إلى ميركو
كوفاتش
دانيلو كيش
ترجمة:
منصورة عز الدين
القصة التي أوشِك على حكيها، قصة وُلِدت
في الشك والحيرة، وتتسم فقط بسوء حظ (البعض يسميه حسن حظ) متمثل في كونها حقيقية:
لقد سُجِّلت بأيدي أناس شرفاء وشهود موثوقين. لكن كي تكون حقيقية بالطريقة التي
يحلم بها مؤلفها، كان عليها أن تُروَى بالرومانية أو المجرية أو الأوكرانية أو
الييدشية؛ أو بالأحرى، بمزيج من كل هذه اللغات.
ثم، بمنطق المصادفة وبسعادة غامضة عميقة
ولا واعية، تسري في وعي الراوي، سوف تومض أيضًا كلمة أو كلمتان روسيتان، الآن
واحدة رقيقة مثل [1]telyatina، الآن واحدة قاسية مثل kinjal
[2].
إذا استطاع الراوي، بناءً على هذا، أن
يبلغ اللحظة المخيفة بعيدة المنال لبابل، فإن التضرع الذليل والتوسل الفظيع لهانّا
كرزيزيفسكا سيتردد بالرومانية، بالبولندية، بالأوكرانية (كما لو كان موتها ناتجًا
فقط عن سوء فهم هائل ومُهلِك)، ثم ومباشرةً قبل حشرجة الموت والسَكينة النهائية،
سيتحول تشوشها إلى صلاة من أجل الموتى، منطوقة بالعبرية، لغة الكينونة والموت.
بطل إيجابي
بإمكان ميكشا (ولندعوه بهذا الاسم
مؤقتًا) خياطة زر في عشر ثوانٍ. أشعِل عودَ ثقاب واقبِض عليه بين أصابعك؛ في الوقت
الفاصل بين إشعالِه وبين حرقِه لأصابعك، سيكون ميكشا قد انتهى من خياطة زر في زي
رسمي لشُرْطيّ. لم يصدق ريب ميندِل، الذي كان ميكشا يعمل عنده متدربًا، عينيه. ضبط
وضع نظارته، أخرج عود ثقاب، وقال بالييدشية[3]:
"تعال، افعلها ثانية، يا سيد ميكسات."
ابتسم ريب ميندِل فيما يشاهده يؤدي
المهمة بمهارة مرة أخرى. ثم رمى عودَ الثقابِ فجأة من النافذة وبصق على أصابعه. قال
ميكشا، الذي كان قد انتهى بالفعل من تثبيت الزر في الزي الرسمي للسيد أنطونيسكوس،
بانتصار: "يا ريب ميندِل، عود ثقاب واحد في وسعه تفجير كل حقول النفط في بلويشت[4]،
فيما يتخيل المستقبل البعيد مضاءً بلهبٍ هائلٍ، بسرعة شدّ ريب ميندِل، بإصبعين لا
يزالان رطبين، الزر المثبت على الزي الرسمي، ولواه كما لو كان عنق دجاجة.
"سيد
ميكسات،" قال، "لو لم يكن لديك مثل هذه الأفكار الحمقاء، لأصبحت حِرَفيًا
ممتازًا. أَتعرف أن ما تحتويه حقولُ نفطِ بلويشت يُقدَّر بملايين الغالونات من
النفط الخام؟"
"سيكون
من الرائع أن تشتعل يا ريب ميندِل." قال ميكشا بغموض.
تجاوز ريب
ميندل في الذكاء
لم يصبح ميكشا حِرَفيًا معلمًا. لسنتين تاليتين ظل يخيط
الأزرار في محل ريب ميندِل، مستمعًا إلى منطقه التلمودي، ثم أُجبِر على الرحيل،
مطرودًا برفقة لعنة. ذات يوم من ربيع عام 1925 البارز، اشتكى ريب ميندل من اختفاء
واحدة من دجاجاته من سلالة كوشين[5].
