رأى نفسه واقفًا في ساحة مكشوفة مستندًا إلى جدار، وفوق بناية
قريبة يتحفز قنّاص مصوبًا البندقية إلى رأسه. شعور مخيف سيطر عليه وأعجزه تمامًا. ظل
مسمَّرًا في وقفته لوقت طويل: لا القناص أطلق النار، ولا هو ابتعد عن مرمى القنص.
كل شيء حوله بدا مهتزًا: البناية، القناص، أشجار الحور
القريبة، والحائط خلفه.
هو نفسه كان يترجرج كأنه سائل في إناء مرن. استولى عليه
دوار مصحوب برغبة في القئ. مرّ بمواقف أصعب في حياته، بل كانت حياته سلسلة من
المواقف الأصعب، ومع هذا أحس بانقباض لم يختبره قبلًا، ثم بدأ الدوار ينسحب
رويدًا.
راح تأثير الحقنة اليومية. عادةً ما ينتبه بسرعة لبدء
الغياب التدريجي لتأثيرها، يشبه الأمر انقشاع بطيء لشبورة صباحية، أو ذوبان مادة
صلبة في ماء دافئ.
يتغير موعدها من يوم لآخر. "مجرد حقنة مهدئة."
يقول الحارس كمن يخاطب نفسه. يتفحص الذراع بحثًا عن الوريد ثم يفرغ محتويات المحقن
فيه، قبل أن يغادر الغرفة سريعًا.
كل مرة يُهيأ له أنه يشعر بخط سير الدواء وهو يسري في
جسده جالبًا معه تنميلًا شديدًا. تثقل ردود أفعاله حتى تكاد تنعدم، يغدو غير قادر
على رفع يده. ينغلق جفناه رغمًا عنه، ويلف رأسه كدوامة، ثم تنهال الهلاوس عليه. لا
بد من أنها هلاوس لأنه يتذكرها بالكاد حين ينتهي مفعول المهدئ، وما يستعيده منها
لا علاقه له – في الغالب – بحياته أو ماضيه.
تحمله ضلالاته إلى أراضٍ أخرى. يرى نفسه فوق قمة جبل
والسحاب يمر بجواره بحيث يمكنه الإمساك به لو أراد، تزوره غابة أشجارها على وشك
التجمد من شدة البرد، وفي بدايتها كوخ صغير - تغطيه من الخارج نباتات متسلقة بزهور
أرجوانية وحمراء- ويخرج منه رجل وامرأة منشغلان بنفسيهما عمّا حولهما. كما يجد نفسه
مرارًا وقد هرب من مكان احتجازه، وركض نحو الجانب الآخر من التل إلى أن لم يعد
قادرًا على الحركة خطوة إضافية، فيقف مُشرفًا على الصحراء الممتدة بالأسفل، يُخيل
له أنه يلمح بستان زيتون، على رأسه مقعد يجلس فوقه رجل وامرأة، وأمامهما بئر
تمْثُل كحد فاصل بين خضرة أشجار الزيتون الباهتة وأصفر الرمال اللانهائية، ثم
يتلاشى الرجل والمرأة والبستان والبئر، ويلحق به الحراس ويقتادونه مجددًا إلى
محبسه، تدهشه العادية التي يعاملونه بها كأنه لم يفر منهم، لكنه سرعان ما يتناسى
هذا ويستسلم لوهم جديد.
يدفس وجهه في الوسادة، ويغمض عينيه، محاولًا فصل وقائع
حياته الحقيقية عن ضلالاته، فلا يفلح.
في الصالة شبه الخاوية، كان أحد الحراس يصرخ، مناديًا زميلًا
له بلكنة ريفية خشنة. يتصرفون كأنه غير موجود، مع أنه موقن من متابعتهم لأخفت حركاته، بحث مرارًا
عن "كاميرا" مراقبة في غرفته، فلم يجد. خمن أنهم يستخدمون نوعًا متقدمًا.
