منصورة عز الدين
حسناً فعلت دار "هاشيت أنطوان/
نوفل" بنشرها الترجمة العربية لرواية "أزاهير الخراب" للروائي
الفرنسي باتريك موديانو، ليس فقط لأهمية نقل أعمال هذا الكاتب إلى العربية، إنما
أيضاً -وبالأساس- لأن من أنجز الترجمة هو الشاعر والمترجم اللبناني الراحل بسّام
حجار، فترجمات حجّار متفردة وتستحق أن تعامل دوماً باهتمام وعناية.
كان صاحب "سوف تحيا من بعدي" قد
أنهى ترجمة هذه الرواية قبل شهور قليلة من رحيله في 2009، أي قبل حصول موديانو على
جائزة نوبل للآداب بخمسة أعوام، وها هي تصدر كهدية أخيرة ممن أثرى المكتبة العربية
بترجمات متميزة ابنة ذائقة تعلي من شأن الفني والجمالي بعيداً عن معايير السوق
وحساباته.
وهو هنا، كما اعتدناه، يجعل من الترجمة
فعلاً إبداعياً موازياً للتأليف، بحيث نشعر أن النص ينتمي إليه بقدر انتمائه
لمؤلفه، وما يضاعف من هذا الشعور أن موديانو يتقاطع مع بسّام الشاعر في خفوت
النبرة والولع بظلال وأصداء الأمكنة والذاكرة والأشياء.
"مساء ذلك الأحد من شهر نوفمبر، كنت
في شارع "آبيه-دو-ليبيه" أسير بمحاذاة السور الضخم الذي يحيط بمعهد الصم
والبكم. إلى يساري، ينتصب برج كنيسة "سان-جاك دو هوبا". عاودتني ذكرى
ذلك المقهى عند ناصية شارع سان جاك الذي كنت أقصده بعد مشاهدتي أحد الأفلام في
إستديو "أورسولين". هكذا يبدأ موديانو "أزاهير الخراب" واضعاً
إيانا أمام عناصر ثلاثة لا تنفصم في كتابته: الزمان، المكان والذاكرة.
الأمكنة عند موديانو المحفز الذي يستثير
الذاكرة ويحاول نفض الغبار عنها وجلب قدر من الضوء إلى عتمتها، وإذ يحدث هذا نلمس
زئبقية الزمن وانفلاته منا.
الأمكنة أيضاً محرك الحكي ومحوره، فالراوي
يخطو في أماكن لم يطأها منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً، فيستعيد شخصيات الماضي. يلقي
إلينا بطرف خيط انتحار زوجين شابين لأسباب غامضة في أبريل 1933، ويحاول تتبع تلك
الحادثة القديمة، فنظن أنهما مركز الرواية، لكنه ينقل اهتمامه إلى باشيكو أو فيليب
دو بيلون المزيف محاولاً الوصول إلى هويته الحقيقية.
بشكل ما نحن أمام
رواية تحرٍ واستقصاء، رواية اقتفاء أثر، ليس فقط أثر دو بيلون، إنما أيضاً اقتفاء
أثر ماضٍ مراوغ لم يعد هناك ما يدل عليه. ماضٍ اندثر وغاب التماسك عنه وعن سرديته،
ولم يتبق منه سوى شذرات ولمحات. تاريخ فردي (وجماعي؟) قوامه ثغرات وفجوات في حاجة
إلى من يملؤها، غير أنه مع نهاية العمل سوف يكتشف القارئ أن من انعدام الحصافة توقع
قيام موديانو بهذه المهمة، فمنذ البداية، لا يبدو الروائي الفرنسي منشغلاً بملء
ثغرات أو تقديم أجوبة، بقدر انشغاله بتفحص الطبيعة المراوغة للذاكرة والزمن وبرسم
خارطة من كلمات لأماكن الصبا والشباب، خارطة هدفها استرداد المدينة التي فقدها.
جاكلين ودو بيلون
وسيمون كوردييه والأب وغيرهم من شخصيات الرواية، ليسوا شخصيات بالمعنى المألوف والمتعارف عليه، إنما يمثلون كأشباح وأطياف في
ذاكرة الراوي المسكون بهم كما بالأماكن التي نجح الزمن في تغييرها أو تلك التي ظلت
على حالها وإن تغير مرتادوها القدامى أو تبخروا في ضباب الماضي.
"عاودتني
ذكرى جاكلين وكأنها انبثقت من بقع مياه المطر والأضواء المتألقة سدى من نوافذ
العمارات." هكذا انبثقت جاكلين، الحبيبة السابقة، في حاضر الراوي، تلك التي
ذكرها منذ الصفحات الأولى كحبيبة يختبئ معها "كي لا يتاح للماركيز أن يلتقيها
ثانية". لا يخبرنا حينذاك ما ضرورة الاختباء ولا من هو الماركيز ولا حتى
طبيعة علاقته بجاكلين، تطل علينا عبر الصفحات كرفيقة شبه دائمة في الحياة
المُتذكَّرة ذات الصلة بدو بيلون، لكن قرب نهاية الرواية يعود ليوضح كيف التقى
بجاكلين لأول مرة حين كانت في صحبة الماركيز، ويرسم لنا مشهد الاختباء هذا ببراعة.
على هذا المنوال،
يتحرك سرد موديانو في دوائر متقاطعة حيناً ومتجاورة آخر، ويبدو الكاتب غير مهتم
بالحبكة التقليدية أو بالزمن الخطي، إنما بالأساس بضبط مزاج عمله ونبرته وأجوائه
كي يخرج القارئ بانطباع كلي ويغرق في حالة خاصة لا يهتم معها بما يألفه مع الكتاب
الآخرين.
نقرأ موديانو فنشعر بأن شخصياته وثيقة
الصلة بالضباب، ليس فقط لأنها تتراءى لنا وللراوي نفسه من خلف ضباب كثيف، إنما
أيضاً لأنها تبدو كما لو كانت مُشكَّلة من ضباب على وشك الانقشاع في أي لحظة.
ولنتأمل هذا المقطع البديع الذي يتحدث فيه الراوي عن الماركيز: "كانت سيول المطر تنصب عليه من أعلى السلم وكانت سترته مبللة، لكنه بقي
بلا حراك. عندئذ شهدت ظاهرة ما زلت، إلى اليوم، أحاول تفسيرها عبثاً: هل انطفأ
المصباح الذي ينير السلم من فوق، على نحو مباغت؟ ذلك أن الرجل بدا متلاشياً وكأنه
يذوب، تدريجاً، في الجدار. أو أن المطر، لشدة انهماره عليه، قد محاه كما تمحو
المياه أثر الطلاء الرطب. حاولت جاهداً أن ألصق جبيني بزجاج النافذة وأتفرس في الجدار
الرمادي القاتم، فلم أجد أثراً له. اختفى فجأة على نحو ما سألحظه في ما بعد لدى
أشخاص آخرين، مثل أبي، إذ يختفون فجأة، تاركين لك الحيرة والسعي وراء براهين
وقرائن تثبت أنهم قد وُجدوا حقاً ذات يوم".
من رواية لأخرى
يذكرنا موديانو بعبارة ستاندال التي استعارها يوماً: "لا يمكنني مدكم
بالحقائق الواقعية، يمكنني فقط تقديم ظلالها".
* زاوية "كتاب" نقلاً عن جريدة "أخبار الأدب"...