منصورة عز الدين
تبدو الروائية الفرنسية آني إرنو كأنما
تعرف ما تريده من الكتابة بالضبط، والأهم أنها تعرف كيفية تحقيقه، فوفقاً لجملتها الشهيرة "ليست وظيفة
الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنىً وقيمةً،
وجعله في النهاية لا يُنسى."، وهذا ما تقوم به، إذ تمنح لجروحها معنى وقيمة عبر الكتابة، ولا تكف عن تشريح الذات
والعلاقات بنفاذ بصيرة يصل حد الاستبصار.
وأنا أقرأ آني إرنو، أتذكر جملة جوان
ديديون الخاصة بأن الكتابة فعل عدائي يتمحور حول قول "أنا"، حول فرض ذات
الكاتب على الآخرين، حول قوله لغيره: "إنصت إليّ، إنظر بعينيّ، غير
رأيك!"
مع فارق أن ديديون في رواياتها تعتمد على
التخييل والبنية المركبة على عكس ما تسلكه في كتبها غير الروائية، في حين أن إرنو
تكتب ذاتها وتضع كل تفاصيل حياتها وعلاقاتها تحت المجهر دون حاجة إلى التخييل، كما
تبدو غير مهتمة بتغيير رأي الآخرين أو بالتأثير فيهم، وإن كانت تنجح في هذا، إذ
يشعر قراؤها بأنها تحكي عنهم، وبأنها تمنح هواجسهم الخاصة ومشاعرهم المسكوت عنها
صوتاً.
تكتب عن علاقتها بأمها في
"امرأة" فتشعر قارئات كثيرات بأن الأم تشبه أمهاتهن، وعن علاقتها
بحبيبها في "عشق بسيط" فتبدو كمن تقبض على جوهر العشق إن كان له جوهر.
في تقديمها لترجمتها لـ"الحدث"
تصف الشاعرة هدى حسين كتابة إرنو بأنها: "تكمل عندي جملاً لم أقلها، وتنهي
مراحل لا أرغب في أن أعيشها كاملة."
وفي تقديمها لترجمتها لـ"البنت الأخرى
و لم أخرج من ليلي" تكتب الروائية نورا أمين: "لقد عشت قصص آني إرنو
كأنها حكاياتي الشخصية. غصت فيها وتجسدتها. توحدت مع صوتها حتى خُيِّل إليّ
أحياناً أنها تكتبني بشكل شخصي."
أنا أيضاً ينتابني إحساس مشابه حين أقرأ
أعمال إرنو، رغم انحيازي عادةً للتخييل والتركيب.
إلّا أن التماهي بيني وبين إرنو تضاعف
أثناء قراءة "البنت الأخرى" (صدرت بالفرنسية في 2011) لسبب أساسي هو أني
فقدتُ أختاً صغيرة مثلها، وكتبت عنها قصة بعنوان "فتاة فبراير" ضمن
مجموعتي القصصية الأولى. الفارق أني رأيت شقيقتي الصغيرة "ياسمين"، التي
رحلت بعد شهرين من ميلادها، أما إرنو فوُلِدت بعد وفاة شقيقتها "جينيت"
بعامين، ولم تعرف بأمرها سوى وهي في العاشرة، إذ ظلت الصغيرة الراحلة السر المقدس
في حياة الوالدين، وعاشت كاتبتنا في ظل الطيف المهيمن لمن خنقتها الدفتيريا.
ولأن الصور القديمة هي كل ما يربط "البنتين"،
تبدأ آني نصها "البنت الأخرى" بوصف صورة سِبيا، بيضاوية للرضيعة جينيت،
وكيف كانت تظنها صورتها هي، أي أننا منذ البداية نجد أنفسنا أمام التباس: أنا/ هي.