في الصباح يتركون له بضعة أرغفة خبز وقطعة جبن، ووقت الغداء يضعون على الطاولة الجرداء
طبق فول أو عدس أو في أحسن الأحوال قطعة لحم يابس مع أرز وفاصوليا تسبح في دهون كثيفة.
غرفته لا تُغلَق من الداخل بترباس، وهم لا يغلقونها عليه
بالمفتاح من الخارج، بإمكانه فتحها وقتما يشاء للتجول في البيت أو الخروج للحديقة
ذات الأسوار بالغة الارتفاع. والبوابة الحديدية، المغلقة دومًا بإحكام، يحرسها كلبان
لا يكفان عن النباح طوال الليل، يجاوبهما عواء ينبعث من بعيد فيصل ضعيفًا. وما عدا هذا، فالصمت راسخ معظم الوقت.
من نافذة غرفته، حيث اعتاد الوقوف محدقًا في الفراغ
الخارجي، يمكنه رؤية الحراس الستة: قطعوا شجرتيّ لوز ونظّفوا الأرض، ثم نصبوا خيمة
كبيرة، قضوا النهار بكامله داخلها، يثرثرون بأصوات مزعجة، وهم يلعبون الورق. أعدوا
شايًا فوق نار، أشعلوها في حطب، جمعوه من الحديقة، وواصلوا حكيهم، من غير أن ينظروا
نحوه، أو ينتبهوا لمراقبته إياهم. يستفزه استرخاؤهم وتكاسلهم
وتصرفهم كأنهم لا يعرفون من هو، ولا يدركون خطورة احتجازهم له.
يحاول تخيل مستقبله القريب، توقُع أين سيكون خلال عام
مثلًا: سيُدفَن في حفرة بالصحراء الشاسعة أسفل التل؟ أم أن هناك بالفعل بئرًا –
تجاور بستان زيتون – ستُلقى جثته في أعماقها، حيث الظلمة والبرودة؟ تستحضر تخيلاته
رجلًا وامرأة جالسين إلى مقعد قريبًا من البئر المفترضة، غافلين عن أن قاع البئر يحتضن
جثة. يطرد الفكرة المزعجة من رأسه. في الغالب سيظل هنا "ضيفًا" على من
لا يعرفهم ويتظاهرون بأنهم يجهلون هويته.
يشغل نفسه بتخيل
سيناريوهات عنيفة محتملة؛ لأن هذا وسيلته الوحيدة للهرب من ذكرى صارت بمثابة
الإطار لحياته الواعية، ذكرى يد مرتعشة تبحث – بلا طائل – عن قشة تتعلق بها.
وحدها تلك اليد لا ينساها، وحدها لا يقدر "الدواء
المهدئ" على تبديد ذكراها، بل يشحذها ويقويها.
يد القائد المرعوبة وهي تتشبث بالكرسي في محاولة للصعود،
فيما الجسد يرقد بالأسفل مضرّجًا في دمائه، وطلقات الرصاص تنهمر بلا توقف. لم يمد له
يد العون. لم يفعل أي منهم. الرفاق انشغلوا بإخراجه هو سالماً، بينما تُرِك القائد
مكللاً بنياشينه ورصاصات حوّلت جسده إلى مصفاة.
رأى المؤامرة تقترب. شعر بخيوطها وهي تُحاك حول القائد. لم
يحذره، فحتى لو فعل، ما كان الرجل سينصت، كانت الكلمات ستتطاير حوله، كذرات غبار، فيما
يحدق هو منتشيًا، في المرايا العديدة التي تكسو جدران غرفته المفضلة في القصر.
كان بجواره حين سقط. منحته السترة المضادة للرصاص حياةً أخرى،
في حين رفض القائد ارتداء سترته، مهونًا من أي خطر محتمل، في ظل عشق الجماهير له.
حماه الرفاق هو، أحاطوا به وسحبوه إلى الخارج. أصبح
أملهم الوحيد. في لحظة واحدة، بات القائد جزءًا من ماضٍ نازف، وعبئًا عليهم جميعًا
التخلص منه، في ركضهم من أجل النجاة.
