Wednesday, June 18, 2025

تجليات البطل "مراد" المتنقل بين الأماكن تقوده إلى جنيات النيل

 


منصورة عز الدين تقارب جغرافيا الإشراقات في رواية "أطلس الخفاء"

 



محمد السيد إسماعيل

 السبت 26 فبراير 2022

    بعد خمس روايات وثلاث مجموعات قصصية تصدر الكاتبة منصورة عز الدين روايتها الجديدة "أطلس الخفاء" (دار الشروق). وهي رواية منقسمة على نفسها بحيث تقوم بنيتها على الجمع بين فقر الواقع ومحدوديته وثراء الخيال ورحابته. واللافت أن هذا الواقع الفقير المأزوم دائماً، مروي بضمير الغائب. بينما يتم تصوير الخيال– أو الإشراقات بتعبير الكاتبة– بثرائه ورحابته من خلال ضمير المتكلم؛ مما يدل على أن "مراد"– بطل الرواية– يلجأ إلى الخيال وما يقترب من الواقعية السحرية هروباً من واقعه الذي آثر أن ينعزل عنه... "أنفر من الناس ولطالما تمنيت العيش في عالم خال منهم لكن غيابهم التام عن جغرافيا إشراقتي هذه قبض قلبي وأورثني الغم والكآبة".

إن "مراد" لا يستريح للآخرين إلا في إشراقاته التي يستدعيهم بها. أما في الواقع فإنه ينفر منهم. وتظل هذه الثنائية فاعلة على مدار الرواية. ولا شك أننا لاحظنا استخدام ضمير المتكلم في هذا الشاهد على العكس من ضمير الغائب الذي يصور واقعه الحقيقي... "يعرف أنه لن يعود إلى مكتبه مرة أخرى لأخذ كرتونة أوراقه، ذكره هذا ببيتي شعر لشاعر قديم تاه اسمه عن باله واحتفظت ذاكرته فقط بعبارة وحيدة من البيتين: ترَّاكُ أمكنة إذا لم أرضها. ضايقه زحف النسيان على ذهنه. لطالما أحبَّ هذا الشاعر ورأى في البيتين خير تعبير عن شخصيته".

بين الواقع والخيال

وإذا كان هذا الشاعر هاجر أمكنة على المستوى الواقعي بمعنى أنه ينتقل من مكان مكروه إلى مكان مرغوب، فإن "مراد" هاجر أمكنة ما بين الواقع والخيال. أي أن الرحلة هنا رحلة خيالية وليست حقيقية ما يعني أنه يظل محصوراً في واقعه لا يستطيع تجاوزه. في الوقت الذي يأتيه العالم الخيالي متشظياً حين تتجلى أمامه "بلاد وأراض لا تشبه ما يصادفه في الواقع. تزوره متقطعة كما لو أنها العالم في حالته الشذرية أو الكون وقد استحال نثاراً". إن ما سبق يعني أننا أمام رواية تبدأ بالأزمة التي تستمر حتى نهايتها مبتعدة عن نمط السرد التقليدي الذي يبدأ بالتعرف على الشخصيات والأحداث ثم يستعرض أزمة البطل منتهياً بالحل أو النهاية المفتوحة. الرواية– هنا– تأتي ببطل مأزوم منذ البداية ولا يجد حلاً إلا بالحلم والإشراقات التي تتوالى عليه.

هكذا تنتهي الرواية حين يرى "مراد" حبيبته "وردة"؛ "خارجة من بين الأشجار وفي يدها سلة ليمون أصفر مبلل بقطرات ندى... يبتسم لمرآها وتتعلق عيناه بفتحة ثوبها حيث يبين مفرق نهديها. يتذكر اسمها: وردة. ثم يخبو كل شيء وتحلق روحه بعيداً مصحوبة بغمامة من شذا الليمون". فهو يعيش على مجرد التذكر وتحليق الروح مع من تحب ولا يستطيع التواصل معه في الواقع. ولأنه يعيش على التذكر فإن ضعف الذاكرة– الذي أحس به ذات مرة– يمثل مأساة بالنسبة له مثله مثل إحساسه الدائم بمطاردة الآخرين له. ويصبح الجلوس في مكان عام أشبه بالورطة حيث يتوجس– دائماً– "من أن يكون هناك بين رواد الحديقة القلائل من يتابعه ويعد عليه أنفاسه، لشد ما يكره المتطفلين وعيونهم الفضولية".

