما الذي تأخذه الصحافة من الأدب؟ وما الذي تعطيه؟

الصحافة مهنة متطلبة جدًا تحتاج ممن يعمل بها أن يعيش ويفكر كصحافي طوال الوقت، والكتابة الإبداعيّة أكثر تطلبًا، من هنا قد يصير الجمع بين المهنتين مأزقًا للكثيرين واستنزافًا لوقتهم. وفي حالات كثيرة قد تؤثّر لغة الصحافة وإيقاعها بالسلب على أسلوب الكاتب، لكن من جهة أخرى تثري الصحافة حياة الكاتب وتزوده بتجارب حياتيّة غنيّة، خاصّة إذا عمل في أقسام بعينها كأن يكون مراسلًا حربيًا مثلًا أو صحافي تحقيقات أو حوادث، ما سوف يؤثر إيجابيًا على عوالمه الإبداعيّة. أتذكّر هنا أسماء مثل إرنست هيمنجواي، غابرييل غارسيا ماركيز وجورج أورويل، هذا بخلاف أقطاب مدرسة "الصحافة الجديدة" الأمريكية من روائيين مهمّين مثل توماس وولف، جوان ديديون، ترومان كابوتي ونورمان ميلر ممن كانت كتاباتهم الصحفيّة أقرب إلى النصوص الإبداعيّة. في حالتي تخصصت منذ البداية في الصحافة الأدبيّة، وأشرف منذ 2003 على قسم الكتب بجريدة "أخبار الأدب"، إضافة إلى تحرير ملحق شهري متخصص في مراجعات الكتب وقضايا النشر بداية منذ 2005، لذا لا أشعر بوجود مسافة كبيرة بين عملي في الصحافة وبين كوني كاتبة، ساعدني أيضًا أنّني منذ اللحظة الأولى أعرف أولوياتي: الكتابة الإبداعيّة هي ما يجعل لحياتي معنى وما لا يمكنني العيش بدونه. كنت أخجل من قول هذا في الماضي، لأنّ الجملة قد تبدو مبتذلة وأقرب إلى الكليشيه، لكنني لم أعد أكترث بهكذا تحفظات، يكفي أنها (أي الجملة) تعبّر بصدق عنّي وعن علاقتي بالكتابة.

  • لكلّ كاتب أعمال أو تجارب تركت فيه تأثيرًا كبيرًا. ما هي الأعمال التي تركت تأثيرًا على منصورة عز الدين؟

من الصعب الإجابة عن سؤال مماثل لأنّ معظم ما نقرأ يؤثّر فينا بصورة أو بأخرى، لكن بشكل عام أرى أنّ أكثر ما يؤثر فينا هو ما نقرؤه في مراحل التكوين الأولى، إذ يساهم في تشكيل وجداننا وذائقتنا، حتّى لو تغير تقييمنا له لاحقًا. في حالتي مثًلا تأثّرت مخيلتي -منذ سنواتي الأولى- بالقصص القرآني؛ بقصص الأنبياء ومعجزاتهم، تأثّرت كذلك بالسير الشعبيّة العربيّة خاصّةً سيرة بني هلال، وبالحواديت الشعبيّة الحافلة بكلّ ما هو عجيب ومفارق للواقع؛ حواديت اكتشفت لاحقًا أنّ كثيرًا منها له علاقة بـ"ألف ليلة وليلة"، والليالي -بالمناسبة- من أكثر الأعمال التي أستمتع بقراءتها. أحب أيضًا الشِّعر العربي القديم خاصّة طرفة بن العبد والمتنبّي والمعرّي. من الأدب الحديث، كان الأدب الروسي رفيقًا دائمًا وأقدّر الأدب المكتوب بالألمانيّة وكتابًا مثل الأرجنتينيّ بورخيس ومواطنه كورتاثر وكافكا وزيبالد وآخرين.

  • نرى اليوم أنّ الرواية هي أكثر الأجناس الأدبيّة مواكبةً واقترابًا من الأحداث العربيّة الراهنة، إلى أي مدى تعتقدين أنّ ذلك صحيحًا؟

شخصيًا لا أميل إلى مثل هذه المقارنات بين الأنواع الأدبيّة، لأنّها تعطي إيحاءً بأنّنا أمام منافسة بين فرق رياضيّة أو كأنّنا في مباراة ينبغي أن تنتهي بفائز وخاسر، وهذا بعيد عن تصوري للأدب. قد أقرأ بيتًا من قصيدة فأجده أقدر على الوصول لجوهر ما نعايشه حاليًا من رواية ضخمة يطمح كاتبها إلى رصد الواقع وتوثيق مجرياته. لا يعني هذا أنّني أنتصر للشِّعر على حساب الرواية، فقط أقول إن الجودة الفنيّة هي معيار الحكم على العمل الفني شعرًا كان أم قصّة أم رواية. من ناحية أخرى، ما لا أستطيع إنكاره هو أنّ الرواية تحظى حاليًا بمقروئيّة أوسع وبإقبال كبير عليها من جانب القرّاء، ومؤكّد أنّ هذا يرجع لأنّها تلبّي للقرّاء المقبلين عليها حاجة لا تقدر الأنواع الأخرى على تلبيتها، وقد يكون هذا بسبب قدرتها على احتواء كل الأنواع الأدبيّة الأخرى داخلها، كما أن بإمكانها التقاطع مع التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع، الخ.

