Saturday, March 2, 2013

مرآة 47




منصورة عز الدين

يجمع كثيرون على أن النازية قبل أن تقتل ملايين البشر، كان عليها أولاً أن تغتال اللغة الألمانية، أن تثقلها بالتعبيرات الخشبية، وتفرغ كلماتها من معناها، وتحولها إلى وسيلة قهر وقتل. فاللغة أيضاً يمكنها أن تقتل، خاصة حين يتم التضحية بها أولاً على مذبح "البروباغندا".
"من الملاحظات الجلية، أنه حيث يُمارَس العنف على الإنسان، يُمارَس أيضاً على اللغة"! هكذا لخص الكاتب الإيطالي بريمو ليفي الأمر، وهو من أُعتِقل في "أوشفيتز" لمدة عام وعرف الكثير عن ألمانية معسكرات الاعتقال، وكيف أنها كانت لغة أخرى بربرية لها قاموسها الخاص ومفرداتها القاسية التي تحوِّل الإنسان إلى مجرد رقم  (حرفياً لا مجازياً)، وتنزع عنه آدميته وهويته ممعنةً في حيونته.

وكتب آخرون عن ما أطلقوا عليه "لغة الرايخ الثالث"، أو تلك الرطانة الدعائية التي انحدرت بالألمانية من كونها لغة فلسفية عميقة وثرية تبحث عن الحقيقة، إلى نسخة مشوهة ومسطحة ابتذلها الإعلام النازي الذي حصر العالم في ثنائيات ضدية ضحلة، وخدر وعي الجماهير عبر مجازات مبالغ فيها، أفسدت اللغة وجردتها من ثقلها الأخلاقي.
لقد ألقى معتقد النقاء العرقي بظلاله على اللغة حيث كان يُنظر إلى استخدام الألمان لمفردات أجنبية باعتباره خيانة لغوية، من جانب آخر اخترعت آلة البروباغندا النازية، وأعادت إحياء، مفردات عنصرية أرادت بها أن تشرعن الإبادة العرقية وتمنح غطاءً وتبريراً للعنف غير المسبوق.

كانت مهمة الأدب الألماني بعد الحرب العالمية الثانية عسيرة، إذ كان على الأدباء الجدد تخليص اللغة من المفردات والمصطلحات الرنانة الخالية من المعنى التي كانت تضخها آلة "البروباغندا" النازية ليل نهار لتزييف الوعي والواقع، ويرددها خلفها الملايين من مؤيدي هتلر وممالئيه.

ولعب كتّاب جماعة 47 دوراً مهماً في هذا الصدد، حيث انطلقوا من إيمان بأن اللغة الألمانية أُضيرت ضرراً بالغاً بالمصطلحات النازية، وانحدرت تحت وطأة أكاذيب غوبلز لتفقد حيويتها وقدرتها التعبيرية بسبب الضلالات والبيئة المنافقة التي عاش فيها الألمان في عهد هتلر. بدأ هؤلاء الكتاب بهجر المجازات المتفاخرة والتعبيرات الخاوية، منحازين لسرد يقدم الواقع بشكل بسيط وواضح.

اشتبكوا بأشكال مختلفة مع السياسة، مؤكدين بانتاجهم وإنشغالاتهم أن مسؤولية الكاتب تمتد إلى ما هو أبعد من الكلمات لتصبح إلتزاماً أخلاقياً وإنسانياً بالمعنى الأوسع. إلاّ أن إنجازهم الأهم، هم والجيل التالي للحرب، هو أنهم واجهوا الماضي المخيف لوطنهم، حدقوا فيه ولم يديروا ظهورهم له، بل ووضعوا مواطنيهم أمامه وجهاً لوجه. لم يكن ثمة إعفاء للنفس من المسؤولية عن الفظاعات التي ارتكبتها النازية، بل فضح للجموع التي سارت خلف الفوهرر ثملة بادعاءات التفوق العرقي ومخدرة بحلم السيطرة على العالم.

كان هذا الأدب بمثابة الحجر الذي أُلقي في بركة الوعي الألماني المثقل بالذنب، والصرخة التي دوّت في وجه جيل الآباء، والمفارقة أنه بعد قرابة العقدين على نشوء جماعة 47، وبعد أن تحولت بدورها إلى سلطة أبوية بالنسبة لجيل أحدث، قوبلت بانتقادات عديدة، أشهرها اتهام الكاتب النمساوي بيتر هاندكه كتّاب الجماعة بالعجز عن الوصف، وبأن كتابتهم عبارة عن نثر غبي مزخرف يشبه الموسوعات المصورة ويقدم للناس رؤية مزيفة للواقع!

لكن بعيداً عن انتقادات هاندكه فإن طموح جماعة 47 وسعيها من أجل جبر ركام اللغة الألمانية، يصلح كمرآة نرى فيها أنفسنا ولغتنا التي عانت – لأسباب أخرى وكنتيجة لظروف تاريخية مختلفة - من إفساد منهجي أدى لما نراه اليوم من غلبة للّغة الشعاراتية الإنشائية في السياسة والصحافة بل وحتى في كثير من الكتابات الأدبية.

No comments:

Post a Comment