Tuesday, June 10, 2025

أطلس الخفاء: ندوب الحواس والذاكرة

 



يزن الحاج

 25يونيو 2022

تبدو رواية منصورة عز الدين الأحدث "أطلس الخفاء"، الصادرة أخيرًا عن دار الشروق القاهرية، وكأنها انطلقت من حيث انتهت روايتها السابقة "بساتين البصرة"، غير أن تاريخي كتابة العملين يباغتاننا، لأن العملين كُتبا بالتوازي تقريبًا. ثمة تقاطعات حتمًا بين العملين، وبين أعمال عز الدين السابقة، وثمة اختلافات بطبيعة الحال، إلا أن تناول أعمالها من ناحية التقاطعات والاختلافات سيظلم إحدى أهم تجارب السرد العربية في عقدَيْ الألفية. لا مكان للثنائيات، أو سباق التتابع في عالم عز الدين السردي، بل الأمر أشبه بقماشة واحدة متداخلة الألوان، لا بداية فيها ولا نهاية؛ لا خيوط كبيرة أو صغيرة؛ لا تفاصيل مهملة أو عابرة؛ لا سابق أو لاحق، بل حركة دائمة كأجرام السماء.


لا واقع أو خيال أيضًا، إذ تتلاشى هذه الـ "أو" من دنيا هذا العالم السردي، ليصبح الواقع خيالًا والخيال واقعًا، وليصبحا معًا عالمًا واحدًا عصيًا على التفكيك، لا فواصل فيه أو حدود: الأحلام تفاصيل واقعية أخرى بقدر ما تكون رتابة الواقع فسحة أحلام مختلفة. هذا ما كانت عليه الحال منذ مجموعة عز الدين القصصية الأولى "ضوء مهتز"، وليس انتهاء بكتاب الرحلات السردي "خطوات في شنغهاي" ذي العنوان الفرعي: "في معنى المسافة بين مصر والصين"، إن كان ثمة معنى للمسافة، أو كانت ثمة مسافة "حقيقية" في خريطة قماشة الألوان المتداخلة تلك.

تقدّم رواية "أطلس الخفاء" زاوية أو اثنتين من حياة مراد، موظف الأرشيف المتهرّب من التقاعد ما أمكنه، إلا أن تلك الزوايا تتكاثر وتتداخل إلى أن تصبح موشورًا يضيء بقدر ما يُخفي، ليترك فسحة لتخيّل ما خفي، ولإكمال ما نقص. هذا ما يحاول فعله مراد نفسه على أية حال حين يظن بادئ الأمر أن حياته منقسمة بين جبلين بينهما هوّة مرعبة. الواقع تفاصيل يومية عابرة، تبدأ في وقت محدد وتمضي في وقت محدد وتنتهي في وقت محدد كحياة الروبوتات التي لا تبدو على هذا القدر من السوء بالنسبة إلى مراد الذي ينفر من أي تغيير، أو تواصل، في حياته المضبوطة والضابطة لحيوات جميع من لا يشاركونه ولعه المرهق بالرتابة. وحين تأتي ساعة التقاعد أخيرًا لا بد من محاولة تحايل أخيرة، فيحاول مراد خلق حياة موازية، عالم مواز يترك لخياله فيه تنظيم التفاصيل وتشتيتها، وإنْ ظاهريًا على الأقل، إذا لا بد لمراد من أن يطل برأسه أحيانًا ليتأكد من انضباط الأمور حتى في الحلم.

يظن مراد أن في إمكانه الإبقاء على الثنائية الصارمة: واقع مقابل خيال، حيث الواقع بسيط، متقشف، عادي؛ والخيال معقّد، سخيّ، متفرّد. إلا أن للخيال تمرّداته التي لا سبيل إلى التكهّن بها، فالتفاصيل اليومية تُؤسطَر على نحو من الأنحاء حين تصبح ذاكرة تُستعاد، وتُؤسطَر بالكتابة، وكأن التذكّر لا يصمد ولا "يُخلَّد" إلا بالتدوين الذي سرعان ما سيغدو نقمة حين يلتهم الواقع ويمسح الذاكرة الأصلية. أصلية؟ لا نعلم حقًا، ولا يعلم مراد، لأن الفوارق بين الذاكرة الأصيلة والذاكرة المتخيَّلة قد تلاشت كليًا.

