Tuesday, November 23, 2021

أن تقرأ الأدب الأمريكي في كوبا كاسترو

 


 

خوسيه مانويل بييرتو

ترجمة: منصورة عز الدين

 

هيمنجواي في كوبا، 1934



في ربيع 2007، كنت مدعواً لعشاء نظمته مجلة باريس ريفيو على شرف نورمان ميلر. كان الروائي قد نشر لتوه ما سيكون روايته الأخيرة، "القلعة في الغابة"، وكان إي إل دوكتورو سيجري حواراً معه ليلتها. ذاك المساء، حين دخل ميلر الغرفة، بِسَمته المميز جداً – لرجل كان يوماً صلباً وقوي البنية، ويتكئ الآن على عكازين بسبب تقدمه في العمر- تأثرت بعمق. عبرت له – وماذا غير هذا يُقال في ظرف مماثل؟ - عن إعجابي الشديد  بكتبه وعن أنني بدأت قراءتها عندما كنت صغيراً جداً، قبل سنوات عديدة.

بعد أيام قليلة، حكيت لصديق عن هذا اللقاء. "لكن، كيف؟" سألني مندهشاً، "هل قرأت نورمان ميلر في كوبا؟!" وأضاف، "أليس من المفترض أنه واحد من كتاب أمريكا الشمالية الممنوعين في الجزيرة؟"

تخيل صديقي، ربما لسبب وجيه، أنه لم يكن بالإمكان العثور على أدب أمريكي في كوبا، وأن هذا الأدب مُنِع لأن البلدين كانا في حالة حرب شبه معلنة، وعداء معلن بوضوح. بصبر أوضحت له أن هذا لم يحدث قط.

كُتب ميلر وكثيرين غيره من كتاب أمريكا الشمالية لم تكن ممنوعة في كوبا؛ في الحقيقة، كانت تُباع على نحو واسع. كانت متاحة في كل مكتبة؛ وبإمكان كل شخص قراءتها.                            

ومع هذا، دفعني تعليقه، للتفكير في تأثير أدب جارتنا علينا في كوبا. دفعني لتأمل الكيفية التي تغلبت بها هذه الكتب على الرقابة والظرف السياسي، وكان (أي التعليق) سبباً لأن أتذكر مساراً ثقافياً، وأن أشكل قائمة مختصرة بالكتب الأمريكية الشمالية التي قرأتها كطفل في كوبا إبان حكم كاسترو، متأملاً في كيفية تأثير هذا الأدب بقوة على تكويني الأدبي.

أتحدث عن كُتَّاب مثل إرنست هيمنجواي، وليم فوكنر، ج. د. سالينجر، كارسن ماكالرز، وليم سارويان، شيروود أندرسون، جيمس فينيمور كوبر، ثورنتون وايلدر وكثيرين غيرهم: قائمة لا نهائية. هذه الكتب كشفت لي، ولا تزال تكشف، كيف يمكن للأدب عبور الحدود، وفوق كل شيء، اختراق جدار العدائية.

كنت طفلاً خلال حرب فيتنام، حيث كانت الصحف تغص بالكاريكاتيرات المعادية لأمريكا بدرجة فظيعة. الولايات المتحدة كان تلام على كل مصيبة، على كل شيء يحدث للدولة: كل حالة وفاة، كل كارثة طبيعية. كانت أمريكا مكاناً بلا قلب، حيث يتعاطى الناس المخدرات، ويبلغ العنف معدلات غير مسبوقة، وتسيطر العنصرية على كل شيء. هذا ما كنت تجده مذاعاً في الراديو ومعروضاً على شاشة التلفزيون يومياً.

 وإذا لم تستمع إلى الراديو أو تشاهد التلفزيون، ربما يمكنك المشاركة في مجموعة دراسية، من تلك التي كانت تعقد لتحليل آخر خُطب القائد الأعظم. هذه المجموعات الدراسية كانت واحدة من اجتماعات عامة تستمر لساعات وساعات، تتهم الولايات المتحدة بالعدوانات الأكثر غدراً، تحرض الجماهير وتزعج الدُمى التي يحركها المعتدون.

لكن، ما أريد لفت نظركم إليه – ما لا يزال يدهشني اليوم – أن كل هذا لم يغسل مخي. لم يشكِّل رأييّ في العالم الخارجي وبالأخص الولايات المتحدة. لا يعني هذا، أنه لم يكن ذا تأثير عليّ، لأنني طبعاً تأثرت، وظلت رؤيتي لسنوات مشوبة بأكثر الصور النمطية شيوعاً؛ لكن هذا لم يخرب كل شيء بالنسبة لي.

