منصورة عز الدين
لم أنتبه إلى أن السائق سلفي إلاّ بعد أن أشرت له وتوقف "التاكسي" على بعد خطوات مني. ترددت لثوانٍ وكدت أبتعد بحثاً عن "تاكسي" آخر، لكن ابتسامة الرجل المرحبة دفعتني لتغيير رأييّ.
ترددي لم يكن نابعاً من رفض لوجود أمثاله في الفضاء العام، ولا من تعالٍ عليه أو معاداة مجانية لما قد تمثله لحيته الطويلة وشاربة الحليق وجلبابه القصير من عيش في زمن آخر.
الحكاية ببساطة أن خبراتي السابقة مع سائقي "التاكسي" السلفيين لم تكن جيدة، أو لو شئنا الدقة كانت تنتهي دائماً بمشكلة. إذ كل مرة، كان عليّ طوال الطريق أن أستمع ، عبر كاسيت السيارة، إلى من يُفترَض أنه داعية إسلامي، وهو يهدد بـ"الويل والثبور وعظائم الأمور"، أو يلعن "السافرات" "الكافرات" متوعداً إياهن بـ"جهنم وبئس المصير". كان هذا الوعيد يقع على أذني كاللطمة خاصة حين يؤمِّن السائق عليه متمتماً بالاستغفار بينما يختلس نظرة عدائية لي عبر المرآة.
وحين كنت أطلب غلق الكاسيت أو تبديل الشريط إما يُقابَل طلبي بالتجاهل أو بتشغيل شريط آخر لا يختلف كثيراً عن سابقه. مرات ترجلت من التاكسي محتجة قبل الوصول لوجهتي، ومرات خضت نقاشات عبثية أو تحاملت على نفسي منشغلة بالقراءة عن صوت يبث الكراهية ويدعو على "الكفار" بتشتيت الشمل وخراب البنيان وترميل النساء وتيتيم الأطفال.
لكنّ السائق السلفي بدا مختلفاً هذه المرة. كان ودوداً، بل مغالياً في إظهار الود وتوزيع الابتسامات في الفراغ كأنما يوجهها لجمهور لا يراه غيره. قلت لنفسي ربما لم يعد سائقو عربات الأجرة من السلفيين، في حاجة إلى تنغيص حياة المختلفين عنهم بعد الثورة، مكتفين بجهود حازم أبو إسماعيل، ومحمود شعبان، وأبو إسلام وغيرهم، في هذا الصدد. أو ربما ببساطة يخرج هذا الرجل عن الصورة النمطية السائدة في أذهاننا.
عند إشارة مرور مزدحمة اقترب بائع مناديل ورقية منا، وبادر السائقَ بإلقاء السلام فرّد عليه الأخير متهللاً قبل أن يفاجأ بالبائع يقول له: "عايزين نغيّر الحكومة يا فضيلة الشيخ.. خربتم البلد منكم لله"!
نظر إليه السلفي بلوم وتكلم كمن يحادث نفسه: "حكومة إيه؟ أنا قلت لك "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته" عشان أنت تاخد 30 حسنة وأنا آخد 30 حسنة ونكون احنا الاتنين كسبنا! ما لي أنا بالحكومة؟"
ضحك بائع المناديل بشر طفولي، بينما انطلق السائق بالعربة ما أن فتحت إشارة المرور، ثم التفت إليّ ليخبرني أنه يكره السياسة والمهتمين بها. لم أكن بادلته أي حديث منذ ركبت معه، لكنه تطوع بشرح نفسه والدفاع عنها في مواجهة اتهامات ظنها مضمرة في صمتي. بدا كأنما يدفع عن نفسه اتهامات توجه إليه بشكل متكرر ممن يتعاملون معه كممثل للتيار الإسلامي بكامله، ويحمّلونه هو الفرد – ولو جزئياً – مسؤولية تردي الأوضاع.
أنا نفسي فكرت فيه في البداية كسلفي ولا شيء غير هذا، وتوقعت منه السلوك المعتاد من رفاقه. وهو بدوره سرعان ما مارس التنميط ذاته بحقي حين سألني إن كنت من مؤيدي "جبهة الإنقاذ" لمجرد أنه سمعني أسخر من محمد مرسي في مكالمة هاتفية، وحين أخبرته أن لي تحفظات عديدة على "جبهة الإنقاذ" بدا حائراً، ولم يلبث أن ذكر أنه كسلفي ليس مؤيداً لحزب النور ولا لأي من الأحزاب الإسلامية الموجودة على الساحة. "أكره السياسة والمهتمين بها" كرر جملته هذه للمرة الثانية، قبل أن يسأل بفضول: حضرتك ليبرالية؟!
وضحك حين لم أجب عليه بشكل مباشر واكتفيتُ بقول إني من "سحرة فرعون" في إشارة لهجوم مرشد الإخوان المسلمين على الإعلاميين.
شرد في المارة على الرصيف كأنما انشغل بتصنيفهم في خانات سياسية بعينها على غرار ما فعل معه بائع المناديل، وما يفعله معظم المصريين مع بعضهم البعض مؤخراً، كأن تصنيف الآخرين ووضعهم تحت لافتات محددة صار هواية الجميع.
نُشِرت في جريدة "المدن" بتاريخ 7 مارس 2013
No comments:
Post a Comment