خلال آدائه اليمين خلفًا للقائد، رأى بعينيّ ذاكرته، اليد
المتشبثة بحياة تنفلت إلى الأبد. تجاهلها مخمورًا بنشوة الحدث، وظنها ستكف عن مخايلته.
يومذاك، صمم على ارتداء حُلّة مدنية، أخذ قرارًا - بينه وبين
نفسه - بهجر الزي الرسمي بلا عودة أو ندم. هاجس ما وسوس له بأن الزي المُزَيَّن بالنياشين
جالب للموت، بأنه وحده ما نادى القتلة وأغواهم.
خلعه، لكن لم ينزع بقاياه من داخله ولم يرغب في ذلك. من
وجهة نظره، لم يكن مجرد رداء، أو علامة على نمط حياة بعينه. كان الحياة نفسها، وجهه
ووشم النار على جسده. عهد لا تنبغي خيانته، وتكليف لا تنصل منه.
"لم نخنه حين تركناه لمصيره، ونجونا بحياتنا"!
كان يردد بصوت مجروح، ما إن يبدأ مفعول الحقنة في
السريان، مبررًا مسلكه هو والرفاق بأن القائد، في تلك اللحظة، كان رجلًا ميتًا حتى
لو لم تغادره الروح بعد. وبالفعل، بالنسبة لهم، مات القائد قبلها بسنوات، حين تخلى
عن الحذر، وغرق في مراياه الخاصة.
في سنواته الأولى خلفًا للقائد، عاهد نفسه على ألّا يكونه،
ألّا يفعل أي شيء يقربه منه. بالغ في محو كل ما يُذَّكِّر به.
هجر المرايا لكنها لم تهجره. رأى وجهه منعكسًا في كل شيء،
في الصور بالشوارع، في وجوه حاشيته، في الجرائد وفي العيون الخائفة في مواجهته. كل
الأشياء أضحت مرايا تعكس صورته.
***
راقدًا في فراشه، يتخيل مسار سريان الدواء في جسده،
فيبدأ عالمه في الاهتزاز والتأرجح، تواجهه شاشة تليفزيون صورتها بالغة التشوش،
وينبعث منها وشيش مزعج، تعيده إلى انقطاع البث التليفزيوني يوم الاغتيال. لطالما
أعاد مشاهدة مشهد القتل. قبل انقطاع البث، رأت الملايين القائد غارقًا في دمه، ويده
اليائسة تحاول التشبث بقشة الحياة دونما طائل، ومع هذا حبس الجميع أنفاسهم غير قادرين
على تصديق أن الموت بإمكانه قطفه كغيره من الفانين.
خيم صمت ثقيل منذر بالأسوأ. خلت الطرقات، وهجر الناس المقاهي
في غضون دقائق. كانت العربات تكاد تطير في الشوارع. يتسابق ركابها من أجل العودة لبيوتهم،
وإغلاق أبوابها عليهم.
شُدِدَت الحراسة على المنشآت والمؤسسات الحكومية. ضباط
قوات خاصة بملابس سوداء أشهروا الكلاشينكوفات في كل مكان. قناصة تمركزوا في أماكن مختارة
بعناية. احتلت المدرعات الميادين ومداخل المدن الكبرى.
ثم بدأت التفجيرات. بعد هدوء مميت دام ليومين، في اليوم
الثالث بعد الاغتيال، نُفِذت العملية الأولى. عربة مفخخة انفجرت في ميدان رئيسي
بالعاصمة. عشرات القتلى وأضعافهم من المصابين. لم يكن يمر يوم دون تفجير في مكان
ما. هوجمت أقسام الشرطة ومديريات الأمن، حُرِقَت مقار حكومية، وكان لا بد من
مواجهات مع المتمردين في جنوب البلاد.
كان الرفاق على أعصابهم، خائفين من أن تخرج الأمور عن
السيطرة، لكن رباطة جأشه كانت معدية. من تعاملوا معه عن قرب، في تلك المرحلة،
كانوا شبه موقنين من أنه ينتشي أكثر كلما ازدادت الفوضى، كأنه بصدد لعبة يتضاعف
إغراؤها كلما تعقدت. كان يعد المسرح لإطلالته الأولى من موقعه الجديد: موقع المُنقِذ.
