28 فبراير 2018
حوار: مصطفى ديب
تتنقّل الكاتبة المصريّة منصورة عز الدين بين القصّة القصيرة والرواية، إذ افتتحت تجربتها الأدبيّة بمجموعة
قصصية بعنوان "ضوء مهتز" 2001. ثمّ أصدرت في 2004 روايتها الأولى "متاهة مريم"، تبعتها في 2009 رواية جديدة بعنوان
"وراء الفردوس". في 2013 عادت الكاتبة من جديد إلى القصّة القصيرة بمجموعة تحت عنوان
"نحو الجنون". تلاها روايتين "جبل الزمرد" في 4201، و"أخيلة الظل" في 2017. لتصدر مجموعتها القصصية الثالثة في 2018 بعنوان ."مأوى الغياب"
- بدايةً، صدرت قبل أسابيع قليلة مجموعتك القصصيِّة الثالثة
"مأوى الغياب" هل من الممكن أن تحدّثينا عنها؟
كتبت أول قصة في المجموعة في 2013، وكانت
وقتها جزءًا من مسوّدة روايتي "أخيلة الظل"، إذ شكلت فصلًا محوريًا
فيها، ثمّ في مرحلة لاحقة انتبهت إلى أنّ نبرة القصّة/ الفصل مختلفة عن عالم ونبرة
"أخيلة الظل"، فالأولى أكثر غرائبيّة وتكاد تشكّل عالمًا قائمًا بذاته،
لذا فقد استبعدتها من الرواية واشتغلت عليها لأجد نفسي أنتهي منها لأبدأ نصًا آخر
يتماس معها، ومن نصّ لآخر عرفت أنّ ما أكتبه متتالية قصصية، كلّ قصّة فيها يمكن
قراءتها وحدها، لكن القصص كلها تكمل بعضها بعضًا. كنت مشغولة في الوقت نفسه بكتابة
رواية جديدة بعد "أخيلة الظل" لكن عالم "مأوى الغياب" كان أشدّ
إلحاحًا، فقمت بتأجيل الرواية مؤقتًا، لأتفرّغ للمتتالية القصصية التي تتكون من 16
قصّة قصيرة تتوسّل الغرائبيّة لمحاولة فهم واقعنا بكلّ عنفه وجنونه، وتتساءل عن
مفهوم الواقع وعلاقته بالحلم والأوهام والهواجس.
- هل من سّر وراء كون الشعر أو القصّة القصيرة مفتاحًا لمن يدخلون
عالم الكتابة الروائيّة؟
لا أستطيع الحديث عن الآخرين، في حالتي كان
الشِّعر أقرب إلى "فِطرة الكتابة"، لو جاز استخدام مصطلح مماثل، كنت
صغيرة ومولعة بالشِّعر وأنظر إليه باعتباره فنًا سحريًا، لذا بدأت في كتابته وأنا
طفلة، كانت محاولات ساذجة لم تستمر طويلًا، ثمّ عدت إليه في أثناء دراستي
الجامعيّة، غير أنّني لم أجرؤ على نشر أي من القصائد التي كتبتها في تلك الفترة،
انغمست في كتابة القصّة القصيرة في الوقت نفسه تقريبًا، لأنّها كانت ملائمة أكثر
لنمط حياتي الفوضوي وغير المستقر خلال سنواتي الأولى في القاهرة. من جهة أخرى كنت
متهيبة من كتابة الرواية، إذ لطالما شعرت نحوها بالرهبة والوجل. فالرواية وفق
تصوري ليست فقط أن تحكي حكاية جيدة كانت أم غير ذلك، لكن بالأساس عليها تقديم رؤية
مغايرة للعالم وزاوية جديدة للنظر إليه. يُفترض بالفن كلّه أن يفعل هذا بطبيعة
الحال، غير أن الرواية مقارنةً بالقصّة والشِّعر، تتطلب الدأب والمثابرة بدرجة
أكبر. في أثناء كتابتها ينشغل الكاتب بإضافة تفصيلة إلى أخرى وينسج بصبر دون دراية
بالشكل الكلّي الذي سيبدو عليه عمله إلّا حين يقارب على الانتهاء منه، كل هذا
يتطلب وقتًا ودرجة ما من الاستقرار والتفرّغ بل وربما النضج.