ترميز الموجودات

وكما يلجأ إلى الحلم لمغالبة الواقع، فإنه يلجأ إلى ترميز الموجودات حوله، ومن ذلك ما فعله مع "شجرة المانغو المعمرة بجرمها الهائل" التي كانت تقف في فناء مدرسته حين تأمل جذعها فلمح كوناً بأسره "نجوماً وأقماراً وكواكب معتمة وأخرى شفافة أو ملونة كل منها يدور في فلك يخصه وحده... عالم خال من البشر والحيوان والنبات فقط أفلاك سماوية في حركة دائبة". ولا شك أن هذا العالم الخالي من البشر والحيوان والنبات هو ما يحلم به ويعكس رغبته فيه على جذع هذه الشجرة التي يجعل منها عالمه البديل. والحق أن تحولات الأشياء واختفاءها فجأة من السمات الواضحة في هذه الرواية كما يبدو في قول السارد: "اقتربتُ من شجرة الصمغ أتأملها. لاحظتُ أن بعض القطرات المتجمدة أكثر شفافية من الأخريات. دققتُ في واحدة منها فاستحالت مرآة صقيلة عكست رأس نمر بدلاً من وجهي". فالتحول لا يصيب الأشياء فحسب بل يصيب الذات أيضاً أو هكذا تتخيل حين تدرك أنها في واحدة من إشراقاتها. وفي سطور قليلة تتوالى مجموعة من الاختفاءات حين يختفي الشارع القديم "وينبثق من أطلاله شارع 26 يوليو الذي سرعان ما تبخر ليكشف عن طريق الباوباب والقمر الألماسي مرة أخرى".

والملاحظ أن "جغرافيا التجليات" أو الأماكن التي تظهر في إشراقات "مراد" تبدو كلها منحدرة يقول: "أخطو في طريق منحدر فيخطر لي أن جغرافيا تجلياتي كلها منحدرة كأني أحث خطاي نحو هاوية ما. أعي أنني منفصل عن واقعي المعتاد لكنني غائب عن ذاتي وهويتي". هذا الشاهد يمثل مأساة البطل فهو يدرك اغترابه داخل الأماكن الحقيقية وانفصاله النفسي عنها لكنه– في الوقت ذاته– لا يرى أحلامه بديلاً، حيث تظهر الأماكن المتخيَّلة منحدرة كأنها تسوقه إلى هاوية. وقد ساعدت على هذا الإحساس حياته المنفردة؛ الأمر الذي جعل أصدقاءه ومعارفه يصفونه بأنه "مقطوع من شجرة لا أحد ينتظره على وجبة الإفطار اليوم– أول أيام رمضان– ولا هو ينتظر أحداً".

بديل وهمي

ومع ذلك تظل إشراقاته دائمة حتى لو كانت تقدم بديلاً وهمياً، ومن ذلك توهمه السير على الماء يقول: "سرتُ على الماء كيفما اتفق ونظرتُ للأفق محاولاً استكناه ما يخبئه لي". والسير على الماء من أشهر الكرامات المتداولة عن أهل الطريق. كما تذكرنا الانتقالات المكانية المتباعدة بانتقالات النفري في مواقفه المختلفة. فتحت عنوان "مسيرة" يقول: "كنتُ في غرفة لا يسعني تحديدها أو تذكر معالمها". ثم ينتقل فجأة تحت عنوان "دوار" إلى أرض دائرية: "وجدتُ نفسي في أرض دائرية منبتة عما سواها". ولعلنا لاحظنا أن المكانين– الغرفة والأرض الدائرية– غير محددين فهو لا يستطيع تذكر معالم الغرفة. كما تبدو الأرض الدائرية منبتة الصلة بمحيطها. وهو ما يتوازى مع عزلته الشخصية وعزلة بيت "وردة" التي أحبَّها؛ "فالبيت في أول القرية كان محتمياً بعزلته لم يفصله عما يجاوره من بيوت سوى خطوات قليلة، ومع هذا لطالما بدا لمراد الطفل كما لو أنه محاط بجدران لا مرئية تمنع الآخرين من الاقتراب منه وتمنع سكانه من التواصل مع عالمهم المحيط".

