منصورة عز الدين
كتب الروائي الأمريكي كورت فونيجوت مرة أن الرعب الحقيقي يكمن في أن تستيقظ ذات
صباح لتجد صفك في المدرسة الثانوية يحكم البلد! وإذا فكر كل منا في هذه الاحتمالية
متذكراً ما اتسم به أفراد صفه من حماقة وطيش وانعدام مسئولية في تلك المرحلة
العمرية، سيفاجأ بمقدار الرعب الكامن خلف جملة بدت لأول وهلة مضحكة وساخرة. وعلى
منوال مقارب يقدم الكاتب البرتغالي أفونسو كروش لقراء روايته القصيرة "هيا
نشتر شاعراً" أمثولة ساخرة لكن التدقيق في تفاصيلها يضعنا أمام جحيم أو على
الأقل كابوس يتحول فيه البشر إلى ما يشبه "روبوتات" غير مشغولة سوى
بالربح والأرقام والماديات الملموسة.
وفق هذه الرؤية "الديستوبية" لا مكان للمجاز ولا للفن. الشعراء
والنحاتون يباعون كحيوانات أليفة. لا تكمن الكارثة هنا في غياب الشعر فقط وتحول
الشعراء إلى حيوانات أليفة لتزيين البيوت، بل في غياب المجاز حتى خارج الشعر
والاكتفاء بالمدلول الحرفي للكلمات وحده.
التحية المتبادلة هي: "نمو وازدهار!"، وفعل التقبيل يُعبّر عنه
لغوياً بـ: "ترك على وجوهنا مليغراماً أو مليغرامين من اللعاب!"
كل شيء محسوب بالجرام واليورو أو بالربح المتوقع منه: المأكل والمشرب وحتى
المشاعر الإنسانية: "يقولون إنه لمن المفيد التعامل بمودة من الآخرين، وربط
صلة من الألفة بين الأشخاص لتحقيق نوع من الربح، وإن كان ربحا عديم القيمة لأنه
ليس مادياً، ولا يمكن تحويله إلى أرقام أو استغلاله في الضرائب، ولا هو أيضاً مصدر
دخل، ولكن هناك من يعتقد – وهي مسألة إيمان – أنه يمكن تحقيق مكاسب من وراء
ذلك."
باختصار يمكننا القول إن رواية كروش - الصادرة في 82 صفحة عن دار مسكيلياني
بترجمة أنجزها عبد الجليل العربي - هي استعارة روائية عن موت الاستعارات، موت
اللغة والخيال.
وإذا تذكرنا مقولة هايدجر الخاصة بأن "اللغة بيت الوجود"، فمن
الطبيعي أنه حين تتسطح اللغة وتخلو من المراوغات والمجاز يتسطح وجودنا ذاته،
ونتحول إلى أرقام.
ينجح الروائي البرتغالي في الوصول بلغة روايته إلى الدرجة المرغوبة من
الخشونة والوضوح ومعاداة المجاز والصور الفنية، وحتى حين يتسلل تعبير مجازي يتم
تصحيحه أو التسخيف منه في الحال، مثلاً حين استعملت الراوية تعبير "تفاحة
الخد"، استدركت فوراً: "تفاحة الخد عبارة غريبة وغير مفهومة، في حين تم
التأكد بصفة مطلقة من عدم وجود تفاحات على الخد وإنما الثابت حقاً هو وجودها في
المراكز التجارية الكبرى."
المجازات الوحيدة المعترف بها ذات علاقة بالمادة، مثل أن يتم الإعلان عن
الشعور بالملل بتعبير: "لا تكسري محفظتي."
الخطير في الرواية أنها تكثف ما هو موجود فعلاً في المجتمعات الحديثة من
تهميش للفنون وتقديس للاستهلاك وعبادة كل ما هو مادي. تضع كل هذا تحت عدسة الفن
المكبرة لنخرج بصورة كاريكاتورية تُركَّز فيها هذه السمات لندرك أي جحيم يمكن أن
نصل إليه إذا استمر الوضع على ما هو عليه.
الشاعر أيضا يتم تقديمه في مبالغة كاريكاتورية تتسق مع الجو العام للرواية
فيبدو ككائن غريب ينطق ما يبدو للآخرين كألغاز ولوغاريتمات، لكن سكنه في بيت
الأسرة التي اشترته يخلخل عالمها ويغير شخصيات أفرادها. ووفق منطق الحكايات
الرمزية البسيط يكتشف الأب فائدة مادية ملموسة للشعر.
تمنيت فقط لو لم يضف الكاتب لروايته القصيرة الجزء الأخير المعنون
بـ"ما يشبه الخاتمة" والذي يشير فيه إلى حال الفن في البرتغال، لأن هذا
الجزء التقريري خصم من الرصيد الفني للرواية وحصرها في دائرة "المغزى"
و"الرسالة" والصرخة ضد تهميش الفن في مجتمع مادي استهلاكي.
لكن أجمل ما في تجربة قراءة "هيا نشتر شاعراً" هو التعرف على صوت
جديد لم يسبق تقديمه باللغة العربية وعلى مترجم متميز يترجم عن البرتغالية
مباشرةً، ننتظر منه المزيد من الأعمال المترجمة عن لغة تتسم بثراء أدبها الذي لا
نكاد نعرفه سوى عبر ترجمات عن لغة وسيطة. ولا يجب أن تفوتنا هنا الإشادة بتنوع
اختيارات دار مسكيلياني وجدتها وانفتاحها على أصوات أدبية غير مألوفة عربياً.
زاوية "كتاب".. نقلاً ن جريدة أخبار الأدب.