منصورة عز الدين
عن دار مسكيلياني صدرت مؤخراً ترجمة علي
المجنوني لرواية الكاتبة الأمريكية كارسن ماكالرز "أنشودة المقهى
الحزين" الكاشفة عن افتتانها ككاتبة بعوالم المنبوذين والعائشين على هامش الحياة.
وإذا كانت قد قدمت في "القلب صياد وحيد" شخصية الأصم الأبكم جون سنجر
العصية على النسيان، فإنها هنا تنسج أنشودتها حول الأنسة أميليا الحولاء ذات
المظهر الذكوري، وابن الخالة لايمن القزم الأحدب، ومارفن ميسي الوسيم لكن المنبوذ
لأفعاله الشريرة، إذ "حمل معه لسنوات الأذن المجففة لرجل كان قد قتله في شجار
بموسى حلاقة. كان يجز أذيال السناجب في غابة الصنوبر من أجل إرضاء نزواته، وفي جيب
وركه الأيسر يحمل حشيشة القنب المحرمة لإغواء أولئك المثبطين والنازعين إلى
الموت".
يمثل هذا الثلاثي
الغريب مثلث حب غير مألوف، فمارفن ميسي أحب الأنسة أميليا وتغير من أجلها للأفضل،
وتنازل لها عن ممتلكاته بعد الزواج منها لكسب محبتها، غير أن الزواج لم يستمر سوى
لأيام فغادر البلدة مواصلاً نمط حياته القديم حتى سُجِن. ووقعت الأنسة أميليا في
غرام ابن الخالة لايمن وصار موضع تدليلها وحنانها، وحين عاد مارفن ميسي عقب خروجه
من السجن للانتقام من أميليا أفتتن به لايمن وصار يتبعه في كل مكان غير عابئ بضيق
أميليا أو غيرتها. وفي النهاية تحالف معه ضدها في القتال الذي حطمها.
ككل الكتاب
الجيدين تبرهن كارسن ماكالرز في روايتها هذه على أن الحدوتة نفسها ليست المهمة،
فالأهم كيفية حكيها وكيفية تعامل الكاتب مع شخصياته وأحداث روايته.
تصوغ ماكالرز من
خلال أبطالها الثلاثة عملاً لا يُنسَى، وترسم أجواء الجنوب الأمريكي برتوش من
القوطية والجروتسك دون التخلي عن الرهافة وشعرية اللغة والعالم. وأظن أن هذه
القدرة النادرة على المزج بين الشاعرية والنعومة وبين القوطي والجروتسكي أهم نقاط
قوة كارسن ماكالرز ككاتبة.
يلفت النظر في
"أنشودة المقهى الحزين" مفهوم ماكالرز عن الحب، إذ يبدو كعاطفة هوجاء
بلا عقل أو منطق، تتلاعب بالواقعين في أحابيلها. تطور ماكالرز هذا المفهوم إلى ما
يشبه نظرية متكاملة عن الحب يمكن تأويل أحداث الرواية وتصرفات شخصياتها الرئيسية
على أساسها. ولنتأمل هذه الاقتباسات من الرواية القصيرة: "غالباً ما يكون
المحبوب مجرد محفز لكل الحب المخزون الموجود بهدوء داخل المحب حتى تلك
اللحظة". "قيمة أي حب وطبيعته يحددها المحب وحده. لهذا السبب يفضل
أكثرنا أن نُحِب عوضاً عن أن نُحَب. يرغب كل إنسان تقريباً في أن يكون المُحب.
والحقيقة الفجة أن كثيرين لا يطيقون، بطريقة عميقة وغامضة، أن يكونوا محبوبين. إن
المحبوب يخشى المحب ويكرهه، ولأكثر الأسباب وجاهة. لأن المحب على الدوام يحاول أن
يجرد محبوبه. يتوق المحب إلى أي علاقة ممكنة مع المحبوب، حتى وإن كان حريا ألّا
تجلب له هذه التجربة سوى الألم".