·
في هذا السياق، أين تجد منصورة عز الدين نفسها حقًّا، في القصّة
القصيرة أم الرواية؟ ولماذا؟
لو سألتني السؤال نفسه قبل سنوات قليلة
لأجبتك: "في الرواية" بلا تردّد، ولبرّرت هذا بأنّ الرواية تمنحني حريّة
أكبر في التخييل وتشييد عوالم أوسع، إضافة إلى أنّها تُشبع حاجتي إلى التركيب
وتشييد بنيات معقّدة. أمّا الآن فلا أنشغل كثيرًا بالتصنيف، أو للدقّة أحب اللعب
في المسافات البينيّة بين القصّة والرواية، بمعنى أن أكتب رواية تنهل من جماليات
القصّة القصيرة كـ"أخيلة الظل"، وأكتب مجموعة قصصية تستفيد من سمات الرواية
ومزاجها كـ"مأوى الغياب".
- عدد كبير من الروائيين كانوا صحافيين. ترى ما الذي تأخذه الصحافة
من الأدب؟ وما الذي تعطيه؟
الصحافة مهنة متطلبة جدًا تحتاج ممن يعمل
بها أن يعيش ويفكر كصحافي طوال الوقت، والكتابة الإبداعيّة أكثر تطلبًا، من هنا قد
يصير الجمع بين المهنتين مأزقًا للكثيرين واستنزافًا لوقتهم. وفي حالات كثيرة قد
تؤثّر لغة الصحافة وإيقاعها بالسلب على أسلوب الكاتب، لكن من جهة أخرى تثري
الصحافة حياة الكاتب وتزوده بتجارب حياتيّة غنيّة، خاصّة إذا عمل في أقسام بعينها
كأن يكون مراسلًا حربيًا مثلًا أو صحافي تحقيقات أو حوادث، ما سوف يؤثر
إيجابيًا على عوالمه الإبداعيّة. أتذكّر هنا أسماء مثل إرنست هيمنجواي، غابرييل
غارسيا ماركيز وجورج أورويل، هذا بخلاف أقطاب مدرسة "الصحافة الجديدة"
الأمريكية من روائيين مهمّين مثل توماس وولف، جوان ديديون، ترومان كابوتي ونورمان ميلر
ممن كانت كتاباتهم الصحفيّة أقرب إلى النصوص الإبداعيّة. في حالتي تخصصت منذ
البداية في الصحافة الأدبيّة، وأشرف منذ 2003 على قسم الكتب بجريدة "أخبار
الأدب"، إضافة إلى تحرير ملحق شهري متخصص في مراجعات الكتب وقضايا النشر
بداية منذ 2005، لذا لا أشعر بوجود مسافة كبيرة بين عملي في الصحافة وبين كوني
كاتبة، ساعدني أيضًا أنّني منذ اللحظة الأولى أعرف أولوياتي: الكتابة الإبداعيّة
هي ما يجعل لحياتي معنى وما لا يمكنني العيش بدونه. كنت أخجل من قول هذا في
الماضي، لأنّ الجملة قد تبدو مبتذلة وأقرب إلى الكليشيه، لكنني لم أعد أكترث بهكذا
تحفظات، يكفي أنها (أي الجملة) تعبّر بصدق عنّي وعن علاقتي بالكتابة.
- لكلّ كاتب أعمال أو تجارب تركت فيه تأثيرًا كبيرًا. ما هي
الأعمال التي تركت تأثيرًا على منصورة عز الدين؟
من الصعب الإجابة عن سؤال مماثل لأنّ معظم
ما نقرأ يؤثّر فينا بصورة أو بأخرى، لكن بشكل عام أرى أنّ أكثر ما يؤثر فينا هو ما
نقرؤه في مراحل التكوين الأولى، إذ يساهم في تشكيل وجداننا وذائقتنا، حتّى لو تغير
تقييمنا له لاحقًا. في حالتي مثًلا تأثّرت مخيلتي -منذ سنواتي الأولى- بالقصص
القرآني؛ بقصص الأنبياء ومعجزاتهم، تأثّرت كذلك بالسير الشعبيّة العربيّة خاصّةً
سيرة بني هلال، وبالحواديت الشعبيّة الحافلة بكلّ ما هو عجيب ومفارق للواقع؛
حواديت اكتشفت لاحقًا أنّ كثيرًا منها له علاقة بـ"ألف ليلة وليلة"،
والليالي -بالمناسبة- من أكثر الأعمال التي أستمتع بقراءتها. أحب أيضًا الشِّعر
العربي القديم خاصّة طرفة بن العبد والمتنبّي والمعرّي. من الأدب الحديث، كان
الأدب الروسي رفيقًا دائمًا وأقدّر الأدب المكتوب بالألمانيّة وكتابًا مثل
الأرجنتينيّ بورخيس ومواطنه كورتاثر وكافكا وزيبالد وآخرين.