يدفس وجهه في الوسادة، فيرى نفسه يلقي خطبة فوق أنقاض
مديرية أمن سُويت بالأرض في انفجار أخير، يتحدث عن فرض قانون الطوارئ، ويقسم أن
يثأر ممن اغتالوا القائد، وهددوا استقرار البلد وأمنه. يبصر معتقلات امتلأت بالمساجين، ومتمردين أُعدموا رميًا بالرصاص في
الميادين العامة، وأُجبِر أهاليهم على دفع ثمن الذخيرة التي قتلت أبناءهم.
يستدعي تنقله بين المدارس ورياض الأطفال كي يتأكد بنفسه
من أن التدريب على الرماية صار مادة دراسية، يُشترَط النجاح فيها بتفوق من أجل
التخرج، لتجهيز أجيال من القناصة ومحترفي الرماية. أجيال مهنتها المراقبة
والانتظار استعدادًا للقنص، ويرى أفرادها العالم عبر مناظير بنادقهم، ثمة وسيط
يلوِّن رؤيتهم لما حولهم ويرسم ظلالها.
يستعيد خُطبًا أسبوعية حرص على التطرق فيها لكافة الشئون
الحياتية للناس. كان يحلو له حكي جوانب من المعارك التي خاضها، حواديت وطُرف عن
أيام حصار فرقته في حرب بعيدة، أو تيهه في الصحراء بعد نجاته وحده ذات مهمة خطرة.
تفاصيل يمررها بين ثنايا كلامه فيبدو كمن يحكي لأصدقاء قدامى عمّا حدث في غيابه
عنهم، لكن كان لها مفعول السحر ضد معارضيه. كان كأنما يقول: "من هؤلاء؟ أين كانوا
وقت كنا نقامر بحياتنا من أجل البلاد؟ في الخنادق غرقنا في الظلام بلا همسة قد تدل
الأعداء علينا، زحفنا في الصحراء، ودفننا أشلاء رفاقنا. والآن يأتي هؤلاء الخونة والمأجورون
كي يرطنوا بكلمات لا يفقهون معناها. لو أُتيحت لهم نصف فرصة
لتحولوا إلى غوغاء صارخين ومثيري شغب ينشرون الفوضى والخراب".
وقتذاك لم يخطر بباله أن "الخونة والمأجورين"
لن يكون لهم علاقة بنهايته. وأن نارًا، اشتعلت قبل سنوات، وأتت على القائد، ستواصل
التهام آخرين.
***
في ساعات الفراغ الممتدة، كان يستغل خلو جسده من المادة
المهدئة في محاولة تخيل ما يحدث بالخارج. هل استتب الأمر لرفاقه، رفاقه السابقين
وأعدائه الحاليين بالأحرى؟ أم أن المحرقة مستمرة، والبيت أعلى التل في انتظار نزيل
جديد قريبًا؟
لكن، لا. من الغباء لم شمل أكثر من ثعلب محنك في مكان
واحد حتى وإن كانت ثعالب فقدت سطوتها. مؤكد أن هناك بيوتًا أخرى شبيهة، أو سجونًا
سرية لأصحاب المقام الرفيع.
ذات ظهيرة حارة حدث أمر ظنه يجيب على تساؤلاته. وصلت
عربة تحمل طاقم تصوير تليفزيوني: مخرجًا بلحية مشعثة وشعر طويل ونظارة شمسية تأكل
نصف وجهه، ومصورًا عصبيًا بوجه شحيح التعبيرات.
الاثنان يتصرفان بحرفية عالية ويبدوان كعميلين سريين
أكثر من كونهما مخرجًا ومصورًا. المخرج تحديدًا يتعامل بسلطة واضحة وفي عينيه نظرة
هازئة على الدوام.