"يا
ريب ميندِل" قال له ميكشا، "ابحث عن اللص بين اليهود."
استوعب ريب ميندل قوة الإهانة ولبعض
الوقت، لم يأتِ على ذِكر دجاجاته من سلالة كوشين، كان ميكشا صامتًا بدوره؛ في
انتظار أن يتغلب ريب ميندل على كبريائه.
تصارع العجوز مع نفسه، مضحيًا كل يوم
بدجاجة على مذبح غطرسته التلمودية. بعصا في يده، ظل مستيقظًا في قِن الدجاج حتى
الفجر، مُخِيفًا حيوان ظربان بعيدًا بأن ينبح مثل كلب. عند الفجر يسقط في النوم،
وتختفي دجاجة أخرى من قن الدجاج.
"فليعذبني
الصالح العظيم، هو الذي قال إن جميع الكائنات الحيّة تستحق عنايته ورحمته."
قال ريب ميندِل في اليوم التاسع،
"أَمِن الممكن أن تتساوى دجاجة كوشين واحدة؛ قيمتها خمسة تشيفرونيت على الأقل،
مع ظربان يسرق الفقراء ويبعث رائحته النتنة في كل مكان؟"
"لا
يا ريب ميندل"، قال ميكشا. "لا يمكن أن تُقارن دجاجة من سلالة كوشين،
قيمتها خمسة تشفرونيت على الأقل، بظربان نتن." لم يقل شيئًا آخر. انتظر أن
يدمر الظربان ما يمكنه تدميره، وأن يبرهن لريب ميندِل على أن لغوه التلمودي عن
المساواة بين كل مخلوقات الله، بلا قيمة إلى أن تتحقق العدالة على الأرض بوسائل دنيوية.
في اليوم الحادي عشر، وقف ريب ميندِل منهكًا
جراء يقظة مهدورة، بعينين متورمتين وحمراوين، وشعرٍ ملئ بالريش، أمام ميكشا وبدأ
يضرب صدره.
"ساعدني
يا سيد ميكسات!"
"حسنا
يا ريب ميندِل"، قال ميكشا. "نظِّف قفطانك وانزع الريش من شعرك. دع هذا
الأمر لي."
المصيدة
كانت المصيدة التي صنعها ميكشا اعتباطًا
نسخة بعيدة من الفخاخ التي اعتاد جده صنعها قبل زمن طويل في بوكوفينا: ذكرى مبهمة
ونوستالجية.
في ما عدا هذا، كانت صندوقًا بسيطًا
مصنوعًا من ألواح الزان، بغطاء يُفتَح من الخارج، لكن ليس من الداخل. كطُعْم
وُضِعت فيها بيضة تحمل بداخلها بالفعل (كما تأكد هو تمامًا) نُطفة دجاجة كوشين،
متعفنة كما لو أنها في كفن. في الصباح، بمجرد أن خطا في الفناء الخلفي، عرف ميكشا
أن الحيوان وقع في المصيدة: وصلت الرائحة الكريهة حتى البوابة.
مع ذلك، لم يكن ريب ميندِل في مرمى
البصر. منهكًا بسبب استيقاظه لفترات طويلة، استسلم لسلطان النوم والقَدَر. بيده
الريفية الثقيلة، ربت ميكشا على الدجاجة الوحيدة المتبقية لدى ريب ميندل، والتي
كانت متحجرة خوفًا، وتركها في الفناء الخلفي. ثم رفع الغطاء، الذي كان بأسنان من
مسامير مثنية، وفي جزء من الثانية ظهر الخطم الرطب للحيوان من بين الشق، أنزل
الغطاء بقبضته على نحو ليس بأقل مهارة، دفع سلكًا صدئًا في فتحتي أنف الظربان، ربط
مخالبه، وعلَّق الحيوان على عضادة الباب. رائحة فظيعة. أحدث شقًا حول العنق، مثل
قلادة قرمزية، ثم شقين إضافيين عند قاعدة المخالب. سالخًا الجلد حول العنق، أحدث
شقين آخرين، مثل فتحات الأزرار، من أجل أصابعه.