أدين بخلاصي للكتب. ربما كان كتاباً لهنري جيمس قرأته خلسة بينما يتلو قائد الشباب الاشتراكي بطريقة رتيبة خطاباً سمعناه كلنا قبل أسابيع قليلة. الخطاب السياسي للمسؤول الحزبي كان مملاً جداً ولا يمكن مقارنته بالأناقة التي عثرت عليها، مثلاً، في قصة "ديزي ميلر" لجيمس. هذا الكتاب أسرني. وقعت في هوى بطلته غير العادية لدرجة أنني بعد سنوات عديدة، عنونت واحدة من قصصي الأولى، المكتوبة في روسيا، "ديزي"، وهو اسم شائع لدينا أيضاً في كوبا.

في رأيي، من الواضح أن المسؤولين عن سياسات النشر خلال السنوات الأولى للثورة الكوبية كان لديهم تركيز على الجوانب الإنسانية؛ لم يكن الأمر عقائدياً جداً. أعتقد أنهم نظروا إلى الأعمال الأساسية للكتَّاب الأمريكيين باعتبارها جزءاً لا غنى عنه من التكوين الثقافي لأي شخص متعلم. ولا أظن أن أي مكتبة تم إخلاؤها من كتب أمريكا الشمالية. لم يكن هذا ما حدث، مثلاً، في مكتبة مدرستي، وقد درست في مدرسة لينين الشهيرة، حيث اعتاد المسؤولون الحزبيون الكبار إلحاق أطفالهم.

رغم أن هذا قد يبدو متسماً بالتناقض، فإن دور النشر المملوكة للدولة هي ما غرس بداخلي شغفي بالأدب، وبالأخص أدب أمريكا الشمالية. كانت هذه الدور تفضل الأدب الذي يتناول موضوعات اجتماعية؛ مُنِحت الأولوية للكُتَّاب الذين أتموا بطريقة ما عمل وزارة الحقيقة الكوبية[i]، أو للكتب التي تدين، على نحو راقٍ وفني، الجار الشمالي الكبير. نتيجة لذلك، كانت هناك دائماً عناوين أمريكية شمالية بين الكتب التي اعتادت أمي، وهي قارئة نهمة بدورها، أن تشتريها أسبوعياً. ذات أسبوع قد يكون الكتاب هو "بدم بارد" لترومان كابوتي، الذي لا بد أنه نُشِر ليُظهِر مناخ الجريمة الدائم في الولايات المتحدة. في الأسبوع التالي "تأملات في عين ذهبية" لكارسن ماكالرز، كتاب بلا نقد واضح (لا أظن) واعتقدت، ولا أزال، أنه حافل بالغموض. ثم قد تُحضِر أمي للمنزل عملاً تراجيدياً أمريكياً لثيودور دريزر، كان قد نُشِر ليبين الوجه القبيح للرأسمالية. كان من السهل العثور على "إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك؟" لهوراس ماكوي، أو "الغاب" لآبتون سينكلير. لا زلت أتذكر بوضوح  صورة من الغاب جعلت الطفل الصغير الذي كنته يرتجف: ثمة أواني طهو عملاقة يلقي فيها عمال متعبون دوماً، أحشاء الحيوانات المقتولة في مذابح شيكاغو، وذات يوم، يتعثر واحد منهم، ويقع في أحد هذه الأواني، لكنهم يتركونه فيه، لأن منطق رأس المال البائس يمنعهم من رمي كل هذا اللحم. ثم، في مطعم بشيكاغو، يقضم زبون شيئاً صلباً بأنيابه. يخرجه من فمه ويفحصه في الضوء. يتضح أنه زر يخص العامل المطبوخ. 

الكتب الأخرى التي كانت تُوزَّع على نطاق واسع، هي تلك التي تناولت استغلال السود في الولايات المتحدة. قرأتها باهتمام خاص. على سبيل المثال، قرأت "الولد الأسود" لريتشارد رايت عندما كنت صغيراً جداً، وقد صورت التمييز ضد السود في الجنوب بطريقة حيوية جداً. لا أزال أتذكر مقاطع كاملة من الكتاب وأسماء العديد من شخصياته: شورتي، الصديق البدين الكلبي لريتشارد والذي يسمح للناس بضرب مؤخرته مقابل نقود معدنية؛ السيد فولك، الأيرلندي الذي يسمح لريتشارد باستخدام كارت المكتبة الخاص به للحصول على  كتب لا يستطيع ولد أسود الحصول عليها؛ السيدة روس الحنون وابنتها بيس التي ساعدت الصغير ريتشارد كثيراً.

 

قرأت أيضاً الرواية "الاشتراكية" "طريق التبغ" لإرسكين كولدويل. قرأت ثلاثية أمريكا و"تحول مانهاتن" لجون دوس باسوس. قرأت "واينزبيرج – أوهايو" لشيروود أندرسون. قرأت سينكلير لويس وإرنست هيمنجواي، بالطبع. كان هيمنجواي مثال كاتب أمريكا الشمالية الطيب: محباً لكوبا (صورها بشغف، كما قيل لنا، في العجوز والبحر) ومؤيداً للجمهورية الأسبانية (لمن تدق الأجراس). في كوبا كان هيمنجواي معبوداً.