أدخل الحراس "ضيفهم" إلى غرفة بها دولاب ملئ
بملابس فاخرة، حددوا له أي حلة سيلبس، واختاروا أدق الإكسسوارات المصاحبة من منديل
حريري وربطة عنق باريسية. كانوا قد حلقوا له ذقنه وهذبوا شعر رأسه في الصباح دون
إخباره بالسبب. اجتهد الماكيير، الذي ظهر فجأة بعد أن ظل بعربة التليفزيون لآخر
لحظة، في إخفاء آثار عدم النوم والهالات السوداء تحت عينيّ "المُنقِذ".
يكاد الأخير يقسم أنه لمح ارتعاشة يد الماكيير وهي تقترب من وجهه، كان الرجل يتهرب
من النظر في عينيه وأصابعه تتحرك بتردد وارتباك على البشرة الداكنة.
أعطاه قائد الحرس خطبة جاهزة، وطلب منه قراءتها، والتدرب
على إلقائها. سنواته السابقة جهزته للمهمة جيدًا. يعرف متى يعلو صوته محتدًا مهددًا،
ومتى يرتجل تعليقًا شارحًا لفقرته السابقة بعامية حاذقة. دقق المخرج كثيرًا في
الأجزاء المرتجلة، أو شبه المرتجلة لأنها مكتوبة أيضًا، إذ ليس مسموحًا له بالخروج
عن النص. عليه فقط إقناع مشاهديه بأنه يرتجل، بأنه ذاته القديمة:
"المُنقِذ" الذي عرفوه وخافوا منه وكان لسنوات المتحكم في مصائرهم، ومحدد
درجة الظلمة في كوابيسهم.
أصبح حضور طاقم التصوير التليفزيوني مألوفًا. مرة
شهريًا. يصورون خلالها أربع خُطب، وأحيانًا يجيئون في غير موعدهم، متعجلين
مرتبكين، لتسجيل كلمة سريعة. فيفهم أن حدثًا طارئًا قد استجد. يجهد عقله في محاولة
استنتاج ماهية هذا الحدث دون طائل، فحوى الخُطب يخبره بأن ثمة اضطرابًا هائلًا
بالخارج، وأن رفاقه القدامى ما زالوا في حاجة إليه، أو للدقة مازالوا في حاجة
لخيال المآتة المتوعد في الخُطب التليفزيونية المُسجلة. يتساءل متى سيتحول إلى
"كارت" محروق في أعينهم؟
مع الوقت، باتت النظرة الهازئة في عين المخرج تضايقه، لا
يفهم مبررها، ولا يعرف إن كانت موجهة نحوه، أم قناعًا لا غنى للرجل عنه، لكنها
كثفت شعوره بمأساوية وضعه، بأنه صار ممثلًا هزليًا أو دمية بلا قدرة على اختيار
كلماتها الخاصة، أو تحديد ما يدخل جسدها من طعام أو دواء.
تأكد هذا الشعور حين فقدت نصوص الخُطب الاتساق، وأضحت "إسكتشات"
يخاصمها المنطق. بدأ يتلجلج غير واثق مما يقوله، ولا بأي نبرة عليه النطق به. توقف
مرات، غير عابئ بغضب المخرج ولا باحتجاجاته، إلّا أن ظهور الحراس، ببنادقهم
ونظراتهم المهددة، كان يدفعه لاستكمال التصوير.
تغادر عربة التليفزيون، فيلجأ إلى غرفته. يحاول تناسي كل
ما يخص الخُطب المتناقضة، فالتفكير فيها لن يقوده إلى شيء. لا علامات ترشده إلى ما
يجري في العالم خارج هذا البيت، ولا إلى سبب احتجازه فيه، بات حتى غير متأكد من
هوية من اختاروا له هذه النهاية.
لا دليل على ماضيه، سوى ارتعاشة يد الماكيير، وهي تقترب
من وجهه. ولا ضمانة لحاضره، سوى بانغماسه في أداء دور لا يدرك أبعاده. حرص لاحقًا
على نيل رضا المخرج، أو على الأقل تجنب غضبه. تجاهل نظرة السخرية في عينيه، ولاحظ
أن الرجل كأنما يمنع نفسه بالكاد من التفوه بما قد يزيح بعضًا من الضباب العالق في
الأجواء.