ليس الأمر عالمًا موازيًا بالمطلق، كما كان يتوق مراد ويتمنّى. لا ينتهي الواقع ويبدأ الخيال مع انغلاق الباب، بل يبدأ مع فتح الرأس واندلاق الأفكار التي ما عادت في حاجة إلى صفحات تقيّدها وتحدّ من جموحها؛ بات مراد يحلم وهو متيقّظ، بات خياله داخل واقعه، باتت ذكرياته شبيهة بمستقبله، وانتهى الحاضر بدرجة شبه كاملة. لا ينتهي الفصام بين الواقع والخيال مباشرة، إذ ندرك أن ثمة مرادين يدنو كلٌّ منهما نحو الآخر ببطء مطّرد إلى أن يتلاحما، بيد أن طريق الدنوّ تلك تكشف لنا كلّ مراد من هذين المرادين، على الأخص من ناحية الحواس المعطّلة لدى مراد الواقعي، والحواس الجامحة لدى مراد المتخيَّل/ المتخيِّل.
الواقعي ليس كائن طبيعة، أو حواس: فالشجرة شجرة، والطعمية طعمية مثلًا، غير أن كلًّا منهما تصبح عالمًا متفرّدًا حين يشرّح مراد نفسه بالتدوين. ليست الأشجار واحدة، إذ تتمايز باللون والملمس والرائحة وتقلّب الفصول، وليست الطعمية محض زاد يملأ المعدة بقدر ما هي عالم ذاكرة حلميّ يُشعل حواس مراد حتّى أقصاها، حتى درجة الاحتراق.

يدرك مراد، وندرك معه متأخرين، أن الروتين ليس سيئًا بالمطلق حين يكبح الخيال أو يُخفّفه، حين يضبط التفاصيل والوقت والحياة. بلا وطأة الروتين تلك ستكون العزلة التي ظنَّ مراد أنّها نجاته، إلى أن سحقته ـ للمفارقة ـ حين وسَّع عالمه ونسف الفوارق بينه وبين كلّ ما عداه.

مع كل رحلة، أية رحلة، من رحلة جلجامش إلى آخر مشوار مترو رتيب، لا بد من التساؤل: هل كانت تلك الرحلة روحية أم جسدية؟ رحلة مراد في "أطلس الخفاء" تبدو روحية، متخيّلة، رحلة ذاكرة وحسب، غير أنّ ندوب الذاكرة والأحلام باتت ندوبًا جسدية أيضًا مع نهاية رحلته، إلى أن حطّمته. ولكن لعل تلك الرحلة ضرورية، كما هي تلك الندوب ضرورية، ندوب الحواس في هذه العوالم السردية التي تَهِبنا حيوات أخرى بكل بهائها وجروحها.

نُشِر المقال على موقع "ضفة ثالثة" بتاريخ 25 يونيو 2022

 

أطلس الخفاء لمنصورة عز الدين: العزلة كقرار جلاد الذات وضحيتها معًا

 




إبراهيم فرغلي

24/مارس/2022

 

خلال قراءة رواية «أطلس الخفاء» للكاتبة منصورة عزالدين، الصادرة حديثًا عن دار الشروق، انشغلت بمدى أصالة رغبة مراد، بطل الرواية، فى العزلة. من أين بدأت؟ هل تتعلق بفترة الكهولة حين أصبح العالم الخارجى بلا معنى؟ أم أن تكوينًا بيولوجيًا ونفسيًا له دور فى هذا الأمر؟ 

ثمة إشارة وحيدة لأنه كان فاقد القدرة على التركيز فى صباه حين كانت الجدة خديجة تحاول أن تحفظه القرآن. مؤشر على صعوبات فى التعلم، أو إشارة لضعف القدرات الذهنية. لكن لم تأت مؤشرات أخرى لتأكيد الفرضية. بل إنه حفظ القرآن بحماس حين وعدته الجدة بأن تزوجه لهناء ابنة الشيخ، التى كان مغرمًا بها.