- نرى اليوم أنّ الرواية هي أكثر الأجناس الأدبيّة مواكبةً
واقترابًا من الأحداث العربيّة الراهنة، إلى أي مدى تعتقدين أنّ ذلك صحيحًا؟
شخصيًا لا أميل إلى مثل هذه المقارنات بين
الأنواع الأدبيّة، لأنّها تعطي إيحاءً بأنّنا أمام منافسة بين فرق رياضيّة أو
كأنّنا في مباراة ينبغي أن تنتهي بفائز وخاسر، وهذا بعيد عن تصوري للأدب. قد أقرأ
بيتًا من قصيدة فأجده أقدر على الوصول لجوهر ما نعايشه حاليًا من رواية ضخمة يطمح
كاتبها إلى رصد الواقع وتوثيق مجرياته. لا يعني هذا أنّني أنتصر للشِّعر على حساب
الرواية، فقط أقول إن الجودة الفنيّة هي معيار الحكم على العمل الفني شعرًا كان أم
قصّة أم رواية. من ناحية أخرى، ما لا أستطيع إنكاره هو أنّ الرواية تحظى حاليًا
بمقروئيّة أوسع وبإقبال كبير عليها من جانب القرّاء، ومؤكّد أنّ هذا يرجع لأنّها
تلبّي للقرّاء المقبلين عليها حاجة لا تقدر الأنواع الأخرى على تلبيتها، وقد يكون
هذا بسبب قدرتها على احتواء كل الأنواع الأدبيّة الأخرى داخلها، كما أن بإمكانها
التقاطع مع التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع، الخ.
- هل تنعكس رؤيتك للواقع على خيالك في الكتابة؟
مؤكّد أن رؤيتي للواقع تنعكس على خيالي في
الكتابة وتشكّله، فكل كاتب يكتب انطلاقًا من كيفية رؤيته للواقع ومن الزاوية التي
ينظر منها إليه، والتي قد تختلف من مرحلة لأخرى. حتّى أكثر التفاصيل غرائبيّة في
كتابتي تكون وثيقة الصّلة بالواقع ونابعة منه، أو على الأقل تكون تفصيلة واقعيّة
بحتة هي البذرة التي نمت منها قصّة أو رواية لا تّتضح علاقتها بأصلها بالضرورة.
·
تبدأ روايتك "أخيلة الظلّ" في مدينة براغ، وتدور جلّ
أحداثها هناك؛ لماذا براغ؟
لأنّ زيارتي لبراغ (في 2011 ثم في 2015)
كان ما ألهمني لكتابة الرواية. هناك أماكن ملهمة ومحفزة على الكتابة، منها بالنسبة
لي براغ في حالة "أخيلة الظل"، وثاكاتيكاس المكسيكية في حالة
"جبل الزمرد"، لو سألتني لماذا يحدث هذا مع مدن دون أخرى، لن أجد إجابة
مقنعة. صحيح أنّني أحببت هاتين المدينتين منذ اللحظة الأولى لي في كل منهما، لكنني
أيضًا أحببت فيينا وبرلين وهايدلبرغ ولندن ومدنًا أخرى بدرجة مساوية، دون أن
ينتج عن هذا كتابات مستلهمة من زياراتي لهذه المدن.
