منصورة عز الدين
يغص عالم الأدب
بعدد هائل من الحكائين (مهرة
أو غير مهرة)، وقليلاً ما نقابل بينهم روائياً فريداً يدفعنا لإعادة حساباتنا
وإلقاء نظرة جديدة على تاريخ الرواية بعد أن تعرفنا عليه باحثين عن موقع مناسب له
فيه بمعزل عن اعتبارات المجايلة والآنية. بين هذه الفئة من الروائيين المُجيدين
يبرز الروائي المجري لاسلو كراسناهوركاي ككاتب متمرس يدفع قراءه داخل أتون من الأسئلة
الشائكة ويسلمهم إلى متعة محفوفة بالقلق وحبس الأنفاس.
في روايته "تانجو الخراب"، التي
ترجمها الحارث النبهان إلى العربية وصدرت عن دار التنوير، ينجح كراسناهوركاي في
تحقيق معادلة نادراً ما ينجح فيها أحد وهي الحفاظ على قدر عالٍ من التشويق في عمل
ذي إيقاع هادئ متأمل وجمل طويلة متشابكة وسرد مشغول بالوصف الدقيق والمشاهد
البصرية التفصيلية.
وسر نجاحه في هذا يكمن في قدرته على
المحافظة على درجة محسوبة من الغموض لا تزيد فينصرف القارئ عن العمل، ولا تقل
فتضاعف من بطء الإيقاع فيغرق القارئ في الملل.
ثمة دائماً حدث رئيسي محذوف وتفاصيل غائبة
تحث على التفكير في مبررات الشخصيات وتحفز الرغبة في مواصلة القراءة من أجل مزيد
من الفهم، وحتى بعد الانتهاء من قراءة العمل ستظل هناك أفعال تشغلنا بحثاً عن
مبررات وتأويلات مقترحة لها.
في الفصل الأول سوف ننشغل بتلمس تفاصيل
العلاقة بين فوتاكي والسيدة شميدت وزوجها، وسنبدأ في تخمين أسباب تدهور حال
المزرعة ورغبة الفلاحين في الرحيل عنها ونتساءل
عن هوية إرمياس هذا الذي يبدو كالعائد من بين الأموات وسر تباين ردود فعل الشخصيات
الرئيسية الثلاث في هذا الفصل على نبأ عودته. وفي الفصل الثاني لن نعرف في البداية هوية بطليه الرئيسيين
ولا ماذا يفعلان في هذا المبنى (مؤسسة أمنية) ولا ما المراد منهما بالتحديد! ثم
تتضح الأشياء تدريجياً حين نعرف أنهما إرمياس وظله البشري بيترينا قبل عودتهما إلى
المزرعة في مهمة محددة. وهكذا مع كل فصل، ثمة أسئلة أجوبتها مؤجلة إلى حين مما
يزيد من الترقب ويرفع مستوى التشويق. هناك أيضاً لعبة تزامن يلعبها كراسناهوركاي
ببراعة خاصة في الجزء الأول من الكتاب الذي تتشابك فيه الخيوط ويتعقد البناء، قبل
أن ينبسط في الجزء الثاني، فبعض التفاصيل يعود إليها المؤلف من زاوية جديدة من فصل
لآخر، فيتضح التراتب الزمني للأحداث ولحركة الشخصيات، دون إشعار القارئ بأي ملل أو
تكرار. فالرواية مُهَندَسة بانضباط مذهل مترافق مع انسيابية لا يقلل منها ولع
كراسناهوركاي بالجمل بالغة الطول والتشبيهات المتتالية. هذه الانسيابية تخبرنا أن
كراسناهوركاي لم يختر عنوان روايته عبثاً، فالعمل بكاملة أشبه برقصة
"تانجو" أو بمقطوعة موسيقية مركبة وكاشفة، تفتح عيوننا على جمال سوداوي
يمزج بين الرائع والمريع، ويكشف الخراب ويضعه تحت مجهر الرواية، فعالم "تانجو الخراب" خرِب متهالك، نسجت العناكب شباكها على
كل شبر فيه، مياهه مطر مُهلِك، وبِرك راكدة عطنة، ونباتاته ينخر العفن في جذورها،