المهم؛ وأيًا كانت درجة أصالة رغبة مراد فى العزلة، فقد غدت تمثل أزمة وجودية فى اللحظة التى تلقى فيها الرد النهائى من إدارة العمل وأصبح لا مفر أمامه من الاستسلام للتقاعد. وهنا يواجه شبحًا كان يؤجل مواجهته لسنوات، وهو شبح التبطل، إذ سيحتاج طاقة كبيرة لمواجهة الزمن فى الفراغ التام الذى يعيشه بسبب العزلة التى يسوّر بها كل حدود حياته، فيقرر تدوين إشراقاته أو تجلياته أو استبصاراته

استبصارات أو تجليات تأتى كمحاولة لمقاومة مخاتلة الذاكرة ومكرها وضعفها، واستعادة لوجود شخصيات كادت تسقط فى قبو الزمن، مثل الجدة خديجة، بسبب فقدانها الذاكرة فى نهاية عمرها. الشيخة خديجة التى كانت تتولى مهام تحفيظ القرآن لأطفال القرية، وله أيضًا، التى فقدت لقب شيخة منذ فقدانها ذاكرتها وهويتها بالتالى

تتتابع التجليات فى نصوص مكثفة كما لو أنها، فنيًا وسرديًا، متتالية قصصية، بينما على مستوى المضمون، تمثل استشرافات تنتمى للرؤى، ولكن رافدها جميعًا الماضى، الجدة والأم والأخت: ليلى التى اختفت من حياة العائلة، لأنها قررت أن تتزوج من تحبه على خلاف ما أرادته العائلة، و«وردة»؛ الفتاة التى أغرم بها مراد فى صباه، ولكنه لم يمتلك قوة أخته فى الارتباط بمن يحب، بل اكتفى بالسخط والغضب من أهله لرفضهم زواجه من بنت تسكن فى «بيت العبد»، وهرب من بيت أهله لعام كامل، ليفقد وردة للأبد، ولا يجدها إلا فى الرؤى

الماضى فى الرؤى لا يأتى فقط من ذاكرة تتعلق بالماضى الذى يعرفه، بل بماضٍ يخص تاريخ البشرية، ماضى الوجود نفسه؛ كأن يرى العالم فى زمن الطوفان، ولكنه لا يعايشه كغريق، بل حى مع جدته يتنفسان تحت الماء، ويريان تفاصيل ومعالم للعالم الغريق، كأنها جزء من واقع يعيشانه دون أن يكونا ضحية للغرق!. 

استبصارات لعالم خفى، تمضى الجدة خديجة فى أحدها فى سيرها كما يراها معه فى الرؤى، بمنطق أن ما لا يبدى لكم لا يجب أن تطلعوا عليه، إيمانًا بستر الله الخفى

اغتنمت الكاتبة الإيقاع الصارم للنص؛ لدعم التفاصيل التى يتطلبها استدعاء كهل يرفض حاضره ويتشبث بماضٍ جميل. تفاصيل لروائح عطرية وزهرية وأشجار ونباتات وزهور، ومعمار وأبنية، ووجوه بعضها لأصدقاء طفولة، وبعضها لمن لا يعرفهم، وحدائق وجنان من كروم ونخيل، ومذاقات لأطعمة، بعضها ارتبط به مراد مدى حياته، وبعضه بقى كذكرى غائمة، أو كمذاق لا يتكرر فى الحياة إلا مرة واحدة فقط

لكن الهاجس الذى يسيطر على العوالم الثلاثة المتمثلة أولًا فى واقع مراد الراهن، وتاليًا فى ماضيه البعيد، ثم فى الاستبصارات، يتعلق بأزمة الوجود. بمراقبة مراد للعالم الذى يمضى فيه البشر وهم مستلبون، لا يعرفون ما ينبغى أن يفعلوه فى مواجهة الزمن.

هو نفسه فور التقاعد يراوغ ذاته ويذهب للحدائق والمتنزهات، أو يقرر أن يتناول الطعام فى مطعم، ثم يدرك الحقيقة التى يعرفها جيدًا، إنه لم يخلق إلا للعزلة

ربما فى هذا الإطار يمكن أن يعاد تفسير وجوده كله؛ إذ تخلى عن وردة لأنه يفضل العزلة فى أعماقه، وفشل زواجه لأنه لا يستطيع أن يعيش طويلًا مع شخص آخر، ولهذا أصر على عدم الإنجاب، فقررت الزوجة أن تعيش حياة جديدة مع شخص يتيح لها أن تصبح أمًا. يرتاح لغياب ابن عمه بعد فشل فكرة زواج الأخير من صاحبة البيت الذى يسكن به، ويرتاح لعدم اضطراره الذهاب إلى الإسكندرية لزيارة ابن العم، رغم أن الإسكندرية بالنسبة له هى مدينة العالم!.

