منصورة عز
الدين
أجمل ما في رواية "طيف ألكسندر
ولف"، الصادرة مؤخرًا عن دار الكرمة، ما لم يكتبه جايتو جازدانوف، ما ترك
بعضه يلوح "كباقي الوشم في ظاهر اليد"، أو كسر حميم يبخل على قارئه به. هنا ثمة رواية مكتوبة ببراعة ورواية أخرى مخفية باستثناء طرف
منها مشار إليه برهافة كي يُبقي
القارئ وخياله أسيرين للعمل بلا انتهاء.
الرواية الأولى المروية لنا على امتداد
صفحات الكتاب هي تلك الخاصة بالراوي وعلاقته الملتبسة بألكسندر ولف من جهة، وحبه
ليلينا نيكولاييفنا من جهة أخرى دون أن يتقاطع هذان الخيطان ظاهريًا، والرواية
الثانية المضمرة والمتوارية في ثنايا السرد هي تلك الخاصة بما نستنتجه عن طبيعة
العلاقة التي جمعت بين ألكسندر ويلينا قبل أن تتعرف الأخيرة على الراوي، فمع آخر
صفحات الرواية نتأكد من صحة استنتاجنا أن الحبيب السابق الذي حكت عنه يلينا للراوي
هو ألكسندر ولف نفسه، لكن مع المشهد الأخير ينمو بداخلنا كقراء تساؤل مثير للخيال
عن سبب رغبة ولف في قتل يلينا: هل لمجرد الانتقام منها لأنها هجرته؟ أم أنه رفع
عليها السلاح فقط لإرهابها ودفعها للعودة إليه؟ أم أن هناك الكثير من المسكوت عنه
مما لم تبح به يلينا لبطل الرواية؟!
تشكل الأجوبة عن تلك الأسئلة العمود
الفقري للرواية الثانية المفترضة، تلك التي نجح الكاتب الروسي في إثارة خيالاتنا
بلمحات منها، مفضلًا عدم الكشف عنها بشكل كلي، وبهذه الحيلة رفع عمله إلى مستوى
أعلى من تلك الأعمال التي يصر كُتَّابها على عدم ترك أي تفصيلة لخيال القارئ.
تبدأ "طيف
ألكسندر ولف" بمشهد مواجهة بالسلاح بين الراوي وألكسندر ولف، خلال الحرب
الأهلية الروسية، دون أن يعرف أي منهما هوية الآخر. يظن الراوي أنه قتل خصمه،
وتصاحبه ذكرى جريمته هذه طوال السنوات اللاحقة، حتى يقرأ كتابًا يحتوي على قصة
تسرد تفاصيل المواجهة كما جرت بالفعل، فيعرف الراوي أن الكاتب هو خصمه نفسه، ويسعى
للوصول إليه.
وتنتهي الرواية
بمواجهة أخرى بين الرجلين، ينجح الراوي خلالها في قتل ولف دفاعًا عن يلينا، لتكتمل
الدائرة ويقابل ولف موته مرة ثانية وأخيرة، بعد أن عاش منتظرًا إياه منذ لقائه
الأول به.
ومع الكلمات الأخيرة في الرواية، سيفهم
القارئ ما قاله ولف ليلينا من أنه محكوم بالموت بشكل مضاعف، فهو أشبه بالسجناء
الذين يُطلق سراحهم يومًا أو يومين على أن يعودوا مجددًا إلى السجن بنهاية المدة،
"لقد أُطلق سراحي لبعض الوقت؛ ولكن لا يمكنني التفكير ولا العيش مثل الجميع،
لأنني أعلم أنهم بانتظاري."
عاش ولف منتظرًا موته، منذ أن تخطاه
الموت في المواجهة الأولى، واثقًا من أنه سيعود لحصده بعد أن منحه بضع سنوات إضافية.
وفي هذا يشبه نفسه بأسطورة فارسية عن البستاني والموت، حيث يتجلى الموت للبستاني
وهو يعمل في الحديقة، فيفزع البستاني ويفر إلى أصفهان هربًا من الموت، فيما يندهش
الموت لأن المكتوب في كتابه أنه سيلقى البستاني ليلًا في أصفهان.
تلك الأسطورة المذكورة عرضًا على لسان
ولف من المفاتيح الأساسية لفهم هذا العمل الجامع بين التقاليد السردية الأوروبية
الحديثة والحكمة الشرقية القديمة في رباط لا ينفصم. فنظرة جايتو جازدانوف الفلسفية
تدين للحكمة الشرقية أكثر مما تدين للمدارس الفلسفة الغربية من وجهة نظري. كما
يتسم أسلوبه بذكاء السرد ودقة الوصف بطريقة مبتكرة وغير تقليدية، والقدرة على طرح
أسئلة فلسفية عميقة في طيات السرد والحوارات بين الشخصيات، وعلى رسم شخصيات لا
تُنسى خاصة شخصيات يلينا وألكسندر وفلاديمير.
من ناحية أخرى، تقترح الرواية على
قارئها، بشكل غير مباشر، سؤالًا مفاده: هل يمكن الكتابة عن القدر دون الكتابة
بالتبعية عن دور المصادفات في توجيه الإنسان نحو مصيره الخاص؟
الإجابة المستخلصة هنا أن هذا غير ممكن،
وهو ما ذكرني برواية "هومو فابر" للكاتب السويسري الكبير ماكس فريش. فمثل
"هومو فابر"، تتناول "طيف ألكسندر ولف" "تيمة"
القدر، ومثلها تلعب المصادفة الدور الأبرز فيها في توجيه دفة السرد دون أن يضعف
هذا من الحبكة أو يسرِّب إلى القارئ أي إحساس بلامنطقية سلسلة المصادفات
المتتالية. تتفق الروايتان، المختلفتان جذريًا لجهة القصة والأسلوب، في أن كليهما أقرب
إلى مأساة إغريقية، المصائر القاسية لأبطالها محددة سلفًا، والنهايات مقررة بلا
أمل في مراوغتها منذ لحظة البدء.
لكن إن كان
فالتر فابر في رواية فريش يؤمن إيمانًا راسخًا بالعلم الحديث وبامتلاك الإنسان لمصيره،
ويسخر من كل ما حوله (في بداية الرواية على الأقل؟)، فإن ألكسندر ولف في المقابل
يؤمن بسطوة القدر ويتقبل صروفه بل يعيش منتظرًا إياها بحس رواقي لا تشوِّش عليه أي
بادرة تمرد أو شك.
في النهاية،
تبقى الإشارة إلى الترجمة المتميزة للمترجم السوري هفال يوسف وإلى الدقة التحريرية
التي تميز إصدارات دار الكرمة.
* نقلًا عن جريدة أخبار الأدب.