منصورة عز الدين
في مفردة "تقبرني" الشامية ثمة اقتران فاتن - رغم قتامته أو ربما بسببها - بين
الموت/الدفن والغرام. وفقاً للمعنى الحرفي فالكلمة تعني: "أتمنى أن تقوم
بدفني"! وبتوسيع مجالها الدلالي تكون: "أتمنى لك عمراً مديداً يفوق
عمري"! أي: أحبك لدرجة ألاّ أحتمل فقدك، لذا أتمنى الموت قبلك!
الكلمة المستدعية لطقوس الدفن وأطياف مقابر صامتة محروسة بالورود والصبّار،
قطعت مسافة شاسعة بعيداً عن معناها الحرفي. اللغة بطبيعتها تنطوي على مكر ومخاتلة،
لكن "تقبرني" تتفوق على غيرها في مقدار "خيانتها" لأصلها
وتمردها عليه؛ إذ ما إن نسمعها، في سياق معاصر، حتى تتوارد على أذهاننا معانٍ
مفعمة بالحب والدلال.
استحوذ الخيال الشعبي على هذه المفردة وحررها من حمولتها الدلالية الثقيلة.
مسح عنها الظلال القاتمة وزودها بحيوية أزاحتها إلى فضاءات جديدة لتقولها أم
لصغيرها وهي تلاعبه وحبيبة لحبيبها بينما يتضاحكان، وليغازل بها مراهق نزق جميلة
تمر بجواره ويمضي لاهياً.
لكن هل أحدثت المفردة قطيعة تامة مع أصلها بالفعل؟! ليس تماماً! فلا يزال
فيها تناغم قائم بين الحب والموت، فالعاطفة التي تعبر عنها وتشير إليها عنيفة
كالموت وقاهرة مثله.
"تقبرني" تستدعي معها تعبيراً آخر شبه مهجور في المحكية السورية هو
"تُشْكُل آسي" الأكثر جمالية وإيحاءً ومعناه: "أتمنى أن تعمِّر
بعدي لتضع/ تزرع الآس على قبري"!
هذان التعبيران سليلا تراث كامل في الثقافة العربية، وفي ثقافات أخرى
عديدة، ينظر للحب كأمر بالغ الخطورة محكوم بالتراجيديا والمأساة، بل ومرادف للجنون
والهلاك. حب ممتزج بالموت هو حب يتحدى قوة الموت.
هكذا يبقى من وجوه الحب العديدة وجه إفناء الروح في عشق المحبوب، ومن صوره
المتنوعة صورة عاشق يحمل الزهور لقبر معشوقه.
No comments:
Post a Comment