 وإذا علمنا أن هذا البيت هو "بيت العبد" ندرك أن لون بشرة صاحبه هو أحد أسباب هذه العزلة العنصرية. هذا الواقع المأزوم ينعكس على لغة السارد حين يتخيل أنه قد وطأ أرضاً لم يسبق له تخيلها: "كل شيء فيها محجوب بالدخان وثمة رائحة حريق عالقة في الجو". وهو بهذا يقترب من رحلات السندباد التي كانت تفضي به إلى أرض ومدن وجزر مجهولة بالنسبة له.

أجواء شعبية

وامتداداً لهذا التراث الشعبي نجد حديثاً عن "جنيَّات" النيل حين يتخيل "مراد" أن أخته "تعيش في أعماق النيل خطفتها جنياته وأبدلت بها أخرى تشبهها تماماً". هذه الأجواء الشعبية تعود إلى ما كان يسمعه السارد في طفولته من ابتهالات وذكر وتواشيح. يقول تحت عنوان "بيت مغمور بالماء": "كان الباب موارباً فدخلت منه كهبة هواء طافت بالغرف إلا واحدة لأنها مغلقة من الداخل وتنبعث منها أنوار وأصوات ذِكر وإنشاد ديني. بدت الابتهالات والأذكار مألوفة ومع هذا لم أستبن فحواها. كانت كأنما تتلا بلغة عرفتها في الماضي ثم محتها ذاكرتي". هناك أيضاً شخصية ثرية رغم أنها ثانوية وهي شخصية "جبريل"؛ العامل الذي يشعر أنه أفضل من مديرته لكونها أنثى. فالنساء بالنسبة له "كائنات أدنى بمراحل من الرجال". كما أنه يشعر دائماً بتآمر الآخرين ضده فأي شخص لا يعجبه هو متآمر: "صبي المقهى الذي يتأخر في إحضار حجر الشيشة له متآمر. بائع عصير القصب المتجهم على ناصية الشارع متآمر. مديرته في العمل طابور خامس. الهواء الذي نتنفسه عميل لجهات أجنبية".

وهو في ذلك يعد الوجه الأكثر تطرفاً لصديقه "مراد". هذه المشاعر السلبية تجاه الآخرين من قبل كل من "مراد" و"جبريل" تستدعي طوفان نوح الذي يأتي لكي يزيل العالم القديم بمآسيه ويبدأ في خلق عالم جديد بديل. يقول "مراد": "بدأ إعصار يتحضر للهبوب. برقت السماء وأرعدت وهبَّت ريح عاتية ثم اجتاح طوفان هائل كل شيء". لكنه على عكس ابن نوح في قصيدة أمل دنقل يتسلق أحد الجبال المخفية وحده باحثاً عن الأوراق الخضراء. ورغم أن رحلة الصعود كانت شاقة فإن رغبته في النجاة تفوقت على هذه المشقة ونجح في تحقيق رغبته. وهكذا تفتح الرواية باباً للأمل القائم على المشقة والمحاولات.

 نُشِر المقال في إندبندنت عربية بتاريخ 26 فبراير 2022

 


Tuesday, June 10, 2025

أطلس الخفاء: ندوب الحواس والذاكرة

 



يزن الحاج

 25يونيو 2022

تبدو رواية منصورة عز الدين الأحدث "أطلس الخفاء"، الصادرة أخيرًا عن دار الشروق القاهرية، وكأنها انطلقت من حيث انتهت روايتها السابقة "بساتين البصرة"، غير أن تاريخي كتابة العملين يباغتاننا، لأن العملين كُتبا بالتوازي تقريبًا. ثمة تقاطعات حتمًا بين العملين، وبين أعمال عز الدين السابقة، وثمة اختلافات بطبيعة الحال، إلا أن تناول أعمالها من ناحية التقاطعات والاختلافات سيظلم إحدى أهم تجارب السرد العربية في عقدَيْ الألفية. لا مكان للثنائيات، أو سباق التتابع في عالم عز الدين السردي، بل الأمر أشبه بقماشة واحدة متداخلة الألوان، لا بداية فيها ولا نهاية؛ لا خيوط كبيرة أو صغيرة؛ لا تفاصيل مهملة أو عابرة؛ لا سابق أو لاحق، بل حركة دائمة كأجرام السماء.


