منصورة عز الدين
يحلو للكثيرين تشبيه فعل الكتابة بوضع
رسالة في زجاجة ورميها في البحر أملًا في أن يلتقطها شخص ما. بالنسبة لي، الكتابة
أشبه بالوقوف وحيدة، خلف حائط صلد ومصمت، للكلام أو الهمس أو الصراخ، مع يقين بأن
لا أحد في الجهة الأخرى. ما يدفعني للمواصلة أمنية خافتة بأن يكون للحيطان آذان،
كما يقال.
أسلافي، أو من آمل في الانتماء إلى
سلالتهم، هم المعتصمون مثلي خلف حوائط مصمتة، مَن التهمتهم الشكوك نفسها، مَن
واصلوا الهمس والكلام والصراخ وخبط رؤوسهم في جدران؛ يخدشونها فتنخدش أرواحهم
معها، دون ضمانة بأن هناك؛ على الجانب الآخر من ينصت لهم أو يهتم بكلماتهم.
أفكر أحيانًا في أننا ربما لن نتحرر ككتاب
لنكتب ما يخصنا حقًا، لا ما يُتوقع أو يُنتَظر منا، إلا إذا آمنا بأن الكتابة
الحقة هي الكتابة للا أحد، للفراغ، للعدم. أكتب هذا، فأتذكر الروائي المجري ساندور
ماراي، فحين اضطر لمغادرة وطنه بسبب معارضته للنظام الشيوعي الذي حكم المجر بعد
الحرب العالمية الثانية، وجد نفسه أمام خيارين: أن يكتب بالإنجليزية التي يجيدها،
أو أن يستمر في الكتابة بلغته المجرية مع متغير جديد مفاده أن كتبه ممنوعة من النشر
أو التوزيع في مسقط رأسه.
اختار ماراي الكتابة للفراغ بلغته الأم في
غياب شبه كامل لقرائه. فعل هذا لأنه خشي إن كتب بالإنجليزية أن ينزلق إلى تفصيل
كتاباته على مقاس ذائقة أجنبية تبحث فيها فقط عن هجاء للشيوعية أو تنظر إليها
كوثيقة اجتماعية عن بلد يقبع خلف الستار الحديدي للكتلة الشرقية. دفع صاحب
"كازانوفا في بولزانو" عقودًا من العيش في ظل النسيان والتجاهل ثمنًا
لاختياره هذا، وربما لم يتخيل مطلقًا، وهو يطلق رصاصة على رأسه في سن التاسعة
والثمانين هربًا من المرض والاكتئاب والوحدة، أن أعماله سيُعاد اكتشافها خلال سنوات
قليلة من انتحاره لتُترجم للغات عديدة وتلقى ما تستحقه من تقدير لتضعه، في مصاف
أهم كُتَّاب العالم في القرن العشرين.
أتذكر أيضًا ميخائيل بولجاكوف بخياله
الجامح وغير المألوف. من بين كُتَّاب كثيرين أقدِّر موهبتهم، وحده بولجاكوف من
جعلني أومن بأن "المخطوطات لا تحترق"، وأن للأدب طريقته الخاصة في تخطي
القمع والرقابة والبقاء شاهدًا عليهما وفاضحًا لهما. أحرق الروائي الروسي مخطوطة
روايته الأهم "المعلم ومارجريتا"، ثم أعاد لاحقًا كتابتها من الذاكرة،
لتنشرها أرملته عقب رحيله بربع قرن، بعد أن عاش لسنوات يخبئ مخطوطات أعماله في
الأدراج لاستعصاء نشرها في ظل نظام قامع لن يتحملها أو يتسامح مع كاتبها. لذا كان
من الطبيعي أن يقيِّم بولجاكوف أعماله وفقًا لاستحقاقها الإخفاء بعيدًا في ظلمة
درج ما مع ما سبقها من مخطوطات، عرفنا لاحقًا عبر "المعلم ومارجريتا"،
أنها لا تحترق مهما حاولت النار إفناءها.