مستفيقًا بفعل صيحات الحيوان المذعورة،
أو بسبب كابوس، ظهر ريب ميندِل فجأة. قابضًا على أنفه بذيل قفطانه
المتجعد، حملق بعينين صادقتين ومحتقنتين بالدم في الكرة الدموية الحية المتدلية من
السلك والمتلوية على عضادة الباب. بعد أن مسح المدية على العشب، وقف ميكشا وقال:
"ريب ميندِل، لقد خلصتك من الظربان مرة وإلى الأبد."
عندما تحدث ريب ميندل أخيرًا، بدا صوته
أجش ورهيبًا مثل صوت نبي: "اغسل الدماء عن يديك ووجهك. وكن ملعونًا يا سيد
ميكسات!"
العواقب
سرعان ما اختبر ميكشا بنفسه معنى لعنة
ريب ميندِل، فـ"أسطوات" الحرفيين في مقاطعة أنطونوفكا كانوا يأخذون بتوصيات
ريب ميندِل ولا أحد غيره. على ذكر اسم ميكشا، سوف يهذي اليهودي محتدًا بالييديشية
والعبرية بالتبادل، ضاربًا صدره وشادًا شعره كما لو أن أحدهم قد ذكر "ديبوك"[6]. ولا
حتى ريب يوسيف، أسوأ حرفي على الإطلاق، وليس بين الخياطين فقط، سوف يبقيه عنده.
حين علم بلعنة ريب ميندِل، طرد ميكشا في غضون يومين لا غير.
في المقابل، أقسم ميكشا على أنه سوف
ينتقم لنفسه يومًا ما من الضرر الذي ألحقه التلموديون به.
إيميكه
في العام نفسه، تعرَّف ميكشا على إيميكه
معين، إي. ف. إيميكه، الذي قدم نفسه باعتباره طالب حقوق. هذا الإيميكه كان قد عمل
في السابق في شركة ديغتارييف كمراقب عمّال في المستودع، لكنه طُرِد، أو هكذا زعم،
بسبب نشاطاته غير القانونية. حاول ميكشا وإيميكه، متحدَين بالكراهية نفسها، كسب
عيشهما من المساعدة في حفلات الصيد التي نظمها كونت باغاريان في الريف المجاور، وخدمت
فيها بروليتاريا أنطونوفكا الرثة كبديل للكلاب. جالسَين في الظل الكثيف لأشجار الدردار، منصتَين إلى
النداء البعيد لأبواق الصيد والنباح
العصبي لكلاب الصيد، حَدَّث إيميكه ميكشا عن مستقبلٍ خالٍ من كلابِ الصيد
والنبلاء وأبواق الصيد.
حين دق نداء النصر، وجد ميكشا وقتًا بالكاد
كي يركض إلى حيث كان يسيل دم الخنزير البري، وحيث كان النبلاء، مصحوبين بالصراخ الجهنمي للكلاب، يتبادلون الأنخاب،
باستخدام كؤوس على هيئة أبواق منحنية ذات حواف فضية، يجب إفراغها بشربة واحدة.
خلال اجتماع سري ببيتٍ في ضاحية
أنطونوفكا، قَبِل هذا الإيميكه نفسه (الذي بعد شهرين كان يعمل مرة أخرى في مستودع شركة
ديغتاريف) ميكشا في منظمته. في الوقت عينه، طلب من ميكشا أن يعمل مجددًا، كي لا يثلم النصل الثوري فيه.
حالف الحظ ميكشا. ذات ظهيرة
أغسطسية، فيما كان راقدًا على حافة خندق،
بالقرب من طريق البريد على حدود أنطونوفكا، مَرَّ السيد[7]
بالتيسكو في عربته. "أَصحيح"، سأل، "أنك سلخت ظربانًا حيّا، وقلبت
جلده من الداخل إلى الخارج مثل قفاز؟
"صحيح."