  • هل تنعكس رؤيتك للواقع على خيالك في الكتابة؟

مؤكّد أن رؤيتي للواقع تنعكس على خيالي في الكتابة وتشكّله، فكل كاتب يكتب انطلاقًا من كيفية رؤيته للواقع ومن الزاوية التي ينظر منها إليه، والتي قد تختلف من مرحلة لأخرى. حتّى أكثر التفاصيل غرائبيّة في كتابتي تكون وثيقة الصّلة بالواقع ونابعة منه، أو على الأقل تكون تفصيلة واقعيّة بحتة هي البذرة التي نمت منها قصّة أو رواية لا تّتضح علاقتها بأصلها بالضرورة.

·        تبدأ روايتك "أخيلة الظلّ" في مدينة براغ، وتدور جلّ أحداثها هناك؛ لماذا براغ؟

لأنّ زيارتي لبراغ (في 2011 ثم في 2015) كان ما ألهمني لكتابة الرواية. هناك أماكن ملهمة ومحفزة على الكتابة، منها بالنسبة لي براغ في حالة "أخيلة الظل"، وثاكاتيكاس المكسيكية في حالة "جبل الزمرد"، لو سألتني لماذا يحدث هذا مع مدن دون أخرى، لن أجد إجابة مقنعة. صحيح أنّني أحببت هاتين المدينتين منذ اللحظة الأولى لي في كل منهما، لكنني أيضًا أحببت فيينا وبرلين وهايدلبرغ ولندن ومدنًا أخرى بدرجة مساوية، دون أن ينتج عن هذا كتابات مستلهمة من زياراتي لهذه المدن.

  • تُشاركين القارئ السرد في هذه الرواية، لماذا؟ وما الذي من الممكن أن تضيفه لعبة سرديّة كهذه للنصّ؟

ولِمَ لا؟ كل شيء مباح في الإبداع بشرط الإجادة. في "أخيلة الظل" لا تتوقّف اللعبة السرديّة عند إشراك القارئ في السرد، بل تمتدّ للعب على الفروق والتماسات بين القصّة والرواية كجنسين أدبيين مختلفين، وأيضًا محاولة الإيحاء بأنّ الرواية تقع في مرحلة ما قبل الكتابة؛ في أحلام اليقظة والتخيلات والهواجس. "أخيلة الظل" هي بالأساس لعبة افتراضات وتخيلات، وتواطؤ القارئ وتسامحه شرطان أساسيان في لعبة مماثلة، من هنا جاءت فكرة إبراز دوره. وبوجه عام، فالمهم في الكتابة الروائيّة ليس الحدوتة في حد ذاتها إنما كيفية حكيها وتقطيعها والوصل بين عناصرها، وأتمنى أن أكون قد وُفقت في هذا.

  • حصلت روايتك "جبل الزمرّد" على جائزة أفضل رواية عربيّة لسنة 2014. هل تشعرين أن الجوائز تؤثر على أعمال الكاتب من ناحية الامتثال لمتطلباتها؟ وهل باتت الجوائز اليوم معيارًا أدبيًا؟

نالت "جبل الزمرد" جائزة أفضل رواية عربيّة من معرض الشّارقة للكتاب، و"نحو الجنون" جائزة أفضل مجموعة قصصيّة من معرض القاهرة للكتاب 2014، ووصلت "وراء الفردوس" إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربيّة 2010، وساهم هذا في إلقاء الضوء على هذه الأعمال، ومع هذا أقول إنّ الجوائز ليست ولا يُفترض بها أن تكون معيارًا أدبيًا للحكم على الأعمال الأدبيّة والمفاضلة بينها، روايات عديدة عظيمة لم تفز بجوائز، بل حتى رحل كتّابها دون أن ينالوا التقدير اللائق بهم خلال حياتهم، وفي المقابل فاز بأهم الجوائز كتّاب لا وجود لهم ولا لأعمالهم اليوم. لا يعني هذا أنّ الجوائز سيئة بالمطلق، إنّما فقط أنّها ليست معيارًا أدبيًا ناجحًا أو مناسبًا. في ما يخصّ جزئيّة امتثال البعض لمتطلبات الجوائز، أرى أنّ هذا الأمر وارد جدًا لكنه ليس عيبًا في فكرة الجوائز نفسها بقدر ما هو عيب في من يساوم على رؤاه وقناعاته الفنيّة بحثًا عن مقروئيّة أوسع أو ترجمة أو جوائز. الأفضل لكرامة الكتابة ألّا يؤثّر عليها أي شيء خارج متطلباتها وشروطها الفنيّة، وتاريخ الأدب يخبرنا أنّ من تركوا علامات باقية، كتبوا -في معظمهم- بمعزل عن ضغوط خارجيّة خاصة بالتلقّي أو الرغبة في النجاح بمفهومه السطحي.

تركت نكسة 1967 تأثيرًا كبيرًا على الرواية المصريّة، من ناحية الموضوعات أو من الناحية الفنيّة على السواء. إلى أي حد تركت الأحداث التي مرّت بها مصر منذ 2011 آثارًا في الرواية المصرية، من خلال متابعتك؟

ثورة 25 يناير حدث مزلزل من وجهة نظري، وتأثيراته الكامنة أعمق بكثير مما يبدو على السطح حتى الآن. روايات عديدة اقتربت من الثورة سواء حاولت رصدها أو جعلت منها خلفية  لأحداثها، غير أنّ آثار 25 يناير لن تظهر كاملة إلّا مستقبلًا، وبالتالي فمن المبكر جدًا محاولة رصد تأثيرات ما حدث منذ 2011 حتّى هذه اللحظة. أخشى فقط أن تطغى البكائيات والنوستالجيا وجلد الذات، فلا سبيل للفهم ولا للكتابة الجيدة في ظل الاستسلام للأحكام المسبقة، ثم أن البكائيات قاتلة الثورات، وعدوة الفهم والتمثُّل.

 *نقلًا عن ألترا صوت