حسن عبد الموجود
بالتأكيد هناك تيمات تتكرر في أعمال منصورة عزالدين،
الجنون، الوحدة، الفقد، المتاهة، وغيرها مما يشكل الخيط القوي الذي يربط أعمالها،
ويشكل عقدها الإبداعي الذي يزينه عملها الأهم "وراء الفردوس"، وفي الوقت
ذاته يبدو كل عمل لها قائماً بذاته، بعوالمه، بشخوصه، والأهم بلغته، واللغة في
مجموعتها الجديدة "نحو الجنون" الصادرة عن دار "ميريت" تناسب
رحلة في متاهة جديدة، متاهة الإنسان المعاصر، المحاط بالخوف، والمطارد، حتى، من
أفكاره. مجموعة قصص تشكل كابوساً مرعباً وممتداً في مدن غريبة.
في فيسبادن تستعيد البطلة قصة "خاكوبو". لقد
حاول شبح امرأة إنجليزية تشبه خلد الماء أن يحذره من المصير المحتوم داخل المطعم
البلقاني الخاوي وانتهى بهما الأمر إلى أن يصيرا معاً شبحين ينتظران في ليالي
المطر. في تلك المدينة وجدت نفسها فجأة تدخل من دهليز إلى آخر، "غابة الممرات"
بتعبير منصورة، وإمعاناً في الكابوسية يبدو صوت وقع الحذاء على الأرضية المعدنية
قريباً من موسيقى تصويرية لفيلم رعب شديد الإحكام، ومن الدهاليز إلى اللامكان، ثم
في مواجهة باب حديدي صدأ ومنه إلى المدينة الأم. ستجد نفسها في مواجهة جيش من رجال
الشرطة، وهي تحتج بجملة واحدة ويغطون هم في ترقبهم الحذر. تركض فتنهار حوائط قديمة
"كأنها بطلة في لعبة كومبيوتر". تشبيه يناسب حتى تغيُّر ملابس البطلة من
مستوى إلى مستوى ومن مرحلة إلى أخرى، فمن فستان ملون وحذاء بكعب قصير، إلى سروال
جينز ضيق وسترة جلدية بنية اللون وحذاء رياضي، ثم حافية تسير في محيط شاسع من
الرمال الملتهبة، ثم فوق أرصفة متكسرة، فتاة ينهمر الرصاص فوق رأسها، وأخيراً
تشاهد نفسها "تسير تحت مطر خفيف في مدينة غريبة مع شخص لا تعرفه وإن بدا
كـخاكوبو كما تخيلته". هل تماهت البطلة مع شبح المرأة الإنجليزية؟ أم أنها هي
ذاتها تلك المرأة؟
لقد انتهت قصة "مطر خفيف" من حيث بدأت، وهذه
سمة أخرى لكتابة منصورة القصصية، وأقصد الدائرية، التي تناسب فكرة المتاهة، وهو ما
تكرر أيضاً في قصة "ليل قوطي"، ففي المدينة الجديدة تبدو مشكلة البطلة
تلك المرة، في العملاق ذي المعطف الأسود وصاحب السحنة المتجهمة الذي يسير بخطى
ثقيلة، فهذا العملاق حينما يشير بسبابته إلى أحد الأشخاص يختفي من الوجود. لست
معنياً بسرد تاريخ العملاق، ولا قصة فقده لبصره في المدينة التي لا تعرف الليل،
ولا في الأشخاص الثانويين الذين يأتي السرد عليهم، وإنما في دائرية النص. لقد
انتهى بتلك الجملة "أسمع وقع صاخب لخطوات ثقيلة كأنما تصدر عني". أسأل
أيضاً.. أليست الخطوات الثقيلة للعملاق؟ هل حل في البطلة الجديدة كما حلت المرأة
الشبح في بطلة القصة السابقة؟ بالتأكيد هناك قصدية كبيرة في هذا. البطلة أيضاً في
القصة التالية "مارين" ستبصر نفسها في وجه الشخصية التي تحمل اسم القصة "لم
تستغرق التفاتها إلا ثواني معدودات لكنها كانت كافية كي أبصر في وجه مارين الشاحب
قلقي وفي تعبها خوفي وإرهاقي". في القصة التي تحمل المجموعة عنوانها "نحو
الجنون" يبدو الأمر أكبر من الحلول في شخصية واحدة. الجارات يشبهن مرايات
للبطلة. أنت لن تصدق شيئاً في كل الأحوال، والبطلة أيضاً في دفاعها عن نفسها
ستدفعك إلى عدم تصديقها. لقد قالت إنها تعيش بمفردها بلا زوج أو أبناء، قبل أن تؤكد
لإحدى الجارات أنها تعيش مع ابنتها. الجارة "غريبة الأطوار" تنشر ملابس
أبنائها بانتظام، وتعنفهم بشدة. البطلة لم تر هؤلاء الأطفال أبداً وفي أول زيارة
للجارة ستسرق شريط كاسيت منها، ومن خلاله ستكتشف الكذبة الكبيرة التي تحياها
الجارة، فلا وجود للأطفال، وهم مجرد صوت مسجل على الشريط. ستقفز منصورة من هذه
العلاقة إلى علاقات عابرة بين البطلة والجارات الأخريات. من هم؟ لا تعرف. المقصود
بذلك صناعة المتاهة حتى ولو كنا في الواقع، ثم تعود مرة أخرى في ختام النص إلى
بدايته كما تفعل في معظم النصوص "وجود عباءتها وملابس أطفالها في دولاب
ملابسي لا يثبت أي شيء. يجب أن يصدقوني. يمكنهم أن يتصلوا بطليقها الذي انتزع
أطفالها منها بحكم محكمة كي يؤكد لهم جنونها هي لا أنا". مرة جديدة هل حلت
البطلة في جسد جارتها أم أنهما شخص واحد من البداية؟ في الأغلب أميل إلى تصديق
فكرة الشخص الواحد، والشكل الدائري أيضاً يخدم تلك الفكرة. نحن نبدأ من حيث ننتهي،
ولكننا سنضيف معلومة جديدة أن الشخصيات تشكل مرايات لبعضها البعض.
هل الحياة في مدن غريبة تعني أننا نحيا بلا قوانين؟
الإجابة لا. في إحدى المدن "كان الإيقاع سريعاً والناس يسيرون كما لو أن
حياتهم مرهونة بمدى اتساع خطوتهم"، وفي مدينة أخرى "بشر كثيرون يسيرون
في الشوارع الباهتة ببطء مرتدين مسوحاً داكنة"، وفي مدينة أخرى مهما غطاها
السواد فإن الربيع قادر على معادلته.
هل الشخصيات تعشق المتاهات؟ الشخصيات في الأغلب خائفة من
مطاردة الكوابيس، وهي أيضاً تبحث عن الحياة في مواجهة الشر الكامن في كل التفاصيل "ا.ل.ح.ي.ا.ة
كانت تنتظرك هناك وسط الجموع الهاتفة الغاضبة: أصوات رصاص، نيران تشتعل خلفك
وبجوارك، وغازات تحرق جلدك وتعميك عن الرؤية ويد باطشة تلقيك بقسوة فوق الرصيف
الصلب. كل هذه الأشياء كانت دليلاً على أنك لا تزالين حية".
نُشٍرت المقالة في موقع 24 بتاريخ 23 يناير 2014.
No comments:
Post a Comment