أجاب ميكشا؛ "مع أن هذا ليس من شأنك، يا سيد بالتيسكو."
"بدءًا
من الغد، يمكنك العمل عندي"، قال السيد بالتيسكو، دون أن يكدره غرور ميكشا
على الإطلاق. "لكن يجب أن تعرف،" صاح فيه، "حِملاني من سلالة
أستراخان[8]."
"أي
شخص قادر على سلخ ظربان حي يعرف كيف يقلب جلد أستراخان من الداخل إلى الخارج دون
إحداث شق للإبهام."، صاح ميكشا بثقة في إثره.
المهمة
بنهاية سبتمبر، كان ميكشا عائدًا على
دراجته الهوائية من عزبة السيد بالتيسكو، تاجر الفراء في أنطونوفكا. فوق الغابة
ارتفعت سحابة حمراء، مُستبِقة رياح الخريف. على الطريق، انضم إليه إيميكه، على
دراجته الهوائية البراقة، ولفترة قادها بجواره دون النطق بكلمة واحدة. اتفق على
موعد مع ميكشا في المساء التالي، ثم انحرف بغتة في شارع جانبي، وصل ميكشا في
الساعة المقررة وقام بالإشارة المتفق عليها.
فتح إيميكه الباب، لكنه لم يضيء النور.
"سأكون موجزًا"، قال، "حددت موعدًا مع كل عضو على حدة في وقتٍ
ومكانٍ مختلفَين. وقد ظهر عملاء البوليس في مكانٍ واحدٍ من بين هذه الأمكنة."
توقف. "عند طاحونة باغاتيان"، قال أخيرًا. كان ميكشا صامتًا. انتظر كي
يسمع اسم الخائن.
"أنت
لا تسأل"، قال إيميكه، "مَن كنت سأقابله عند طاحونة باغاريان."
"أيًا
مَن يكن"، قال ميكشا باقتضاب، "لن أود أن أكون مكانه."
لم يخبره إيميكه باسم الخائن في تلك
الليلة. لم يخبره قط، كما لو أنه لم يُرِد لهذا الاسم الشائن أن يعبر شفتيه. أخبره
فقط أنه يعتمد على ولائه وكراهيته. وقال: "سوف ترى وجهَ الخائن، لكن لا تنخدع
بالمظاهر: وجه خائنٍ قد يتخذ مظهر استقامة عظيمة."
قضى ميكشا ليلة بلا نوم. حاول أن يخلع
القناعَ المميتَ للخائنِ على وجه كل رفيقٍ من رفاقه، لكن فيما ناسب القناع وجه كل
واحد منهم، لم يلائم أيًا منهم تمام الملاءمة.
مرتديًا مئزرًا مطاطيًا، وملطخًا بالدم
حتى كوعيه، قضى اليوم التالي بأكمله يذبح ويسلخ حِملان في مزرعة السيد بالتيسكو.
عند الغسق اغتسل في حوض المياه، ارتدى بذلته الداكنة، وثبَّت قرنفلة حمراء على طرف
قبعته، وركب دراجته الهوائية إلى حافة الغابة. واصل طريقه صوب الطاحونة سيرًا على
قدميه، عَبْر غابة الخريف، وهو يدوس على الأوراق السميكة التي تكتم الوقع الفظيع لخطواته.