العزلة، إذن، وفقًا لسيرة مراد، ليست أبدًا سيئة للمنعزل، بل هى من المؤكد تمثل جانبًا يسعد به. وقد أحالتنى شخصية مراد إلى فقرة كانت الشاعرة نوال العلى قد دونتها على النحو التالى:

"ثمة من يعيش معظم حياته منفردًا، السنوات الجيدة، بالنسبة للمنفرد، هى أن يتمتَّع بشىء ‏من العافية والقدرة على العمل وتصريف معيشته دون الحاجة إلى إنسان آخر."

لكن هل تظل سنوات المنعزل كلها سعيدة؟ 

أعود لنص نوال العلى: "المنعزل لا ‏ينعزل من تلقاء نفسه، ثمة أمور تحدث، ثمة قوة قديمة، عادة ما تأتى من الماضى، تدفعه ‏إلى قبوٍ يسقط فيه، وقد يطول سقوطه لسنوات. أصوات من الخارج تصله كأنها رصاصات ‏بعيدة ومتقطعة (..) فى العيش الانفرادى، لا شىء سوى أن تفكر، أنت ‏تكبر مثل نبتة تكرهها الشمس، نبتة تنمو بين الجدران، أنت لم تحس بجسدك منذ زمن."

هذه فقرة دالة جدًا فى وصف إحساس المنعزل، وهى تأتى كما لو أنها تصف هنا حالة مراد بالفعل، خصوصًا بعد أن فقد عمله. فقد الجانب الجيد فى وجوده كمنعزل مشغول. وغدا الآن منعزلًا لا حاضر له، ولا يوجد ما يشغله. ولهذا ربما تأتى التفاصيل التى يهتم بها مراد كما لو أنها أمور لها شأن ضخم، خصوصًا حين يفكر فى الطعام أو يتذكر وجبة تطير إليه على بساط الذاكرة ولا تزيد على ساندوتش طعمية فى عيش فينو.

"أطلس الخفاء" نص مكثف، صارم فى بناه، ومغامر أيضًا، ويتراوح على الحدود بين الواقع والحلم، يفتح بابًا للأسئلة عن العزلة والفردية ومعنى الوجود وطبيعة الذاكرة فى محاولتها لمواجهة المكر الذاتى لفكرة المحو. ويمثل بلا شك إضافة جديدة لمسيرة سرد منصورة عزالدين الملفتة، وللسرد العربى بطبيعة الحال.

نُشِر المقال بجريدة الدستور بتاريخ  24 مارس 2022


Monday, June 9, 2025

منصورة عز الدين في «أطلس الخفاء»: عندما يخلق الروائي جنته الخاص

 



 حاتم حافظ 

2022-03-10

 


أفكر أحيانا في أن الروائي– كل روائي– يشبه روايته، وأن كل روائي يكتب بالطريقة التي كان سيعمل بها في المهنة التي تشبهه، والتي كان يمكن– لو ضل طريقه للكتابة– أن يمتهنها. ثمة روائي معماري؛ لا يعمل إلا في أرض خلاء، يقيم معمارا ليشغلها، معمارا لم يسبقه إليه غيره، مثل نجيب محفوظ. وثمة روائي بنّاء؛ يمكنه إعادة بناء المعمار نفسه عددًا من المرات، لكنه يفعلها بمهارة كبيرة، مثل إحسان عبد القدوس. وثمة روائي غنائي؛ كان يمكن أن يكون شاعرًا غنائيًا، حتى ولو لم يكتب عن الحب، مثل بهاء طاهر. وثمة روائي حكّاء يدور في الساحات الشعبية ليروي سير شعبية عن البسطاء، وينشدها أحيانًا، مثل خيري شلبي. وثمة روائي يشبه منسقي الحدائق؛ يعرف كل نبتة وكل لون وكل عطر، يؤمن بأن الجنة– تلك التي غادرناها مضطرين– يمكن أن نخلقها حيث نكون.