لا واقع أو خيال أيضًا، إذ تتلاشى هذه الـ "أو" من دنيا هذا العالم السردي، ليصبح الواقع خيالًا والخيال واقعًا، وليصبحا معًا عالمًا واحدًا عصيًا على التفكيك، لا فواصل فيه أو حدود: الأحلام تفاصيل واقعية أخرى بقدر ما تكون رتابة الواقع فسحة أحلام مختلفة. هذا ما كانت عليه الحال منذ مجموعة عز الدين القصصية الأولى "ضوء مهتز"، وليس انتهاء بكتاب الرحلات السردي "خطوات في شنغهاي" ذي العنوان الفرعي: "في معنى المسافة بين مصر والصين"، إن كان ثمة معنى للمسافة، أو كانت ثمة مسافة "حقيقية" في خريطة قماشة الألوان المتداخلة تلك.

تقدّم رواية "أطلس الخفاء" زاوية أو اثنتين من حياة مراد، موظف الأرشيف المتهرّب من التقاعد ما أمكنه، إلا أن تلك الزوايا تتكاثر وتتداخل إلى أن تصبح موشورًا يضيء بقدر ما يُخفي، ليترك فسحة لتخيّل ما خفي، ولإكمال ما نقص. هذا ما يحاول فعله مراد نفسه على أية حال حين يظن بادئ الأمر أن حياته منقسمة بين جبلين بينهما هوّة مرعبة. الواقع تفاصيل يومية عابرة، تبدأ في وقت محدد وتمضي في وقت محدد وتنتهي في وقت محدد كحياة الروبوتات التي لا تبدو على هذا القدر من السوء بالنسبة إلى مراد الذي ينفر من أي تغيير، أو تواصل، في حياته المضبوطة والضابطة لحيوات جميع من لا يشاركونه ولعه المرهق بالرتابة. وحين تأتي ساعة التقاعد أخيرًا لا بد من محاولة تحايل أخيرة، فيحاول مراد خلق حياة موازية، عالم مواز يترك لخياله فيه تنظيم التفاصيل وتشتيتها، وإنْ ظاهريًا على الأقل، إذا لا بد لمراد من أن يطل برأسه أحيانًا ليتأكد من انضباط الأمور حتى في الحلم.

يظن مراد أن في إمكانه الإبقاء على الثنائية الصارمة: واقع مقابل خيال، حيث الواقع بسيط، متقشف، عادي؛ والخيال معقّد، سخيّ، متفرّد. إلا أن للخيال تمرّداته التي لا سبيل إلى التكهّن بها، فالتفاصيل اليومية تُؤسطَر على نحو من الأنحاء حين تصبح ذاكرة تُستعاد، وتُؤسطَر بالكتابة، وكأن التذكّر لا يصمد ولا "يُخلَّد" إلا بالتدوين الذي سرعان ما سيغدو نقمة حين يلتهم الواقع ويمسح الذاكرة الأصلية. أصلية؟ لا نعلم حقًا، ولا يعلم مراد، لأن الفوارق بين الذاكرة الأصيلة والذاكرة المتخيَّلة قد تلاشت كليًا.