وجه الخائن
مستندة
إلى السِّياج الصدئ بجوار قناة الطاحونة، تحدق في الدوامات الموحلة، كانت هانّا كرزيزيفسكا في
انتظاره. هناك بجانب طاحونة باغاريان
المهجورة المتعفنة، تشاهد المياه تحمل الأوراق الصفراء، ربما كانت تفكر في التعاقب
الكئيب للفصول. كان لديها نمش في وجهها (مرئي فقط بالكاد الآن في شفق المساء
الخريفي)، لكنه ليس بالضرورة علامة قابيل، قد تكون بقع الشمس هذه علامة عِرق
ولعنة، لكنها ليست علامة خيانة. لقد وصلت أنطونوفكا منذ شهر تقريبًا، بعد الفرار
من بولندا، حيث كان البوليس يلاحقها. قبل أن تبلغ الحدود، قضت خمس ساعات في البرد المثلج لخزان مياه بخط سكة حديد، ترفع
روحها المعنوية بقراءة أشعار برونيفسكي[9].
أعد لها الرفاق مجموعة من الأوراق المزورة، بعد تفحص ماضيها: كان سجلها لا تشوبه
شائبة (باستثناء لطخة خلفيتها
البورجوازية). في مونكاشيف[10]،
أعطت دروسًا في الألمانية، بلكنة ييدشية قوية، وقامت بدور حلقة الوصل بين خليتَي مونكاشيف
وأنطونوفكا، وقرأت كلارا زيتكين[11]
ولافارج[12].
تنفيذ المهمة
مقتديًا بمثال إيميكه، لم ينطق ميكشا
بكلمة. الحقيقة، كان لديه الحق في فعل هذا أكثر من إيميكه، لأنه رأى وجه الخائن.
هل فكر في تلك اللحظة في أن قناعَ الخائنٍ ملتصق مثل قناعِ موتٍ ذهبي على وجه هانّا
كرزيزيفسكا، الوجه المرشوش بنمش يشبه الرمل؟
تتحدث الوثائق التي نستخدمها اللغة
المريعة للحقائق، ولكلمة "روح" فيها، وقع تدنيس المقدسات. لكن ما يمكن
إقراره على نحو مؤكد هو التالي: في دور منفذ العدالة، وضع ميكشا –دون كلمة واحدة-
أصابعه القصيرة حول عنق الفتاة، وزاد ضغطها عليه حتى تراخى جسد هانّا كرزيزيفسكا.
توقف منفذ المهمة للحظة. بحسب القواعد
الفظيعة للجريمة، يجب التخلص من الجثة. منحنيًا على الفتاة، نظر حوله (ثمة فقط
الظلال المهدِّدة للأشجار في كل مكان)، قبض على ساقيها وجَرَّها صوب النهر.
ما جرى بعد هذا، بدءًا من اللحظة التي
دفع فيها الجسد في الماء، كان مثل حكاية قديمة يجب أن تنتصر العدالة فيها، ويستخدم
الموت حيلًا متنوعة كي يتجنب التضحية بالأطفال والعذارى. رأى ميكشا، في منتصف
الدوائر متحدة المركز، جسدَ الفتاةِ الغارقةِ وسمع بكاءها المهتاج، لم يكن وهمًا،
أو شبحًا كامنًا في الضمير السيئ للقتلة. كانت هانّا كرزيزيفسكا، تعبر الماء
المثلج بضربات مذعورة لكن واثقة، محررة نفسها من جاكيت جلد الغنم الثقيل ذي
الزنبقتين الحمراوين المطرزتين عند الخاصرة.
حملق القاتل (الذي لا ينبغي أن يُسمَّى
هكذا بعد) مصدومًا في الفتاة المتقدمة صوب الضفة الأخرى، وفي جاكيت جلد الغنم
المحمول بالتيار السريع للنهر. دام عدم التيقن لثوانٍ فقط. راكضًا في اتجاه مجرى
النهر، عبر ميكشا الجسر وبلغ الجهة الأخرى فيما أعلن عواء محرك بخاري وطنين قضبان
السكة الحديد عن وصول قطار من بعيد. رقدت الفتاة في الوحل، عند حافة النهر بين
السيقان كثيرة العُقَد لصفصاف الماء. بينما تتنفس بصعوبة، حاولت أن تنتصب، لكنها
كفت عن محاولة الفرار. فيما يغرز مدية بوكوفينا[13]
القصيرة الخاصة به ذات المقبض من خشب الورد، في صدرها، استطاع ميكشا، المتعرق
واللاهث، بالكاد فهم كلمة أو اثنتين من تدفق المقاطع المرتجفة والمكتومة والمختنقة
التي وصلته عبر الطين والدم والصراخ. كانت طعناته قوية الآن، مسددة بكراهية نابعة من تعالٍ أخلاقي منح ذراعه
قوة دفع.
