Saturday, March 2, 2013

احتلوا اللغة!



منصورة عز الدين


في مقال نُشِر في النيويورك تايمز قبل قرابة العام، تناول الكاتب والأكاديمي هـ. سامي عالِم، المفارقة الكامنة في اختيار حركة اجتماعية تقدمية مثل "احتلوا وول ستريت" لمفردة "الاحتلال"، مع كل ما تحمله من دلالات سلبية، عنواناً لها.
لم يُدِن عالِم هذا الاختيار، ولم يطالب الحركة بتغيير اسمها إلى "حرروا وول ستريت" كما فعل آخرون، إنما توقف أمام كيفية نجاح ناشطي "زوكوتي بارك" في إحداث تغيير جذري في الكيفية التي يفكر فيها الناس في مفردة "الاحتلال"، إذ قبل سبتمبر 2011 كانت تشير إلى الغزو العسكري، ثم صارت تستدعي إلى الذهن على الفور الاحتجاج السلمي المناهض للرأسمالية، وتدل على الوقوف في وجه انعدام العدالة وإساءة استخدام السلطة.
لقد ابتكرت حركة "احتلوا وول ستريت" معنى جديداً لمفردة قديمة، وحررتها من حمولتها الثقيلة السابقة. وفق هذا المعنى يصير "احتلال اللغة" بمثابة الاستحواذ عليها وتغييرها من الداخل.
وفي رأييّ أننا، في هذا الجزء من العالم، أحوج من غيرنا إلى "احتلال اللغة" بالمعنى الذي يقصده سامي عالِم، أي إعادة تشكيلها واخراجها من معانيها الجامدة إلى آفاق جديدة. غير أننا كي نصل إلى هذا، علينا أولاً اجتياز مرحلة أولية أكثر صعوبة، هي أن نسمي الأشياء بمسمياتها، بدلاً من الاستسلام لآليات استخدام اللغة كآداة تضليل وقهر وإفساد.
خلال الثمانية عشر يوماً الأولى من عمر الثورة المصرية، بدا لي أنها خلقت لغتها الخاصة، وسعت إلى القطع مع لغة فاسدة متواطئة تبناها النظام السابق، منحازة إلى أخرى حيوية دقيقة تعبر الكلمة فيها عن معناها. كتبتُ وقتذاك، بأمل وحماسة، عن الثورة كتحرير للّغة.
الآن وبعد قرابة عامين على ما أُطلق عليه "يوتوبيا" التحرير عادت اللغة لتكون شريكاً في الفساد، إذ ثمة اغتيال متواصل تتعرض له. ثمة انتهاك دائم حوّلها بدروها إلى أداة انتهاك، بحيث صارت ضحية ومجرمة في الوقت نفسه.
من خطاب المجلس العسكري الخشبي الغارق في الكليشيهات والإنشائية، انتقلنا إلى خطاب المتأسلمين حيث العنف والإقصاء، وحيث المفردة تعني نقيضها، فيصبح الثوّار خونة، ويصير الطغيان حماية للثورة ودفاعاً عن الديمقراطية.
غير أن ما يعنيني حقاً هو لغة الثوّار التي بدأت مقتحمة وبالغة القسوة والذكاء في تعريتها خراب الواقع السياسي والاجتماعي المحيط، ثم أخذت تترنح من وقت لآخر، لدرجة تقليد خصومها والاستعارة من معجمهم. علينا هنا التذكير بأن مفردة "الفلول" ظهرت - في سياق ثورة يناير - لأول مرة في أحد بيانات المجلس العسكري، وسرعان ما تلقفها الجميع وبالغ في استعمالها حتى كادت تصبح غير ذات معنى في ظل تعقيد المشهد الحالي وفوضاه، كما أن ألقاباً مثل "أيقونة الثورة"، "ضمير الأمة"، "قائد ثورة التغيير"، التي يتبناها بعض المنتمين للثورة لوصف هذا السياسي أو ذاك، تبدو أكثر انتماءً لدولة يوليو وإعلامها منها لثورة تطمح إلى قطيعة جذرية مع عقود من الاستبداد.
على المنوال نفسه نجد بين الثوّار من يصر على تكرار مصطلحات مستلة من ترسانة  لغة الانقلابات العسكرية في إنشائيتها وخوائها، مصطلحات تضع الثورة في وضع المطلق غير القابل للمراجعة أو المساءلة، مع أن أكثر ما ميّز لغتها في البداية كان الكفر بكل الأصنام والطواطم والسخرية المُرّة منها.
لكن اللافت والمطمئن أن الثورة كلما استعادت زخمها وعادت إلى الميادين تزداد لغتها حيوية وقطيعة مع المعجم الخامل الموروث. تبدو كأنما تسترد نفسها وتستعيد اقتحاميتها. تجترح خيالها الخاص وتسخر، على لسان أبنائها، من كل شيء، بما في ذلك نفسها وعثراتها.

No comments:

Post a Comment