منصورة عز الدين تبدو لي مثل ذلك الروائي منسق الحدائق؛ لا تزاحم أحدًا، ولا تشغلها المزاحمة. لا تقيم معمارًا لأنها ترغب في انبساط الفضاء أمامها، في أن تتمكن من مد البصر من أية زاوية وركن لتتطلع إلى الأفق. يمكنها من مكانها رؤية العالم كما لو أنه خُلق لتوه.

في روايتها الأخيرة “أطلس الخفاء” (2022)، الصادرة عن دار الشروق، ثمة شخص يتأهب للإحالة للتقاعد، مطلّق، يرغب في اعتزال العالم، للحد الذي يجعله يخلق العزلة إن لم يجدها. يعمل في جريدة قومية لكنه يعمل على هامشها: في الأرشيف. وبحجة تحسين دخله– رغم عدم حاجته لذلك– فإنه يعمل مصححًا لغويًا، لأنه يرغب في تصحيح خريطة العالم، فإن لم يكن قادرًا على إصلاح العالم فعلى الأقل يمكنه إصلاح أخطاء اللغة التي يجترؤها الذين يسكنونه. وهو في عزلته يهيم في استبصاراته: استبصارات سريالية أقرب للأحلام لكنه يبصرها متيقظًا. وهي كالأحلام يغيب عنها الصوت، أي صوت، وفي المرات النادرة التي يبدو فيها كأنه يسمع أصواتًا ما فإنه يدرك انبعاثها من عقله أو في عقله لا من العالم، حتى ولو كان العالم مجرد استبصار.

**

مادة الاستبصارات هي مادة ذاكرته لكنها تبدو كأنها ذاكرة أقدم، كأنها ذاكرة لا تخصه وحده؛ وإنما تخصنا جميعا؛ تخص أسلافنا. وعلى الرغم من أن أسلافنا ليست لديهم أخته ولا حبيبته ولا جدته ولا أمه، فإن أسلافنا كانت لديهم أخت وحبيبة وجدة وأم، كما لو أن سيرته الذاتية هي سيرتهم الذاتية، أو فلنقل إن سيرته الذاتية هي السيرة بألف ولام التعريف. سيرة من الرغبة في الاختفاء، ليس الرحيل، ولكن الاختفاء. إن يكون المرء غير مرئي مسألة، وأن يكون غير موجود مسألة أخرى. بالنسبة لهذا الشخص– مراد– فإن انعدام الوجود هو المراد، لكن انعدام الوجود بالنسبة له يساوي الوجود المكتمل، يساوي استعادة لحظة من التاريخ لا يمكن استعادتها: لحظة الوجود في “العالم الأول الذي وطأته أقدام آدم وحواء بمجرد نفيهما إلى الأرض، أو ربما تمثل الجنة نفسها”.

هذه اللحظة هي المعنى الحقيقي لاستبصارات مراد، تلك الاستبصارات التي قرر تدوينها بنفسه، والتي حدس أنها لا تتجلى إلا للمختارين، والتي تشبه “نثار من ذاكرة جمعية موروثة”. لهذا السبب فإن زمنها يمتد لـ “ذكريات الجنين”. يقول مراد: “أنا متأكد من أنني اعتدت سماع هذه الأصوات والإيقاعات، فيما أسبح في عتمة الرحم، وها هي تجلياتي مشكورة تعيدني إلى أيام هناءاتي غير الواعية”.



**

في الرواية صوتان: صوت الراوي العليم الذي يشكّل السردية الإطار التي يتحرك فيها مراد كشخصية حقيقية لديه عالم محدد ووظيفة معلومة وبيت يطل على شارع يمر به الغرباء. وصوت مراد نفسه خلال تدوينه لاستبصاراته. ورغم أنه– مراد في السردية الإطار– يدرك أن استبصاراته غرائبية فإنه يفكر في البداية في تدوينها بضمير الغائب “فمراد المستبصر لا يشبه شخصه الضعيف الفاني، بل هو تجسّد أرقى وأعلى وأعلم من ذاته” لكنه يعود ليقرر تدوينها بضمير المتكلم ذلك لأنه “لا مسافة تُذكر بين حالين للشخص نفسه، وإشراقاته ينبغي نسبها له وحده”.