- تُشاركين القارئ السرد في هذه الرواية، لماذا؟ وما الذي من
الممكن أن تضيفه لعبة سرديّة كهذه للنصّ؟
ولِمَ لا؟ كل شيء مباح في الإبداع بشرط
الإجادة. في "أخيلة الظل" لا تتوقّف اللعبة السرديّة عند إشراك القارئ
في السرد، بل تمتدّ للعب على الفروق والتماسات بين القصّة والرواية كجنسين أدبيين
مختلفين، وأيضًا محاولة الإيحاء بأنّ الرواية تقع في مرحلة ما قبل الكتابة؛ في
أحلام اليقظة والتخيلات والهواجس. "أخيلة الظل" هي بالأساس لعبة
افتراضات وتخيلات، وتواطؤ القارئ وتسامحه شرطان أساسيان في لعبة مماثلة، من هنا
جاءت فكرة إبراز دوره. وبوجه عام، فالمهم في الكتابة الروائيّة ليس الحدوتة في حد
ذاتها إنما كيفية حكيها وتقطيعها والوصل بين عناصرها، وأتمنى أن أكون قد وُفقت في
هذا.
- حصلت روايتك "جبل الزمرّد" على جائزة أفضل رواية
عربيّة لسنة 2014. هل تشعرين أن الجوائز تؤثر على أعمال الكاتب من ناحية
الامتثال لمتطلباتها؟ وهل باتت الجوائز اليوم معيارًا أدبيًا؟
نالت "جبل الزمرد" جائزة أفضل
رواية عربيّة من معرض الشّارقة للكتاب، و"نحو الجنون" جائزة أفضل مجموعة
قصصيّة من معرض القاهرة للكتاب 2014، ووصلت "وراء الفردوس" إلى القائمة
القصيرة لجائزة البوكر العربيّة 2010، وساهم هذا في إلقاء الضوء على هذه الأعمال،
ومع هذا أقول إنّ الجوائز ليست ولا يُفترض بها أن تكون معيارًا أدبيًا للحكم على
الأعمال الأدبيّة والمفاضلة بينها، روايات عديدة عظيمة لم تفز بجوائز، بل حتى رحل
كتّابها دون أن ينالوا التقدير اللائق بهم خلال حياتهم، وفي المقابل فاز بأهم الجوائز
كتّاب لا وجود لهم ولا لأعمالهم اليوم. لا يعني هذا أنّ الجوائز سيئة بالمطلق،
إنّما فقط أنّها ليست معيارًا أدبيًا ناجحًا أو مناسبًا. في ما يخصّ جزئيّة امتثال
البعض لمتطلبات الجوائز، أرى أنّ هذا الأمر وارد جدًا لكنه ليس عيبًا في فكرة
الجوائز نفسها بقدر ما هو عيب في من يساوم على رؤاه وقناعاته الفنيّة بحثًا عن
مقروئيّة أوسع أو ترجمة أو جوائز. الأفضل لكرامة الكتابة ألّا يؤثّر عليها أي شيء
خارج متطلباتها وشروطها الفنيّة، وتاريخ الأدب يخبرنا أنّ من تركوا علامات باقية،
كتبوا -في معظمهم- بمعزل عن ضغوط خارجيّة خاصة بالتلقّي أو الرغبة في النجاح
بمفهومه السطحي.
تركت نكسة 1967 تأثيرًا كبيرًا على الرواية
المصريّة، من ناحية الموضوعات أو من الناحية الفنيّة على السواء. إلى أي حد تركت
الأحداث التي مرّت بها مصر منذ 2011 آثارًا في الرواية المصرية، من خلال متابعتك؟
ثورة 25 يناير حدث مزلزل من وجهة نظري، وتأثيراته الكامنة أعمق بكثير مما يبدو على
السطح حتى الآن. روايات عديدة اقتربت من الثورة سواء حاولت رصدها أو جعلت منها
خلفية لأحداثها، غير أنّ آثار 25 يناير لن تظهر كاملة إلّا مستقبلًا،
وبالتالي فمن المبكر جدًا محاولة رصد تأثيرات ما حدث منذ 2011 حتّى هذه اللحظة.
أخشى فقط أن تطغى البكائيات والنوستالجيا وجلد الذات، فلا سبيل للفهم ولا للكتابة
الجيدة في ظل الاستسلام للأحكام المسبقة، ثم أن البكائيات قاتلة الثورات، وعدوة
الفهم والتمثُّل.
*نقلًا عن ألترا صوت
معلومات جميلة !! لا أستطيع الانتظار إلى رسالتك التالية!
ReplyDeleteتعليق بواسطة: muhammad solehuddin
تحيات من اندونيسيا