كما هي العادة عند الحديث عن العائلات
والأسلاف، ذِكر بولجاكوف يقودني في الحال إلى نيقولاي جوجول بهجائه الحارِق
المُعادَل بسخرية لا تُبارَى. كان أيضًا، وعلى طريقته الخاصة، من سلالة اليائسين
المرتابين المتشككين في جدوى التواصل عبر الكلمات، ومع هذا برعوا في تفجير أقصى
الطاقات التعبيرية للغة، وشيَّدوا بالكلمات قصورًا وكاتدرائيات وأبراجًا وبيوتًا
تمد العابرين بها بالدفء والسلوى.
حَرَق جوجول مخطوط الجزء الثاني من رائعته
"الأنفس الميتة"، وبما أنني قضيت بعضًا من أمتع أوقاتي في قراءة جزئها
الأول، فالفضول بخصوص المحتوى المحتمل للمخطوطة المحروقة يتملكني من وقت لآخر، لكن
فضولي يمتزج بالامتنان حين أتذكر درس بولجاكوف: "المخطوطات لا تحترق".
ففي الهواء المتخلل لتاريخ الأدب والمنتشر في ثناياه تظل نبرة جوجول حاضرة،
لترشدنا وتشحذ مخيلتنا كي نسعي لترميم ما احترق وتخيل سيناريوهات مفترضة لعملٍ
ضاعف غيابُه من حضوره.
أما كافكا فيأتي على رأس هؤلاء المتشككين
اليائسين، ويروقني -كلما خطرت لي تفصيلة طلبه من صديقه ماكس برود حرق أعماله غير
المنشورة- الاعتقاد بأن لمخطوطات كافكا إرادة خاصة دفعتها لرفض الاحتراق والإيحاء
لبرود بالرضوخ لما تريده هي.
تطول القائمة لتشمل أبا العلاء المعري،
التوحيدي، امرأ القيس، طرفة بن العبد، النفري، المؤلف المجهول (المؤلفين
المجهولين؟) لـ"ألف ليلة وليلة"، طه حسين، عبد الفتاح كيليطو، خوليو
كورتاثر، إرنستو ساباتو، كارلوس فوينتس، جين ريز، بورخيس، خوان رولفو، فاطمة
المرنيسي، جاك دريدا، زيبالد، لاو تسي، تشانج تسو وآخرين. بدون هؤلاء وغيرهم لكانت
حياتي قاحلة، ولكان يأسي أشد وأكثر تدميرًا.
هل قلتُ من قبل إن الكتابة فعل يأس؟! نعم،
كررتُ هذا مرارًا. هي أيضًا "موت الكلمات" كما سبق وكتبتُ في "جبل
الزمرد"، غير أن ما فاتني قوله، هو إنها فعل حب قبل أي شيء آخر، ومثلها في
هذا القراءة. القارئ بدوره ينتمي، عبر القراءة، إلى عائلة وسلالة ينتقيها من بين الكُتَّاب
والشخصيات الفنية. يغلِق القارئ كتابًا ما بإحساس من التقى لتوه بأقارب وأصدقاء
لم يكن يعرف بوجودهم، بإحساس من ساعده مؤلف ما على التعرف على أعمق هواجسه ومخاوفه
وعلى العثور على جزء من ذاته لم يكن يفطن قبلًا إلى غيابه.
أقول لنفسي أحيانًا: ربما في يوم ما، يغلق
قارئ أو كاتب كتابًا لي، وقد وجد فيّ أو في شخصية من شخصياتي الفنية نسيبًا لروحه.
ربما لم يكن الجدار الذي أهمس خلفه صلدًا بما يكفي لكتم صوتي، ربما كانت للحيطان
آذان بالفعل، وربما حتى استحال الجدار بحرًا يحمل كلماتي في زجاجة مجازية إلى مَن
سيختارون لي، وفق ذائقتهم وأهوائهم، سلالة ونسبًا، كما سبق واخترت لنفسي أسلافًا
وضعتهم معًا في عائلة مفترضة دون استشارتهم في خطوة يمكن تصنيفها في خانة اجتراء
الخلف على السلف وتعسف الحاضر على الماضي.
نقلًا عن موقع تكوين.. 2 سبتمبر 2019