خَلَل صوت عجلات القطار والدوي المكتوم
للقضبان الحديدية، بدأت الفتاة -قبل حشرجة الموت- تتحدث بالرومانية، بالبولندية،
بالأوكرانية، بالييديشية، كما لو كان موتها ناتجًا فقط عن سوء فهم هائل ومهلِك
متجذر في تبلبل الألسن البابلي.
لا تتلاعب الأوهام بمن رأوا ميتًا
يُبعَث حيًا، انتزع ميكشا الأحشاء من الجثة كي يمنعها من الصعود إلى السطح، ثم
دفعها في الماء.
الجسد مجهول
الهوية
اُكتشِفت الجثة بعد أسبوع، على بعد
حوالي سبعة أميال من مسرح الجريمة باتجاه مصب النهر. البيان الصادر عن الشرطة
التشيكية والمنشور في "بولكه جازيت"، يصف امرأة غارقة ذات أسنان جيدة
وشعر بني مائل للحمرة، عمرها بين الثامنة عشرة والعشرين، لم يلق استجابة. لم يتم التأكد
من هوية الضحية إذن، رغم جهود شرطة الثلاث دول المتجاورة لحل اللغز. ولأن هذا كان
وقتًا غير سهل من الشكوك المتبادلة والتجسس، فالاهتمام المماثل بهذه القضية يمكن
فهمه بسهولة. على عكس الصحف اليومية، التي حملت أيضًا الأخبار عن المرأة الغارقة،
قدمت "جريدة الشرطة" وصفًا تفصيليًا للجروح المسببة للوفاة. أوردت كل
الإصابات في مناطق الصدر والرقبة والظهر، مُحصية سبعًا وعشرين طعنة مُسدَّدة
بـ"آلة حادة، سكين في الغالب"، أحد المقالات وصف الطريقة التي خُلِّص
بها الجسد من أعضاء البطن، ومِن ثَمَّ احتمالية أن مرتكب الجريمة كان شخصًا ذا
"معرفة لا تقبل الشك بالتشريح".
على الرغم من بعض الشكوك، اقترحت المُلابسات
أنها جريمة جنسية، وهكذا بعد ستة شهور من التحقيقات غير المجدية، حُفِظَت[14]
القضية.
الصِلات
الغامضة
قرب نهاية نوفمبر من عام 1934، ألقى
بوليس أنطونوفكا القبض على إيميكه معين، إي. ف. إيميكه، الذي كان مشتبهًا به في
جريمة إضرام النار بمستودع شركة ديغتارييف. لامس الحادث سلسلة من الصِلات المحيرة والغامضة. في
لحظة نشوب النيران، التجأ إيميكه إلى حانة قرية مجاورة، وقادت آثار الحلقات
العزيزة لمسار دراجته الهوائية في طين الخريف السميك، الشرطة إليه.
أخذوا إيميكه المرتعب بعيدًا. ثم جاء
اعتراف عظيم وغير متوقع: لقد كان يبلغ البوليس عن الاجتماعات السياسية السرية
المنعقدة في قبو البيت رقم 5 بشارع يفيموفسكا. جنبًا إلى جنب مع عدد هائل مربك ومتناقض
من دوافع أفعاله، أعلن تعاطفه مع الأناركيين. لم يصدقه البوليس. لكونه قاسى بضعة
أيام أخرى من الحبس الانفرادي، وانهار بسبب الاستجواب، ذكر إيميكه قضية الفتاة
المقتولة.