وفق هذا المنطق
يمكننا قول إن أميليا لم تطق أن تكون محبوبة، وأنها خشيت مارفن وكرهته لأنه أحبها،
وربما هذا أيضاً ما شعر به ابن الخالة لايمن تجاهها حين وجهت عاطفتها نحوه، أما
مارفن المُحب فقد تاق إلى أي علاقة ممكنة مع محبوبته، فإن كان التواصل الجسدي غير
ممكن، فلا مفر من تحويل عاطفة الحب إلى كراهية وانتقام.
هل يمكننا المجازفة
بقول إن القتال الأخير بين مارفن وأميليا بديل ملتوٍ ومراوغ للجنس؟! قد يبدو هذا
إفراطاً في التأويل من جانبي، لكن لنتأمل هذا الوصف لمرحلة من مراحل المعركة
بينهما: "لمدة من الوقت أحكم المتصارعان قبض بعضهما، عضلة عضلة حتى حاصرت
عظام الوركين بعضها: تمايلا على هذا النحو، إلى الوراء وإلى الأمام، ومن الجنب إلى
الجنب".
***
يعد عنوان
"أنشودة المقهى الحزين" مناسباً تماماً للرواية، ليس فقط لأنه يعبر عن
مضمونها، بل بالأساس لأنه يتماس مع تقنية كتابتها، فالنوفيلا المنسوجة ببراعة
وحنكة تشبه في تقنيتها أنشودة مغناة، أو على الأقل قصة مروية في ليلة سمر. ثمة حس
شفاهي مسيطر على الحكي، فالراوي يبدو كحكاء يوجه كلامه إلى مستمعين يراهم ويلاحظ
إنصاتهم له ووقع كلماته عليهم. حين يشير في البداية إلى مارفن ميسي، ينصح قراءه/
مستمعيه: "لا تنسوا إذن مارفن ميسي هذا، لأنه سيلعب دوراً فظيعاً في القصة
التي ستأتي". وفي موضع آخر يكتب/ يقول: "لندع السنوات البطيئة تمر إذن
ونأتي إلى مساء يوم سبت في سادس سنة تمر منذ اللحظة التي جاء فيها ابن الخالة
لايمن للمرة الأولى إلى البلدة". ويستمر هذا الملمح الشفاهي على امتداد
الرواية بطرق مختلفة دون إخلال بولع ماكالرز برسم مشاهد دقيقة وحيّة تجعلنا نكاد
نرى المكان الذي تتحرك فيه الشخصيات، بل إن المكان يكاد يحظى بالأولوية، فالمقهى
حاضر بقوة منذ العنوان، والراوي يبدو كدليل يصحبنا في جولة تعريفية بالبلدة قبل
الأبطال. وكما تبدأ النوفيلا بوصف البلدة وطريق شلالات فوركس حيث ينشد أفراد
العصابة المصفّدة أنشودتهم، تنتهي بالعودة لوصف البلدة وطريق شلالات فوركس حيث لا
يزال أفراد العصابة المصفدة أو "الهالكون الاثنا عشر" ينشدون أنشودتهم
الكالحة والبهيجة في الآن نفسه. كأن البشر وأبطال حكايتنا التراجيدية على الأخص
مجرد جملة اعتراضية طارئة على متن المكان. أو كأن هذا المكان القاسي سبب من أسباب
شقائهم ومصيرهم القاتم.
كارسن ماكالرز
كاتبة مهمة ضمن كوكبة كتاب الجنوب الأمريكي من أمثال وليم فوكنر وفلانري أوكونور
وغيرهما، وترجمة على المجنوني دقيقة ومتميزة. قد تتساءل كقارئ عن سر تفضيله أحياناً
لمفردات قديمة وغير منتشرة على مفردات أخرى أحدث وأكثر انتشارًا، لكنك ستغبطه على
ثراء معجمه اللغوي وتنوعه، وعلى عربيته
الرصينة والسلسة في آن.
زاوية كتاب.. نقلاً عن جريدة أخبار الأدب..
No comments:
Post a Comment