ليس الأمر عالمًا موازيًا بالمطلق، كما كان يتوق مراد ويتمنّى. لا ينتهي الواقع ويبدأ الخيال مع انغلاق الباب، بل يبدأ مع فتح الرأس واندلاق الأفكار التي ما عادت في حاجة إلى صفحات تقيّدها وتحدّ من جموحها؛ بات مراد يحلم وهو متيقّظ، بات خياله داخل واقعه، باتت ذكرياته شبيهة بمستقبله، وانتهى الحاضر بدرجة شبه كاملة. لا ينتهي الفصام بين الواقع والخيال مباشرة، إذ ندرك أن ثمة مرادين يدنو كلٌّ منهما نحو الآخر ببطء مطّرد إلى أن يتلاحما، بيد أن طريق الدنوّ تلك تكشف لنا كلّ مراد من هذين المرادين، على الأخص من ناحية الحواس المعطّلة لدى مراد الواقعي، والحواس الجامحة لدى مراد المتخيَّل/ المتخيِّل.
الواقعي ليس كائن طبيعة، أو حواس: فالشجرة شجرة، والطعمية طعمية مثلًا، غير أن كلًّا منهما تصبح عالمًا متفرّدًا حين يشرّح مراد نفسه بالتدوين. ليست الأشجار واحدة، إذ تتمايز باللون والملمس والرائحة وتقلّب الفصول، وليست الطعمية محض زاد يملأ المعدة بقدر ما هي عالم ذاكرة حلميّ يُشعل حواس مراد حتّى أقصاها، حتى درجة الاحتراق.

يدرك مراد، وندرك معه متأخرين، أن الروتين ليس سيئًا بالمطلق حين يكبح الخيال أو يُخفّفه، حين يضبط التفاصيل والوقت والحياة. بلا وطأة الروتين تلك ستكون العزلة التي ظنَّ مراد أنّها نجاته، إلى أن سحقته ـ للمفارقة ـ حين وسَّع عالمه ونسف الفوارق بينه وبين كلّ ما عداه.

مع كل رحلة، أية رحلة، من رحلة جلجامش إلى آخر مشوار مترو رتيب، لا بد من التساؤل: هل كانت تلك الرحلة روحية أم جسدية؟ رحلة مراد في "أطلس الخفاء" تبدو روحية، متخيّلة، رحلة ذاكرة وحسب، غير أنّ ندوب الذاكرة والأحلام باتت ندوبًا جسدية أيضًا مع نهاية رحلته، إلى أن حطّمته. ولكن لعل تلك الرحلة ضرورية، كما هي تلك الندوب ضرورية، ندوب الحواس في هذه العوالم السردية التي تَهِبنا حيوات أخرى بكل بهائها وجروحها.

نُشِر المقال على موقع "ضفة ثالثة" بتاريخ 25 يونيو 2022

 

أطلس الخفاء لمنصورة عز الدين: العزلة كقرار جلاد الذات وضحيتها معًا

 




إبراهيم فرغلي

24/مارس/2022

 

خلال قراءة رواية «أطلس الخفاء» للكاتبة منصورة عزالدين، الصادرة حديثًا عن دار الشروق، انشغلت بمدى أصالة رغبة مراد، بطل الرواية، فى العزلة. من أين بدأت؟ هل تتعلق بفترة الكهولة حين أصبح العالم الخارجى بلا معنى؟ أم أن تكوينًا بيولوجيًا ونفسيًا له دور فى هذا الأمر؟ 

ثمة إشارة وحيدة لأنه كان فاقد القدرة على التركيز فى صباه حين كانت الجدة خديجة تحاول أن تحفظه القرآن. مؤشر على صعوبات فى التعلم، أو إشارة لضعف القدرات الذهنية. لكن لم تأت مؤشرات أخرى لتأكيد الفرضية. بل إنه حفظ القرآن بحماس حين وعدته الجدة بأن تزوجه لهناء ابنة الشيخ، التى كان مغرمًا بها.

المهم؛ وأيًا كانت درجة أصالة رغبة مراد فى العزلة، فقد غدت تمثل أزمة وجودية فى اللحظة التى تلقى فيها الرد النهائى من إدارة العمل وأصبح لا مفر أمامه من الاستسلام للتقاعد. وهنا يواجه شبحًا كان يؤجل مواجهته لسنوات، وهو شبح التبطل، إذ سيحتاج طاقة كبيرة لمواجهة الزمن فى الفراغ التام الذى يعيشه بسبب العزلة التى يسوّر بها كل حدود حياته، فيقرر تدوين إشراقاته أو تجلياته أو استبصاراته

