Friday, September 9, 2016

عزاءات الفلسفة: الفلاسفة كمرشدين روحيين




منصورة عز الدين


خلال دردشة مع ستيني ألماني، في فرانكفورت خريف 2011، حكى لي الرجل بفخر عن ابنه الأكبر، المهندس الذي يدير مكتب الاستشارات الهندسية المملوك للعائلة، وتكلم بزهو مماثل عن ابنه الأوسط المحامي الواعد، مضيفًا أن نجاحاتهما تعزيه عن فشل ابنه الأصغر.
توقعت أن الابن الأصغر هذا مدمن مخدرات أو كحول، ولم أسأل عن التفاصيل تأدباً، غير أن الأب أوضح أن "فشل" ابنه تمثل في دراسته الفلسفة في جامعة "توبنجن". (إحدى أقدم الجامعات الألمانية، والجامعة نفسها التي تخرج فيها هيجل وهولدرلين ومارتن فالزر.)
وعندما أخبرته أن ابنه قد يصبح في أهمية نيتشه أو هايدجر، رد: "وهل تظنيني أكترث بشأن هذين الأحمقين؟! الطبيب يعالج المرضى والمهندس يبني البيوت ويخطط المدن، أما الفلاسفة فمجموعة من المتحذلقين غير المفيدين لغيرهم ولا لأنفسهم. الفلسفة بطالة مقنّعة."

ملايين ينتشرون شرقاً وغرباً، يشاركون الأب الألماني رؤيته هذه، ويعتبرون الفلسفة فائضة عن الحاجة، والفلاسفة متنطعين منشغلين بأفكار غير عملية محلقة في آفاق بعيدة. ولهؤلاء تحديداً أرشح كتاب آلان دو بوتون "عزاءات الفلسفة.. كيف تساعدنا الفلسفة في الحياة"، الذي صدرت طبعته العربية مؤخراً عن دار التنوير، بترجمة متميزة للمترجم السوري يزن الحاج.
غير أن كتاب بوتون لا ينحصر في كونه رسالة إلى من يتشككون في جدوى الفلسفة في الحياة العملية والواقع اليومي، بل يتعدى هذا إلى تحويل المادة الفلسفية المعقدة إلى قراءة ممتعة ومسلية ومفيدة. أو كما كتبت صحيفة "الإندبندنت": "بوتون أخذ الفلسفة إلى هدفها الأبسط والأهم: مساعدتنا في عيش حيواتنا."

يتوقف الكاتب السويسري، المقيم في بريطانيا، أمام ستة عزاءات للفلسفة وستة فلاسفة: العزاء بشأن مخالفة الآراء السائدة (سقراط)، العزاء بشأن الافتقار إلى المال (أبيقور)، العزاء بشأن الإحباط (سينيكا)، العزاء بشأن العجز (مونتين)، العزاء بشأن انكسارات القلب (شوبنهاور)، العزاء بشأن الصعوبات (نيتشه).
لا يختار المؤلف هؤلاء الفلاسفة اعتباطاً بل وفق منهج حدده في بداية كتابه، إذ يميزهم كجماعة صغيرة من البشر، "تفصل قرون في ما بينهم، يتشاركون ولاءً فضفاضاً لرؤية عن الفلسفة يقترحها الأصل اللغوي اليوناني للكلمة – فيلو، حُب؛ صوفيا، حكمة – جماعة يوحدهم اهتمام مشترك بقول عدة أشياء معزية وعملية بشأن القضايا المتعلقة بمواطن بؤسنا الكبرى. إلى هؤلاء الناس سوف ألجأ."

وإذا كان بوتون يريد من قرائه التعلم من الفلاسفة، فإنه يقدم نفسه باعتباره التلميذ الأول، ويوضح في أكثر من موضع كيف ساعده هذا الفيلسوف أو ذاك على النظر لحياته والعالم بعيون جديدة، ما يضفي على الكتاب نزعة ذاتية حميمة.
في البداية، مثلاً، يوحي بأن ما لفت نظره إلى سقراط وموته دفاعاً عن أفكاره، هو أن سلوكه الشخصي يتناقض مع هذا. "في الأحاديث كان أولويتي أن أُحَب، لا أن أجهر بالحقيقة (.....) لم أكن أشكك علناً بالأفكار التي تعتنقها الأغلبية. بل كنت أسعى إلى رضى أناس السلطة، وأشعر بقلق كبير، بعد الجدالات معهم، ما إذا كانوا لا يزالون يعتبرونني مقبولاً."
كما يبدو بوتون كأنما يحاول السير على خطى سينيكا الذي "كان قد أدرك منذ البداية أن الفلسفة منهج تعليمي يساعد البشر على تجاوز التباينات بين أمنياتهم والواقع."
ويسترشد، في منهجه بالكتابة، بخلاصة رؤية مونتين الخاصة بأن ما يهم في الكتاب هو النفع والملاءمة في ما يخص الحياة.

وهكذا، بين سطور الكتاب سنكتشف دلائل كثيرة على كيف استفاد آلان دو بوتون نفسه من الفلسفة، لكن ماذا عن قرائه المحتملين؟! كيف يمكن أن تعزيهم الفلسفة وتساعدهم في حياتهم؟! هذا ما على هؤلاء القراء اكتشافه بأنفسهم عبر قراءة هذا الكتاب الممتع الذي جرؤ مؤلفه على تحويل فلاسفة مرموقين إلى مرشدين روحيين أو مدربي تنمية ذاتية بثقافة عالية ورؤى مبتكرة، أو لو شئتم، إلى حكماء على الطريقة القديمة ممن يلجأ إليهم المريدون لسؤالهم عن حل للمعضلات الحياتية أو كيفية التصرف في موقف معين.

لا يهم أن دو بوتون وهو يفعل هذا، قد يخون هؤلاء الفلاسفة (أو بعضهم على الأقل) لصالح التبشير بهم وبأفكارهم بين جمهور أوسع، فشوبنهاور مثلاً يفضل العصامية الفكرية، ويرى أن تفكير المرء بنفسه والوصول إلى خلاصاته الخاصة أفضل مئات المرات من أن يستقي معرفته عبر القراءة.
لكن ببراجماتية تماثل تلك الخاصة بآلان دو بوتون، أقول ربما يمثل كتابه الشائق هذا عتبة أولى قد تغري قراءً عديدين بالتعمق أكثر في قراءة الفلسفة، حتى ولو بهدف أخذ العبرة والعظة من سير وأفكار كبار الفلاسفة.


وأخيراً، تبقى الإشادة ضرورية بترجمة يزن الحاج المميزة، التي تذكِّر بالمترجمين الكبار من أجيال سابقة. فإضافة إلى لغته الرصينة المحكمة، نلمس دقته في تصويب وتدقيق معلومات وإحالات سها المؤلف عن تدقيقها.

زاوية كتاب.. نقلاً عن "أخبار الأدب"..

No comments:

Post a Comment