أما البشر فيه فشخصيات غريبة معذّبة غارقة في خطاياها وبؤسها. يراقب كل منها
الآخرين ويعد عليهم أنفاسهم، كأننا أمام منظومة للمراقبة المتبادلة. الفلاحون
يراقبون بعضهم بعضاً من خلف الستائر، والطبيب يظل جالساً بجوار النافذة كي لا
تفوته أي حركة يقوم بها أحد الجيران، ويتفوق على الآخرين بتدوين كل ما يراه في
دفاتر يحمل كل منها اسم الشخصية المُرَاقَبة. وكما سنعرف لاحقاً، فإن المهمة
الموكلة لإرمياس وبيترينا من النقيب في المؤسسة الأمنية الغامضة تنطوي على كتابة
تقارير عن هذه الشخصيات. وأظن أن هذه التفاصيل تكتسب أبعاداً جديدة ومعانيَ إضافية
بمعرفة أن الرواية تدور في المجر خلال الحقبة الشيوعية.
***
يلعب المخيال الديني (التوراتي والإنجيلي)
دوراً مركزياً في "تانجو الخراب" التي تبدأ باستيقاظ فوتاكي على صوت
أجراس كنسية غامضة. ثم يرى نفسه "مسمَّراً إلى صليب مهده ونعشه، يتألم
محاولاً انتزاع جسمه بعيداً من غير أن يفلح في النهاية إلا في وضع نفسه – عارياً
تماماً، ومن غير علامة مميزة، مجرداً من كل شيء وصولاً إلى الأساسيات – في عهدة
الأشخاص الذين كانت مهمتهم غسل الجثث"، في استدعاء واضح لصلب المسيح. كما أن
الفلاحين كانوا يظنون أن إرمياس وبيترينا قد ماتا قبل 18 شهراً، وبالتالي ينظرون
لعودتهما كبعث من الموت. عناوين الفصول المختارة بعناية، يحيل معظمها بدوره إلى
الكتب المقدسة.
منذ البداية نستشعر أن ثمة
"أبوكاليبس" وشيك الحدوث. كارثة توراتية ستطيح بالمزرعة المنعزلة وتحولها إلى "مدينة"
هالكة لا محالة، سدوم أو عمورة أو إرم ذات العماد في ثوب معاصر. المطر الغزير
المستمر وملامح الخراب والعطن والركود في كل ركن يشعرنا أن الكارثة المنتظرة ستأتي
في هيئة طوفان، يترسخ هذا الإحساس عندما يبدأ الفصل الثالث على هذا النحو:
"في الحقبة الباليوزية، قبل ملايين السنين، بدأ غرق أوروبا الوسطى كلها. ومن
الطبيعي أن بلدنا الأم هنغاريا كان جزءاً مما جرى."
يتوازى هذا مع انغمار دائم بماء المطر الغزير.
وفي الجزء الثاني من الرواية حين يأتي إرمياس لنقل المجتمعين في قصر ألماسي،
بشاحنة أحضرها معه، تبدو هذه الشاحنة كأنها فُلك نوح مفترض لإنقاذهم من الخراب
والهواجس والشكوك في مصداقية مخلِّصهم، لكن الفكرة أن إرمياس شخصية ملتبسة بالغة
التعقيد، وليس نبياً أو مخلِّصاً كما يرونه. لن يكشف كراسناهوركاي سر عودة إرمياس
لنقلهم بالشاحنة بعد أن أعطوه نقودهم قبلها بالفعل كما خطط ورغب، كما سيترك تفصيلة
طلبه شراء أسلحة ومتفجرات - من تاجر السلاح "باير" - عالقة في الهواء
موحية بهلاك مستقبلي لا يبقي ولا يذر، هلاك يذكرنا بكلمات إرمياس في الفصل الثاني،
والتي بدت حينها أقرب إلى هلوسات شخص يائس: "سننسف جسورهم؛ وبيوتهم؛ والبلدة
كلها؛ والحدائق؛ وصباحاتهم؛ وبريدهم، سنفعل ذلك خطوة بعد خطوة، سنفعله كما ينبغي،
كل شيء وفق الترتيب الصحيح..."، "المدن كلها. واحدة بعد أخرى!"،
"والقرى. حتى أبعد كوخ!"
