Saturday, December 2, 2017

رضوى عاشور.. الرواية كوثيقة تاريخية





منصورة عز الدين


في سيرتها الجميلة والكاشفة "أثقل من رضوى"، تحكي الروائية الراحلة رضوى عاشور أن جدها عبد الوهاب عزام، اختار لها اسمها تيمناً بجبل رضوى في المدينة المنورة؛ ذلك الجبل الذي ضربت به العرب المثل في الثقل والرسوخ حين قالت: "أثقل من رضوى".
كأن الجد المثقف، باختياره هذا الاسم، كان يتنبأ بشخصية حفيدته والمسار الثري لحياتها. كانت نبؤءة أكثر منها رجاء.

مع الوقت صارت الحفيدة مثلاً ليس فقط في القوة والرسوخ، بل وأيضاً في ثراء وتعدد مجالات الإسهام. تنوع متناسق يذكر بأنغام لحن موسيقي شجي، إذ لا يمكن فصل الروائية عن الأكاديمية عن المناضلة عن الأم والحبيبة حين نتحدث عن رضوى عاشور، إنها وجوه متداخلة للشخصية نفسها، وجوه نلمح ظلالها بينما نقرأ عملاً روائياً لصاحبة "خديجة وسوسن"، رغم أنها من الكاتبات اللاتي يجدن إخفاء آثار حياتهن الشخصية داخل ما يكتبن.
الكتابة، بالنسبة لرضوى عاشور "محاولة للتعامل مع الهزيمة" و"لاستعادة إرادة منفية"، لذا من الطبيعي أن يكون الرصد والتوثيق، لمنع تجريف الذاكرة الجمعية، هاجساً يتكرر من عمل لآخر.

من الطبيعي أيضاً أن يصير التاريخ والرواية خيطين مضفورين معاً، بحيث تقترب الرواية من كونها وثيقة تاريخية، وتكتسب لغتها في أكثر من موضع نبرة المؤرخ الناظر من مسافة إلى ما يدور حوله حتى لو اشتبك معه وشارك فيه.

في رواياتها ذات البعد الوثائقي، نجدها تضفر المتخيل بوقائع التاريخ بمهارة، لا يخايل التاريخ القارئ من بعيد ولا يأتي كخلفية تتحرك عليها الشخصيات، بل يبين واضحاً مركزياً، كأن التأريخ غاية السرد ومنتهاه.

في حوار معها، تقول صاحبة "ثلاثية غرناطة" عن روايتها "الطنطورية" إنها: " رواية تمزج المتخيل بالوثاثق، والأحداث المفصلية في الرواية كلها حقيقية، فعندما أتحدث عن تاريخ هذه المرأة، فإني أتحدث عن الطنطورة. أتحدث عن قرية معينة ومعروفة في تاريخ فلسطين وجغرافيتها، حين أتحدث عن امرأة شاتيلا أدخل بعض الشخصيات الحقيقية، حيث يظهر أنيس الصايغ في النص، والدكتورة بيان نويهض الحوت مؤلفة كتاب "صبرا وشاتيلا"."

الكلام السابق يكشف منهج صاحبته في مقاربة التاريخ وتطويعه لمقتضيات الفن الروائي، كما يمكننا فهم عالمها الإبداعي ورؤيتها لفن الرواية ودوره، بدرجة أعمق، إذا تذكرنا مقولتها: "كل الروايات تاريخية بمعنى من المعاني"!

"أرجع قليلاً إلى الوراء لأن الدقة مطلوبة، والحكاية لا تخصني وحدي" هذا ما جاء على لسان "الناظر" راوي "قطعة من أوروبا"، الحكاية فعلاً لا تخصه وحده، بل أكاد أقول لا تخصه أصلاً، فحياته الخاصة شاحبة بالمقارنة مع ما يدونه عن وقائع وشخصيات تاريخية. الناظر الرائي والمراقب مشغول برسم بورتريه لقاهرة الخديوي إسماعيل بعمرانها وأماكنها وشخوصها البارزة، كأنه يعيد الحياة إلى ما أندثر وتوارى، وحين يحكي عن نفسه يقاربها كأنها أيضاً لا تخصه، فثمة مسافة بينه وبينها، بينه وبين طليقته شهرزاد وبناته الثلاث.

الناظر هنا هو قناع للكاتبة، قناع يدلنا على رؤيتها لدورها ورسالتها. هذا الدور وهذه الرسالة يمكن تلمسهما بين ثنايا كتابها الأخير "أثقل من رضوى"، ففي فقرة بالغة الدلالة تكتب أنها تريد لسلمى سعيد أن تعلم أنها أصيبت بالقرب من بيت أحمد عرابي، "وأريد لأولادها من بعدها أن يعرفوا أن أمهم وهي صبية في العشرينيات أُطلِق عليها النار في هذا المكان، وأريد ألا ينسى أولادها ولا أحفادها ولا أحفاد أحمد حرارة ومالك مصطفى وماري دانيال وأشقاء جابر صلاح أن أهلهم والمئات غيرهم ممن استشهدوا أو أصيبوا في هذا المكان، كانوا وهم يصنعون له تاريخاً جديداً، يتواصلون مع تاريخ لم يحكوا لنا عنه أو حكوا حكايات منقوصة".


نقرأ هذا، فنفهم أنها كتبت دائماً لتقود قراءها إلى التواصل مع تاريخ مسكوت عنه، كتبت دائماً رغبةً منها في سد ثغرات الحكايات المنقوصة وسعياً إلى إكمالها.

* شهادة نُشِرت بمجلة "الدوحة" في عدد يناير 2015. 

No comments:

Post a Comment