قرأت الكثير من أعمال وليم فوكنر. أتذكر بوجه خاص، ما بعد ظهيرة كان عليّ فيها أن أكون مع والدي في واحدة من زياراته للطبيب، لكن بدلاً من هذا، بقيت في السيارة أقرأ. كنت أقرأ طبعة قبيحة من "بينما أرقد محتضرة" صادرة عن دار النشر التابعة للدولة، وقرب النهاية، بينما تحمل العائلة جثة الأم وعليها عبور النهر بها وهو في حالة فيضان، اختبرت حالة انغماس صوتي، نوعاً من الهلوسة السمعية: كان باستطاعتي سماع هدير الريح، الماء وهو يخبط محور عجلات العربة، حفيف أغصان الشجرة. حين دق أبي أخيراً على شباك السيارة لينبهني لعودته، انتابني إحساس بأن الصمت ران على كل شيء حولي لأن أحداث الرواية توقفت عن الحدوث.

قد يمثِّل هذا مفارقة ساخرة، لكن الكتب التي مُنِعت أكثر من غيرها، كانت الكتب الخفيفة الرخيصة. "البيست سيلرز"، و"البالب فيكشن": بكلمات أخرى، كتب بإمكانها أن تكون مصدراً للتسلية. وكنتيجة لهذا، أصبحت حيازة أحدهم لكتب كهذه تعبيراً عن المكانة، حتى عندما يتعلق الأمر بشيء بلا طعم كرواية "مطار" لأرثر هايلي. أطفال الوزراء والدبلوماسيين الكوبيين تجولوا في مدرستي بهذه الكتب لأنها كانت بالضبط نوعية الكتب التي يشتريها الدبلوماسيون والوزراء الكوبيون خلال رحلاتهم للخارج. استطعت قراءة معظم الكتب الأعلى مبيعاً في هذه الفترة: "الفك المفترس" لبيتر بينشلي، "ملف الأوديسا" لفريدريك فورسيث، و العمل الأكثر ابتكاراً "بابيلون" لهنري شاريير. 

 

للأسف، هذا التحرر المبكر في ما يخص الثقافة في كوبا، والذي استفدت منه كقارئ خلال طفولتي ومراهقتي، استحال اليوم إلى انعدام مرونة، ورؤية أكثر دوجماتية لا تسمح بغزل ثقافي مماثل. رؤية القارئ الكوبي اليوم لأدب أمريكا الشمالية تنتمي، بكثير من التفاؤل، إلى السبعينيات. هي، بكلمات أخرى، متخلفة بمقدار ثلاثين عاماً. في كوبا لم يُنشَر أي عمل لدون ديليلو، توماس بينشون، أو توني موريسون. أبعاد هامة من الحياة في الولايات المتحدة، والحال هكذا، تم تجاهلها: على الأخص، التنوع العرقي الهائل في الولايات المتحدة، صعود الكتاب المنتمين للأقليات، الأمر الذي وسم المشهد الأدبي الأمريكي خلال العقود الأخيرة، وثورة المثليين.

مع هذا، لو أن تاريخي مع الكتب الأمريكية التي قرأتها طفلاً في كوبا كاسترو يوضح شيئاً ما، فإنه يوضح قدرة الأدب على دحض الصور النمطية، وإلغاء حتى أكثر الحملات الاتهامية وبرامج البروباغندا فظاعة. الأدب يقرب الأمم من بعضها البعض أفضل من آلاف الخُطب ذات النوايا الحسنة.

بالنسبة لي، الأدب ترياق مضاد للبروباغندا – ترياق أعانني على اكتساب فكرة أكثر إنسانية عن دولة قٌدِمت كعدونا الرئيسي، الذي يتجسس دائماً علينا ومتأهب لغزونا عسكرياً. ما الصورة التي وصلتني، بعد كل هذه الكتب، عن الأمريكيين؟ كانوا مهووسين عند فوكنر، وإقليميين بسطاء عند لويس، وعصابيين عند سالينجر، ووحيدين على نحو مروع عند كارفر. شعب – كيف أقولها؟ - من البشر، عاديون بشكل تام.

 

خوسيه مانويل بييرتو روائي ومترجم كوبي مقيم بنيويورك، ويدرِّس الأدب في جامعة سيتون هول.

 نُشِرت في "بستان الكتب" بجريدة أخبار الأدب، نوفمبر 2015



[i] هنا إشارة ساخرة إلى "وزارة الحقيقة" في رواية "1984" لجورج أورويل


No comments:

Post a Comment