وهو الالتباس المهيمن على النص بكامله بداية من العنوان. فما يطرأ على الذهن حين
نقرأ عنوان "البنت الأخرى" هو أن الإشارة هنا للأخت المحكي عنها، غير
أننا نكتشف لاحقاً أن الكاتبة تقصد نفسها بـ"البنت الأخرى"! فالذات تخلت
عن مركزيتها وصارت آخر، والأخت الغائبة احتلت المركز وأزاحت أختها الحاضرة إلى
الهامش.
علاقة الإخوة نفسها مشكوك فيها وفقاً
لإرنو، حيث لا يقرها سوى السجل المدني. "لكنك لست أختي، لم تكوني أبداً أختي.
لم نلعب سوياً ولم نأكل سوياً ولم ننم سوياً. لم ألمسك أبداً، ولم أعانقك. لم أرَ
أبداً لون عينيك. لم أركِ أبداً. أنت بلا جسد، بلا صوت، مجرد صورة مسطحة في
فوتوغرافيا الأبيض والأسود."
المشاعر التي تعبر عنها الكاتبة هنا بالغة
التعقيد، فهي خليط من الغيرة والتنافس مع ظل خفي، والذنب لأنها نجت من التيتانوس
فيما رحلت شقيقتها التي هي دافع الحكي ومبرره. "أنا لا أكتب لأنكِ متِ. لقد
متِ من أجل أن أكتب. هناك فارق كبير."، لكن كيف تكتب إرنو ما لا تعترف
بوجوده، ما لم تره سوى كغياب تام مخبَّأ في قلبيّ الأب والأم باعتباره سرهما
الأعظم؟
تفعل هذا عبر رصد وتشريح تأثير كل هذا
عليها هي: "ليس لكِ وجود إلّا عبر بصمتكِ على وجودي. أن أكتبكِ هو ألّا أتعدى
معاينة غيابكِ. إنكِ شكل فارغ يستحيل ملؤه بالكتابة."
اللافت أن آني إرنو تصف نصها، في أكثر من
موضع، بالرسالة. وهو فعلاً رسالة موجهة لجينيت أينما كانت. والتحدي الماثل هنا، هو
أن "ضمير المخاطب فخ. ففيه شيء خانق، ويقيم بين الأنا والأنت حميمية متخيلة
بفوحان الشكوى، إنه يقرِّب كي يلوم. وبرقة يميل إلى أن يجعل منكِ سبب وجودي، وأن
يحط من شمولية وجودي بسبب اختفائك."
هكذا تواصل إرنو الجري وراء ظل، معتبرة أن
رسالتها المكتوبة لجينيت رد دين متخيل بأن تمنح أختها الوجود الذي منحه لها موتها،
فلو عاشت جينيت لما أتت آني إلى العالم لأن أبويها كانا مصممين منذ البداية على
إنجاب طفل واحد فقط.
النص الثاني الذي يضمه الكتاب الصادر
مؤخراً عن دار أزمنة، هو "لم أخرج من ليلي" الذي سبق أن صدرت طبعته
الأولى عن المركز القومي للترجمة، وتسرد فيه إرنو قصة مرض أمها بـ"ألزهايمر"
وتفاصيل إقامتها في قسم المسنين بمستشفى "بونتواز". الكتاب، الصادر
بالفرنسية عام 1997، كُتِب على هيئة يوميات أثناء مرض الأم التي يعرفها قراء
آني إرنو جيداً عبر نص "امرأة". في "لم أخرج من ليلي" يتعرف
القراء على وجه آخر للسيدة دوشاسن هو وجه المرض والأفول، وعلى ملمح مختلف من علاقة
الكاتبة بها.
سواء في "البنت الأخرى" أو
"لم أخرج من ليلي"، تحافظ آني إرنو على سرها الخاص ككاتبة تجيد النفاذ
إلى أعماق المشاعر الإنسانية بكل تعقيدها. وأخيراً تبقى الإشارة إلى المقدمة الكاشفة
التي قدمت بها نورا أمين النصين، والتي تعد مدخلاً مثالياً للتعرف على إرنو
وعالمها الأدبي.
زاوية "كتاب"، نقلاً عن جريدة "أخبار الأدب"...