منصورة عز الدين
في منتصف التسعينيات قابلت محمد البساطي لأول مرة.
كنت لا أزال أدرس الصحافة في الجامعة، لكن الأهم أني كنت قد قرأت كل كلمة كتبها حتى تلك اللحظة. مدفوعة بحبي لكتابته اقترحت إجراء حوار صحفي معه لنشره في جريدة "صوت الجامعة" التي يصدرها، بشكل غير منتظم، قسم الصحافة بكلية الإعلام.
أعطاني أستاذي رقم هاتف البساطي واثقاً من أن أديباً معروفاً مثله لن يضيِّع وقته الثمين في حوار سوف يُنشر في إصدار لا يسمع به إلاّ مئات من طلبة جامعة القاهرة، لكن المفارقة أن البساطي -لهذا السبب تحديداً- وافق فوراً على تحديد موعد سريع معه.
أخبرني عندما التقيته مع زميل على مقهى "زهرة البستان" أنه متشوق لمعرفة كيف يرى طلبة الجامعة كتابته. وقال، من بين أشياء أخرى، أنه يهتم بحوار كهذا أكثر من اهتمامه بالوصول إلى أكبر الصحف انتشاراً في العالم.
بدا وقتها مندهشاً من قراءتنا له، ومعرفتنا بأدق تفاصيل أعماله، كأن اهتمام القراء غير المتوقعين، يخجله ويجرح تواضعه ورؤيته لنفسه كمبدع بعيد عن الأضواء ودوائر الصخب.
منذ ذاك اليوم البعيد بدأت معرفتي به إنساناً نبيلاً لا يساوم على ما يؤمن به، بعد أن عرفته -قبلها بسنوات قليلة- كاتباً صاحب بصمة فريدة بين أقرانه من جيل الستينيات.
وهي الفرادة التي أكد عليها إبراهيم أصلان حين قال إن البساطي مثَّل جسراً بين "القصة الواقعية التي كانت سائدة قبلنا وبين النقلة التي أحدثناها كجيل".
كتب محمد البساطي عن القسوة بحنان، وعن العنف والوحشة بشاعرية. عوالمه الفنية قاسية موحشة، وعزلة الفرد فيها كأنها قدر لا فكاك منه، لكن هذه العوالم للمفارقة تفيض بعذوبة قلما نجدها لدى كاتب آخر.
كان كأنما يكتب بممحاة، ويعتمد على الحذف أكثر من الإضافة. يهندس أعماله بدقة مفجراً شعريتها عبر الحوار الخفي بين عناصرها. لغته المقتضبة المتقشفة ظاهرياً تحمل شحنة شعرية عالية. كل مقطع مشهد بصري يدفعنا لرؤية صور تتحرك أمامنا كلوحات تشكيلية أو مشاهد متتابعة في فيلم سينمائي. كأن صاحب "صخب البحيرة" يصالح بين الفنون في سرده محملاً الكلمات بإمكانات الصورة واللون والصوت في آن.
احتفى البساطي في كتاباته بالصمت، بما لا يقال، كأنما يدرب القارئ على شحذ تركيزه لمتابعة أدنى خلجات الشخصية الفنية وتعبيراتها وحركات جسدها لأن في هذا يكمن الكثير من مفاتيح العمل.
اختار من الضوء ذاك الضعيف الذي لا يكشف شيئاً، ومن الصوت همسات الليل الخافتة تلك التي تحتاج إلى شحذ حاسة السمع للإمساك بها، ومن الأحداث تلك التي لا ينتبه إليها الآخرون ويظنونها محض لا شيء.
وفي تقديري أنه لم يكتب عن الضوء بل عن ظلاله، لم يكتب عن الصوت بل عن أصدائه في النفس، ولم يكتب عن الحدث قدر كتابته عن آثاره المراوغة وغير الملموسة.
صُنِفت كتاباته في معظمها ككتابة ريف، غير أن الريف عنده ليس كما ألفناه، إذ نجد أنفسنا في كثير من أعماله أمام مكان تخييلي يقف على التخوم بين الواقعي والغرائبي. ما يسم المكان في كتاباته تلك الوحشة والعزلة كأنما هي أماكن منقطعة عن العالم منذورة للنسيان والهجر على حافة الوجود وهامشه.
أبطال البساطي ماكرون لا يستسلمون لعواطفهم، يواجهون أقداراً صعبة وحيوات خالية من الأحداث الكبيرة بلا شكوى أو ضجيج. يقاومون واقعهم الخشن بخشونة مماثلة وبأقل قدر من الحنين أو الانفعال، وفي هذا تحديداً مكمن تفردهم كشخصيات فنية تنحفر في الذاكرة وتدفع القارئ للتفكير مراراً في دوافعها الخفية.
حين كتبت قبل عام في جريدة السفير عن إصابته بسرطان الكبد، راعني ما كتبت بعد نشره. فوجئت وأنا أعاود قراءته أن ثمة فقرة مكتوبة بصيغة الماضي. إحساس يشبه الخيانة تسرب إلى نفسي. كنت كأنما أودعه، بلا وعي مني، رغم أن ظاهر كلماتي وهدفها كان التشبث بأمل شفائه وحثه على البقاء بيننا متحدياً الوحش الذي استوطن كبده في غفلة منه.
لحسن الحظ لم ينتبه إلى هذا وقتها، اتصل بي يشكو ضاحكاً من كم المكالمات الهاتفية التي تلقاها من خارج مصر. بدا طفلاً سعيداً يخجله أن ينال هذا الاهتمام رغم استحقاقه لأضعافه. لحظتها تذكرت دهشته في لقائنا الأول، من أن له قراءً بين طلبة الجامعة، تلك الدهشة التي حافظ عليها دوماً وتمسك بها تمسكه بسخريته الذكية حتى في أصعب اللحظات.
مع رحيل الأصدقاء نشعر أن جزءاً منا قد رحل معهم، تسرب وتلاشى تاركاً الذكريات لتحل محله. هذا ما أشعر به الآن إضافة إلى شعوري بالعجز عن الكتابة عن البساطي كما أرغب، إذ أواجه مشكلة حقيقية في الكتابة عن موت المقربين مني. إزاء موتهم أصاب بخرس لا علاج له. سنوات مضت على رحيل جودة خليفة ولم أستطع الكتابة عنه، وها هو الأمر يتكرر مع رحيل البساطي.. أجد كل الكلام (كلامي تحديداً) مبتذلاً في مواجهة الموت.
نُشِرت في ملحق "نوافذ" بجريدة المستقبل اللبنانية في يوليو 2012.