إرمياس ليس نبياً إذاً حتى ولو جاء لنقلهم
من القصر بعد أن يئسوا من مجيئه، وهو ما أدركه فوتاكي بذكائه وتبصره. هو (أي
إرمياس) أقرب إلى رسول للخراب والهلاك. (لا يمكننا تجاهل أن اسمه تنويعة على اسم
النبي إرميا أو النبي الباكي المتنبئ بخراب أورشليم والشاهد عليه.)
في جملة عابرة في
بداية الرواية يشير الراوي إلى أن فوتاكي كان "مرغماً على النظر إلى الشرط الإنساني من دون أي أثر من شفقة". ويبدو لي أن الأمر نفسه ينطبق على كراسناهوركاي في روايته هذه إذ ينظر بدوره إلى الشرط الإنساني دونما
شفقة، مشرِّحاً إياه ومتعاملاً مع شخصياته الفنية – العصية على النسيان - بعين
قاسية مُعرية راغبة في الفهم لا التعاطف، ومن أجل هذا وحده تجلب التعاطف نحو هذه
الشخصيات، فحتى أكثرها شراً نجدنا متورطين في تأمله بمحبة متفهمة، كأن شره هذا ابتلاء
وقدر لا قدرة له على تغييرهما. أو كأن الشرط الإنساني المحكوم بالفناء يسم الجميع
بالهشاشة ويدفعهم إلى انتظار ما لن يأتي أبداً، فالرواية ليست عن الخراب فقط بل عن الانتظار
أيضاً، حيث تبدأ بجملة كافكا:
"في تلك الحالة، يجعلني انتظار الشيء أخسره!" ويخيم الانتظار الممض على
أجوائها مذكراً إيانا بعوالم صمويل بيكيت
وبكل آمالنا المهدرة وأمانينا العصية على التحقق.
***
إذا كنت قد شبهت رواية كراسناهوركاي
بالكاتدرائية نظراً لبنيانها الفخم ومعمارها المُهندَس بدقة، فإن بنيتها لا تخلو
من مفاجآت وألاعيب، فمنذ بدايتها حتى الفصلين الأخيرين تبدو "تانجو
الخراب" كراوية كلاسيكية معاصرة مكتوبة بإتقان وتماسك، لكن في الفصل قبل
الأخير يفاجئنا المؤلف بموظفين داخل المؤسسة الأمنية البيروقراطية وهم يحررون
الوثائق المقدمة لهم عن فلاحي المزرعة محاولين تهذيب لغتها دون التخلي عن وضوحها
ودقتها. في الغالب هي التقارير الأمنية التي كتبها إرمياس في إطار المهمة الموكلة
إليه في الفصل الثاني. وفي الفصل الأخير، يعود المؤلف إلى شخصية الطبيب، بعد أن غيّبه
معظم الرواية، فنراه وحده في بيته بالمزرعة عقب خروجه من المستشفى، متسائلاً عن سر
اختفاء الآخرين، وبادئاً في تحويل ما سبق ودونه عنهم في دفاتره إلى رواية، هي على
الأرجح "تانجو الخراب".
في النهاية تبقى الإشارة إلى أنه إذا كان إرمياس هو رسول الخراب؛ المبشر به
والمؤدي إليه، فإن لاسلو كراسناهوركاي هو رائيه ومدوِّنه ومُشيِّد كاتدرائيته
الروائية.
*نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.