"يللا يا بطل!" عبارة يكررها المخرج، لحثه على
التجويد. النبرة المغلفة بالهزل، كانت تبعد مفردة "بطل" عن ميادين
القتال وساحات المعارك، وتلقي بها في ملاعب الطفولة، فلا يسع "المُنقِذ"
إلّا رؤية نفسه طفلًا مترب الوجه، يلعب كرة القدم مع أصدقاء طفولته، وينتظر هتافات
التشجيع. وجهه المترب القديم ذاك، يكون آخر ما يراه قبل نومه كل ليلة، مصحوبًا
بعينين يغمرهما الاستهزاء، ويد مدماة تستميت للتشبث بأي شيء.
وكما أشرق طاقم التليفزيون فجأة في أفق حياته، غَرَب
عنها مجددًا دون تحذير. لم يخبره أحد أن تلك كانت آخر مهامهم. في موعدهم الشهري
المفترض، استيقظ من نومه مبكرًا، جهز نفسه نفسيًا لجمود المصور، وتكاسل المخرج
الهازئ، وتوتر الماكيير وهو يتعامل مع بشرته. مرت الساعات، وهو في غرفته. لا صوت
ينبئ بوصول عربة التليفزيون، لا أوامر له بارتداء بزة مختارة بعناية، ولا أوراق
مطلوب منه التدرب على إلقائها. فقط أحضر له أحد الحرس، في الصباح، رغيفين وبيضة
وشرائح جبن رومي وثمرة طماطم، ثم تشاغل الجميع عنه، بجلستهم المعتادة على كليم
صوفي في الخيمة بالحديقة، يلعبون الورق ويدخنون السجائر بشراهة.
وقت الغداء، راقدًا في فراشه، بدأ يتأقلم مع فكرة أنه
سيقضي اليوم وحده. التهم طبق الفاصولياء الغارقة في الدهون، دون أن يعي طبيعة ما
يأكله بالضبط، وأجهز بعدها على طبق الأرز وقطعة اللحم، ثم عاود الرقاد. نام وأفاق
مع حلول المساء. لم يسأل قط عن سبب غياب المخرج وفريقه، لأنه لو سأل لما اهتم أحد
بالرد عليه. لو حدث وخاطب أحد أفراد الحراسة لا ينظر إليه ولا يجيبه، يتجاوزه كأنه
هواء. لا يوجهون إليه أي كلام، يتكلمون عنه بضمير الغائب، ويكررون الإشارة إليه
بـ"المُنقِذ" كأن اللقب يسليهم. لم يتخيل من قبل أنه سيفتقد المخرج. رغم
معاملته له كطفل بليد، ونظرته إليه كمن يراقب فأرًا في مصيدة، كان الوحيد الذي
يوجه له كلمات مباشرة، حتى لو كانت أوامر وتعليمات.
***
في اليوم التالي، تلقى تعليمات مخالفة. أو للدقة تلقاها
حراسه، ولم يكلفوا أنفسهم عناء إخباره بها. اقتادوه عبر الحديقة بأشجارها المتشابكة،
ساروا به لمسافة غير عابئين بالأغصان وهي تخدش وجوههم وأذرعهم أو تعرقل سرعتهم. كانوا
يسحبونه كما لو كان جوالًا عليهم جره خلفهم، وكي يقلل من مهانة قبضة أيديهم عليه، حاول
تسريع حركته، فأي مقاومة ستكرس حالته كسجين، كحيوان يقاد إلى المسلخ.
امتدت الأشجار لمساحة لم يكن يتخيلها، انشغل بالنظر للعشب
المبلل قليلًا. من بين المسافات الضيقة بين قمم الأشجار، انسكب ضوء النهار داخل الغابة
المصغرة مُشَتَتًا ومُشَرَّبًا بغلالة قاتمة من ظلال الأوراق والأغصان.