فهو أنا والآخر، أنا والنحن، واستبصاراته لا تخصه وحده بل تخص الجميع، كما لو أنه وسيطا بيننا وبين العالم: العالم اللازمني، حيث اللاوجود يعني الوجود نفسه. وربما بسبب ذلك فإن العالم الذي يستبصره يميل للانحدار، لكن الانحدار هنا لا أظنه جُغْرَافِيًّا أو مَكَانِيًّا ولكن انحدار زماني إذا شئنا، كما لو أنه حفر في الزمن لا في المكان، كما لو أن الإنسان لن ينتهي في حفرة وإنما سينتهي في فجوة زمانية ما، فجوة ربما تعيده لأول الخلق.

**

الاستبصارات أيضا تطرح الأسئلة بخصوص الوجود، ليس فحسب بخصوص وجود مراد في العالم وإنما بخصوص الوجود البشري نفسه، كما لو أن أي وجود بشري هو ممثل للوجود في أكثف حالاته وأكثرها تمددًا. في أحد الاستبصارات يشاهد مراد سفينة تُبحر عند الأفق فيتساءل إن كان على متنها شخص ذو شأن “أينشتين جديد مثلًا أو إنسان سوف يلعب دورًا ولو بسيطًا في إخراج العالم من بؤسه” لكنه يتساءل “متى خلا العالم من البؤس؟ ومن بإمكانه إضفاء معنى على المعاناة والرتابة؟”.

ويرى في استبصار آخر مجموعة من الحاصدين الذين “يؤدون مهمتهم بهمة، ومع هذا لا يبدو لي أنهم يحققون تقدما يُذكر” ورغم تعاطفه مع الحاصدين فإنه يكتفي بالتلصص عليهم فلا يمد يده لمعاونتهم ولا يفكر في تحذيرهم من عبث ما يقومون به. يقول “حتى لو عرفت، بالقدر المخاتل الذي يتيحه الحدس من معرفة، السر الكامن خلف هؤلاء الحاصدين ومهمتهم العبثية، فلن يفيدني هذا في شيء، والأهم أنه لن يفيد قوم الحصاد هؤلاء، فمصيرهم– كما يتراءى لي– محدد سلفًا”.

**

لكن يظل الاستبصار الأكثر رؤيوية والذي يشكل نقطة البدء في معرفة الطريق لإصلاح العالم وما أفسدته الضغينة هو الاستبصار الأخير لمراد: “قلبي يحدثني بأن الشقاق الحقيقي بدأ على الأرض بالطوفان وما أحدثه من هوة لا سبيل إلى تجسيرها بين البشر؛ هوة تقسمهم إلى أشرار وأخيار، هالكين وناجين، من آمنوا بالفُلك طوقًا للنجاة ومن كفروا به وسخروا من صانعه. وعلى الرغم من هذا، أومن بأنني قادر على تطبيب هذا الجرح ومحو آثاره إن دفعت كل طرف لإدراك وجود الطرف الآخر، ولو عبر الحدس والخيال”. هذا الاستبصار يمكن أن نحدس بأنه يقود الرواية نفسها بين طرفي الواقع والاستبصار، بين العالم كمادة وبين العالم كروح، ونقطة تلاقي السردين: السرد الإطار الذي ينتظم في لغة استعمالية، والسرد التدويني الذي ينتظم في لغة مجازية، بين عالم الواقع وبين عالم الخيال، بين اليقظة وبين الحلم، بين الصخب: صخب الشوارع وضجيج المدينة وبين صوت عبد الوهاب وموسيقاه، بين المتن والهامش أو الأرشيف، بل وبين الغياب والحضور.

تمثل أطلس الخفاء فصلًا جديدًا من فصول المشروع الروائي الكبير الذي تعمل عليه منصورة عز الدين بدأب وهدوء منذ روايتها الأولى متاهة مريم 2004. واللافت والباعث على الإعجاب في هذا المشروع أنه متفرد للغاية، ويشبه أغاني عبد الوهاب الذي يبدو أن منصورة تتشارك الافتتان به مع بطلها، خصوصًا أغانيه المبكرة الرائقة مثل “عندما يأتي المساء” التي لها سحر وطلاوة لا تضاهيها أغان أخرى.

نُشِر المقال في موقع "باب مصر"، بتاريخ 10 مارس 2022