كان هذا ليكون الدليل الأساسي في صالحه:
لأن أعضاء الخلية كانت لديهم أسباب مؤكدة للاشتباه في أن شخصًا ما بينهم كان مخبرًا،
اضطر هو إلى التضحية بأحد الأعضاء، هانّا كرزيزيفسكا، التي كانت قد انضمت للتنظيم
حديثًا، كانت الأكثر ملاءمة، لأسباب عديدة، لأن يُوشَى بها باعتبارها الخائنة.
بعدها قدَّم وصفًا تفصيليًا للفتاة
ولطريقة قتلها، إضافة إلى اسم القاتل.*
الاعتراف
حين وقَّعت تشيكوسلوفاكيا والاتحاد
السوفيتي معاهدة تعاون مشترك، ونحيتا بهذا جانبًا، في الوقت الحاضر، سؤال الحدود
الحساس دائمًا، انفتحت آفاق واسعة للتعاون المشترك بين شرطة البلدين.
سلَّم البوليس التشيكي أسماء العديد من السودِتين
الألمان[15]،
ثبت أنهم جواسيس للرايخ، بينما في المقابل أعطاهم السوفييت معلومات عن دزينات من
تشيكيين سابقين لا أهمية كبيرة لهم لدى المخابرات السوفييتية وآخرين ممن لم
يستطيعوا تبرير هروبهم إلى الاتحاد السوفييتي على أرضية إيديولوجية.
بين الفئة الأخيرة، كان هناك ميكسات
هانتيسكو معين؛ يُطلَق عليه ميكشا. وبما أن البوليس التشيكي اعتقد أنه قاتل (لم
يكن من الصعب إيجاد الصلة بين الفتاة المقتولة واختفاء هانتيسكو واعتراف إيميكيه)،
فقد طلبوا تسليمه لهم. حينئذ فقط انتبهت المخابرات السوفيتية إلى المواطن م. ل.
هانتيشي، الذي عمل في مزرعة "الحرية الحمراء" التابعة للدولة، حيث كان
عامل مذبح ممتازًا. أُعتقِل في نوفمبر 1936. بعد تسعة أشهر من الحبس الانفرادي
وتعذيب مريع، اُنتزِعت خلاله أسنانه كلها وكُسِرت عظمة الترقوة، طلب ميكشا في
النهاية رؤية المحقق.
أعطوه كرسيًا، وورقة خشنة وقلمًا. قالوا
له: "اكتب، وتوقف عن الطلبات!"
اعترف ميكشا، بوضوح تام، بأنه قبل أكثر
من سنتين، كواجب تجاه الحزب، قتل الخائنة والمحرضة هانّا كرزيزيفسكا، لكنه أنكر
بحزم أنه اغتصبها. بينما يكتب الاعتراف بيده الريفية الخشنة، كان مُراقَبًا من
حائط المكتب المتواضع للمحقق، من جانب بورتريه الشخص الذي ينبغي تصديقه[16].