استبصارات أو تجليات تأتى كمحاولة لمقاومة مخاتلة الذاكرة ومكرها وضعفها، واستعادة لوجود شخصيات كادت تسقط فى قبو الزمن، مثل الجدة خديجة، بسبب فقدانها الذاكرة فى نهاية عمرها. الشيخة خديجة التى كانت تتولى مهام تحفيظ القرآن لأطفال القرية، وله أيضًا، التى فقدت لقب شيخة منذ فقدانها ذاكرتها وهويتها بالتالى

تتتابع التجليات فى نصوص مكثفة كما لو أنها، فنيًا وسرديًا، متتالية قصصية، بينما على مستوى المضمون، تمثل استشرافات تنتمى للرؤى، ولكن رافدها جميعًا الماضى، الجدة والأم والأخت: ليلى التى اختفت من حياة العائلة، لأنها قررت أن تتزوج من تحبه على خلاف ما أرادته العائلة، و«وردة»؛ الفتاة التى أغرم بها مراد فى صباه، ولكنه لم يمتلك قوة أخته فى الارتباط بمن يحب، بل اكتفى بالسخط والغضب من أهله لرفضهم زواجه من بنت تسكن فى «بيت العبد»، وهرب من بيت أهله لعام كامل، ليفقد وردة للأبد، ولا يجدها إلا فى الرؤى

الماضى فى الرؤى لا يأتى فقط من ذاكرة تتعلق بالماضى الذى يعرفه، بل بماضٍ يخص تاريخ البشرية، ماضى الوجود نفسه؛ كأن يرى العالم فى زمن الطوفان، ولكنه لا يعايشه كغريق، بل حى مع جدته يتنفسان تحت الماء، ويريان تفاصيل ومعالم للعالم الغريق، كأنها جزء من واقع يعيشانه دون أن يكونا ضحية للغرق!. 

استبصارات لعالم خفى، تمضى الجدة خديجة فى أحدها فى سيرها كما يراها معه فى الرؤى، بمنطق أن ما لا يبدى لكم لا يجب أن تطلعوا عليه، إيمانًا بستر الله الخفى

اغتنمت الكاتبة الإيقاع الصارم للنص؛ لدعم التفاصيل التى يتطلبها استدعاء كهل يرفض حاضره ويتشبث بماضٍ جميل. تفاصيل لروائح عطرية وزهرية وأشجار ونباتات وزهور، ومعمار وأبنية، ووجوه بعضها لأصدقاء طفولة، وبعضها لمن لا يعرفهم، وحدائق وجنان من كروم ونخيل، ومذاقات لأطعمة، بعضها ارتبط به مراد مدى حياته، وبعضه بقى كذكرى غائمة، أو كمذاق لا يتكرر فى الحياة إلا مرة واحدة فقط

لكن الهاجس الذى يسيطر على العوالم الثلاثة المتمثلة أولًا فى واقع مراد الراهن، وتاليًا فى ماضيه البعيد، ثم فى الاستبصارات، يتعلق بأزمة الوجود. بمراقبة مراد للعالم الذى يمضى فيه البشر وهم مستلبون، لا يعرفون ما ينبغى أن يفعلوه فى مواجهة الزمن.

هو نفسه فور التقاعد يراوغ ذاته ويذهب للحدائق والمتنزهات، أو يقرر أن يتناول الطعام فى مطعم، ثم يدرك الحقيقة التى يعرفها جيدًا، إنه لم يخلق إلا للعزلة

ربما فى هذا الإطار يمكن أن يعاد تفسير وجوده كله؛ إذ تخلى عن وردة لأنه يفضل العزلة فى أعماقه، وفشل زواجه لأنه لا يستطيع أن يعيش طويلًا مع شخص آخر، ولهذا أصر على عدم الإنجاب، فقررت الزوجة أن تعيش حياة جديدة مع شخص يتيح لها أن تصبح أمًا. يرتاح لغياب ابن عمه بعد فشل فكرة زواج الأخير من صاحبة البيت الذى يسكن به، ويرتاح لعدم اضطراره الذهاب إلى الإسكندرية لزيارة ابن العم، رغم أن الإسكندرية بالنسبة له هى مدينة العالم!.

