Sunday, April 25, 2021

تحت جسر ميرابو*

 



جسر ميرابو





منصورة عز الدين


كان الجو معتدلًا ومشمسًا وأنا أخطو على رصيف "أوتيل دو فيل" صوب جسر ماري في طريقي للضفة اليسرى لنهر السين؛ ضفتي المفضلة الآن أو كما يُطلَق عليها: "حيث تعلمت باريس أن تفكر". ندمت لأنني أحضرت معطفي معي، لكن سرعان ما نفضت الندم عني. لا أحد يضمن تقلبات الجو هنا ولا في أي مكان آخر، ربما سينقلب الحال خلال أوديسة عودتي سيرًا.

كل مرة أقطع فيها الشارع الواصل بين جسر ماري وجسر لا تورنيل، يضحكني أن اسمه "شارع الجسرين". مؤكد أن من اختار له هذا الاسم لم يرغب في إجهاد نفسه على الإطلاق، مجرد وصف للأمر الواقع: الشارع الرابط بين الجسرين!

بمجرد عبوري جسر لا تورنيل، أنحرف يمينًا للسير على رصيف لا تورنيل، أدير ظهري للجهة الموصلة إلى حديقة تينو روسي وحديقة النباتات وبعدها جسر أوسترليتز، وأسير في اتجاه تدفق النهر وبموازاته وأنا أستعيد في ذهني عدد الجسور التي سوف أمر بها دون أن أعبرها حتى أبلغ وجهتي.

الجو جميل فعلًا، لكن ذهني مثقل وقلبي منقبض كما لو كنت ذاهبة إلى المقابر. رغم أجواء كورونا والإغلاق، يقتنص الباريسيون أي فرصة للفرح واستعادة إيقاع الحياة الطبيعية. معظم الوجوه غائبة خلف الأقنعة الطبية، باستثناء وجوه من يمارسون رياضة الركض وبعض من يجلسون بالأسفل على حافة النهر. يتجمع كثيرون على الأرصفة وفي الحدائق الصغيرة، يشترون أطعمة ومشروبات من مطاعم "التيك أواي" والمقاهي القريبة، ويبحثون عن بقعة مشمسة للجلوس فيها لتناول الطعام؛ مطاعم بديلة مرتجلة في ظل الإغلاق شبه الشامل.

لا وقت لدي للجلوس، أمامي مهمة يجب إنجازها، هذا ما أفكر فيه، ثم أعود لأسأل نفسي: أي مهمة هذه؟ ولماذا أصمم على التحرك في المدينة سيرًا حتى في حالة الذهاب إلى أماكن بعيدة كل البعد عن مقر سكني؟ ثم من يضمن لي أنني سوف أكتب عن كل هذا؟ ربما يكون ما أفعله مجرد طريقة ملتوية لتضييع الوقت والهرب من الكتابة. كل ما أفعله منذ وصلت إلى باريس يخلي حياتي، يفرغها مني ومن كل ما يخصني، ويجعلها ساحة مفتوحة لاستضافة الأطياف والأرواح الهائمة.

وحيدة؟! لا أكاد أقابل أحدًا أو أتواصل مع أحد؟! صحيح، غير أنني مع هذا مزدحمة بأطياف ريلكه وجين ريس وتسيلان وغيرهم، مزدحمة أيضًا بالكلمات؛ كلمات حبيسة لا أجد في نفسي القدرة على فك أسرها وإطلاقها إلى براح الكتابة، ربما أرغب في التماهي، على طريقتي، مع ما كتبه تسيلان يومًا من أن القصيدة اليوم تُظهِر ميلًا قويًا تجاه الصمت.

أمر بالمعالم نفسها التي سبق أن مررت بها يوم سرت إلى برج إيفل، لكن المشاهد مختلفة وزاوية نظري مختلفة أيضًا؛ أراها بعين جديدة. لا تزال عين الغريب نفسها، لكنها غربة مختلفة. المرة السابقة كان الجو أكثر برودة وقد انعكس هذا على سلوك الناس وعددهم، كما أننا لم نكن في عطلة نهاية الأسبوع.

نهر السين


أدوس على أوراق شجر صفراء، فأفكر في أن المشهد بحاجة إلى بعض الهواء كي تطير هذه الأوراق حولي. في الحال يحلِّق سرب من النوارس فوقي وينعق بصوت أقرب إلى العواء، ثم يبتعد عابرًا السين صوب الضفة اليمنى.

أسراب نوارس أخرى يطفو أفرادها على مياه النهر، والحمام يحط على ضفتيه للراحة أو بحثًا عن طعام محتمل، فيما أخطو أنا محروسةً بظلي. هذا يوم الظلال. ينبهني لهذا انعكاس ظلال الأشياء في الصور التي ألتقطها لها، الظلال في كل مكان بفضل إشراق النهار وضوئه الغامر.

"نحن قصائد" الشعار المكتوب بألوان قوس قزح على يساري، يعيدني إلى باول تسيلان وريلكه وأبولينير، ويذكرني بالغرض الأساسي الذي خرجت من أجله مقامرةً بأن يضيع يومي بلا كتابة باستثناء الفقرات القليلة التي دونتها في الصباح. يمكنني أن أكتب عندما أعود إلى القاهرة، لكن هناك لن يكون باستطاعتي اقتفاء خطوات تسيلان الأخيرة، ذلك الشاعر الذي لا أتأمل تدفق مياه السين الداعية للغرق دون تذكره.

أكاد أسمع صوت كارمن؛ زميلتي في المدينة الدولية للفنون، وهي تحكي بفرنسية وليدة عن مدام باخمان وقصيدة كورونا التي أهداها لها باول تسيلان. لوهلة ظننتها تتكلم عن شخصية أخرى غير إنغبورغ باخمان. لقب مدام أوحى لي بسيدة بعيدة كل البعد عن الشاعرة والكاتبة ذات الروح القلقة؛ التي انتحرت بدورها بعد تسيلان بسنوات قليلة؛ هو بالماء وهي بالنار.



عند نقطة ما في طريقي، يقابلني حشد من زهور نرجس بري تتمايل مع النسيم، فيعيدني هذا إلى شاعر آخر هو وليم ووردزورث وقصيدته الشهيرة "أزهار النرجس"، فأجدها تعبر عني، عن حالة التجول وحيدة كما غيمة تحوم عاليًا فوق الوديان والتلال، ثم مصادفة زهور نرجس بري متمايلة على وقع النسيم، تدخل السرور إلى نفسي وتذكرني بالشعر وبمباهج الحياة، مهما بلغت صعوباتها.

يخطر لي أن أحمل نرجسة لأهديها إلى روح تسيلان بإلقائها في السين من فوق جسر ميرابو، لكنني سرعان ما أستسخف الفكرة، أراها انتحارًا آخر، أو للدقة نحرًا لزهرة جميلة من الأفضل لها أن تذوي على غصنها كما هو مقدر لها. نرجس باريس يستبق الربيع، ويزهر في كل مكان أمر به حاليًا. أحب فبراير لأنه شهر الإزهار المبكر، ربيع قبل أوان الربيع.

مقطع من يوميات باريس، مكتوب يوم، السبت 27 فبراير 2021.

*"تحت جسر ميرابو" مطلع قصيدة شهيرة لغيوم أبولينير.