وصلوا أخيرًا إلى نهاية الأشجار، مروا من باب، يتوسط سورًا
بالغ الارتفاع، وأغلقوه خلفهم، خرجوا إلى ضوء النهار في ساحة واسعة مسوَّرة، أعلى السور
أربعة أبراج مراقبة في كل منها قناص في وضع الاستعداد.
التقطت عيناه الخبيرتان أدق تفاصيل المكان: وضعية كل قناص
من الأربعة، زاوية التصويب المثالية، ومسحة الترقب المخيمة على الساحة كغيمة منذرة
بمطر غزير.
شعر بالأسف لأنه غير قادر على التقاط تعبيرات وجوه
القناصة من هذه المسافة. فوهات البنادق موجهة إلى جسده والحراس ابتعدوا عنه وغابوا
مرة أخرى خلف الباب المؤدي إلى الغابة المصغرة.
في ركن من أركان الساحة المستطيلة، وقف بعادية شخص ينتظر
في محطة أتوبيس. ثمة ترقب وملل ونفاد صبر، لكن لا وجود بداخله للخوف أو الرجاء.
تمنى ألّا تخونه يده، عند النهاية، بارتعاش متوسل ويائس، في محاولتها للقبض على
بقايا حياة هاربة.
مرت الدقائق ثقيلة. انشغل بتخمين من أي اتجاه ستأتيه
الطلقة الأولى، وتساءل – في سره - إن كانت زوجته ستُجبَر على دفع ثمن ذخيرة
البنادق الأربع. في طلعة أولى أمطر القناصة الساحة بطلقات متتالية. باغته الصوت
الأشبه بقذائف صاروخية. لا معنى للعب بأعصابه على هذا النحو، إلّا إذا كان الحدث
بكامله يُصوَّر لإمتاع آخرين، لم يعد واثقًا أنهم رفاقه السابقون. استمات للتماسك
في إطلالته الأخيرة على العالم.
أغمض عينيه، فغمره مشهد قديم، كأنه من حياة أخرى،
ويخص شخصًا غيره. في عشرينياته، وخلال إجازة من وحدته العسكرية، يجلس في مقهى يطل على
النهر. السماء غائمة، الجو بارد ومياه النهر رمادية. على الشاطئ الآخر "دهبيات"
بألوان باهتة تنكسر المياه على هيكلها من أسفل. من خلفها وفي المسافات بينها أشجار
نخيل وفيكس وبضع شجرات موز مثقلة بثمارها، ومرسى مطلي بأخضر داكن. قارب أبيض بإطار
أحمر حائل، مرفوع فوق رصيف نهري، وخلفه النخلات وأشجار الموز، فيبدو كتفصيلة ديكور
أكثر منه قاربًا في طور التجديد والإصلاح.
الكوبري الحديدي الواصل بين ضفتي النهر يعبره قطار سريع،
صوته كطلقة مدوية، وسارينة إسعاف ترد عليه، فتشوِّش عليها أبواق سيارات وضجيج
مكتوم لمحركات قوارب تمر من وقت لآخر. ومن الطاولات المجاورة يأتي قرع كؤوس وأدوات
مائدة وثرثرات متداخلة. على الضفة التي يقع فيها المقهى، كان ثمة غراب يُحلِّق فوق
مراكب راسية يهدهدها الماء على مهل.
يعرف أن الرصاصة التي ستقتله لن يسمع صوتها، لكنه لم
يتخيل قط أن يكون صوت قرع كؤوس زجاجية وأدوات مائدة وثرثرات بلا معنى، هو ما سيحتل
ذهنه، بينما ينتظر مصيره ملتصقًا بالحائط، قبل أن يتهاوى مرتميًا على الأرض.
لم ينتبه إلى الطيور الفزعة، وهي تهجر أعشاشها على
الأشجار القريبة، مكونة سربًا مرتبكًا هائجًا، لا يعرف إلى أين يفر، ولا مِمَ
بالضبط! لكن بينما تبتلعه الظلمة تراءى له جناحا غراب يرفرفان فوق مراكب راسية على
ضفة نهر.
فصل من رواية "أخيلة الظل".. دار التنوير 2017*