تطلع ميكشا إلى البورتريه، إلى الوجه الودود المبتسم، الوجه الطيب لعجوز حكيم،
المشابه كثيرًا لوجه جده؛ تطلع إليه بتوسل، وتبجيل. بعد شهور من التجويع والضرب
والتعذيب، كانت هذه لحظة مشرقة في حياة ميكشا، مكتب المحقق الدافئ البهيج هذا، حيث
يوجد موقد روسي عتيق يطقطق مثل واحد كان في بيت ميكشا في بوكوفينا منذ زمن بعيد،
هذه السكينة التي تتجاوز صرخات وضربات المسجونين المكتومة، هذا البورتريه الذي
ابتسم له مثل أب. في نشوة إيمانية مفاجئة، كتب ميكشا اعترافه: أنه كان عميلًا للغستابو،
أنه عمل على تخريب الحكومة السوفيتية. في الوقت نفسه، حدَّد اثني عشر شريكًا في
المؤامرة العظمى. كانوا: آي. ف. توربُكور، مهندس؛ آي. ك. جولدمان، مراقب عمليات في
مصنع كيماويات في كاميروف؛ أ. ك. بيرليكي، مسّاح أراضي وسكرتير الحزب في مزرعة
تابعة للدولة؛ م. ف. كورلين، قاضي محكمة جزئية؛ ف. م. أولشيفسكي، رئيس مزرعة
كراسنويارسك التعاونية؛ س. آي. سولوفييفا، مدرسة تاريخ؛ إي. ف. كفابيلوفا،
بروفيسور؛ م. م. بيهفسكيم، قس؛ د. م. دوجاتكين، طبيب؛ ج. ك. ماريسكو، منضد حروف
طباعية؛ إي. م. ميندِل، أسطى خياط وم. ل. يوسيف، خياط.
حُكِم على كل منهم بعشرين عامًا. فجر
يوم 18 مايو 1938، في فناء سجن بيوتيرِك، مع ضجيج جرارات تجري في الخلفية، أُطلِق
الرصاص على القائد والمخطط المزعوم للمؤامرة، أ. ك. بيرليكي، برفقة 29 عضوًا من
أعضاء مؤامرة أخرى.
مات ميكسات هانتيسكو من البلاغرا في
معسكر سجن إيزفيستكوفو يوم رأس سنة 1941.
·
حمل إيميكه سر فعلته معه إلى قبره: في الليلة
التالية على اعترافه، زُعِم أنه شنق نفسه في زنزانته في ظروف غير معتادة،
قادت إلى شكوك مبررة مفادها أنه قد اُغتيل. بعض التحقيقات أقرّت بأن إيميكه كان
جاسوسًا ألمانيًا انهار؛ وفقًا لآخرين، كان فقط مخبرًا للبوليس تمت تصفيته
باعتباره شاهدًا خطيرًا. لا يجب استبعاد الفرضية المستندة إلى الحدس بأن إيميكه هام
في عشق الفتاة البولندية الجميلة، التي لم تستسلم له*.
* القصة من مجموعة "قبر لبوريس ديفيدوفيتش"، والترجمة نقلًا عن ترجمة دوشكا ميكيتش ميتشيل للعمل إلى الإنجليزية.
* دانيلو كيش (1935:1989)، أحد أهم الكتاب اليوغسلاف، ومن أهم كُتَّاب القرن العشرين، من أعماله: "ساعة رملية"، "قبر لبوريس ديفيدوفيتش"، "العود والندوب" و"موسوعة الموتى".
[1] لحم بقري.
[2] مدية.
[3] لغة يهود أوروبا.
[4] مدينة رومانية.
[5] سلالة من الدجاج الكبير المهجن في آسيا ويتميز بريش كثيف وريش على
الساقين.
[6] في الفولكلور اليهودي، ديبوك روح شريرة متجولة تستولي على جسد شخص حي
حتى تُطرَد منها.
[7] بالألمانية.
[8] سلالة من الغنم، موطنها الأصلي وسط آسيا تتسم
بنعومة صوفها وطوله، تعرف أيضًا باسم كاراكول.
[9] شاعر بولندي مشهور بكتاباته الثورية
والوطنية.
[10] مدينة أوكرانية.
[11] منظرة ماركسية ألمانية وناشطة شيوعية ومدافعة
عن حقوق المرأة.
[12] كاتب وصحفي ماركسي وعالم اجتماع فرنسي، كان
متزوجًا من لورا ابنة كارل ماركس.
[13] إقليم كان ينتمي لإمبراطورية آل هابسبورج ويتوزع حاليًا بين رومانيا
وأوكرانيا.
[14] باللاتينية في الأصل.
[15] تشيكيين من أصل ألماني.
[16] الإشارة هنا إلى جوزيف ستالين.
No comments:
Post a Comment