العزلة، إذن، وفقًا لسيرة مراد، ليست أبدًا سيئة للمنعزل، بل هى من المؤكد تمثل جانبًا يسعد به. وقد أحالتنى شخصية مراد إلى فقرة كانت الشاعرة نوال العلى قد دونتها على النحو التالى:

"ثمة من يعيش معظم حياته منفردًا، السنوات الجيدة، بالنسبة للمنفرد، هى أن يتمتَّع بشىء ‏من العافية والقدرة على العمل وتصريف معيشته دون الحاجة إلى إنسان آخر."

لكن هل تظل سنوات المنعزل كلها سعيدة؟ 

أعود لنص نوال العلى: "المنعزل لا ‏ينعزل من تلقاء نفسه، ثمة أمور تحدث، ثمة قوة قديمة، عادة ما تأتى من الماضى، تدفعه ‏إلى قبوٍ يسقط فيه، وقد يطول سقوطه لسنوات. أصوات من الخارج تصله كأنها رصاصات ‏بعيدة ومتقطعة (..) فى العيش الانفرادى، لا شىء سوى أن تفكر، أنت ‏تكبر مثل نبتة تكرهها الشمس، نبتة تنمو بين الجدران، أنت لم تحس بجسدك منذ زمن."

هذه فقرة دالة جدًا فى وصف إحساس المنعزل، وهى تأتى كما لو أنها تصف هنا حالة مراد بالفعل، خصوصًا بعد أن فقد عمله. فقد الجانب الجيد فى وجوده كمنعزل مشغول. وغدا الآن منعزلًا لا حاضر له، ولا يوجد ما يشغله. ولهذا ربما تأتى التفاصيل التى يهتم بها مراد كما لو أنها أمور لها شأن ضخم، خصوصًا حين يفكر فى الطعام أو يتذكر وجبة تطير إليه على بساط الذاكرة ولا تزيد على ساندوتش طعمية فى عيش فينو.

"أطلس الخفاء" نص مكثف، صارم فى بناه، ومغامر أيضًا، ويتراوح على الحدود بين الواقع والحلم، يفتح بابًا للأسئلة عن العزلة والفردية ومعنى الوجود وطبيعة الذاكرة فى محاولتها لمواجهة المكر الذاتى لفكرة المحو. ويمثل بلا شك إضافة جديدة لمسيرة سرد منصورة عزالدين الملفتة، وللسرد العربى بطبيعة الحال.

نُشِر المقال بجريدة الدستور بتاريخ  24 مارس 2022


Monday, June 9, 2025

منصورة عز الدين في «أطلس الخفاء»: عندما يخلق الروائي جنته الخاص

 



 حاتم حافظ 

2022-03-10

 


أفكر أحيانا في أن الروائي– كل روائي– يشبه روايته، وأن كل روائي يكتب بالطريقة التي كان سيعمل بها في المهنة التي تشبهه، والتي كان يمكن– لو ضل طريقه للكتابة– أن يمتهنها. ثمة روائي معماري؛ لا يعمل إلا في أرض خلاء، يقيم معمارا ليشغلها، معمارا لم يسبقه إليه غيره، مثل نجيب محفوظ. وثمة روائي بنّاء؛ يمكنه إعادة بناء المعمار نفسه عددًا من المرات، لكنه يفعلها بمهارة كبيرة، مثل إحسان عبد القدوس. وثمة روائي غنائي؛ كان يمكن أن يكون شاعرًا غنائيًا، حتى ولو لم يكتب عن الحب، مثل بهاء طاهر. وثمة روائي حكّاء يدور في الساحات الشعبية ليروي سير شعبية عن البسطاء، وينشدها أحيانًا، مثل خيري شلبي. وثمة روائي يشبه منسقي الحدائق؛ يعرف كل نبتة وكل لون وكل عطر، يؤمن بأن الجنة– تلك التي غادرناها مضطرين– يمكن أن نخلقها حيث نكون.

منصورة عز الدين تبدو لي مثل ذلك الروائي منسق الحدائق؛ لا تزاحم أحدًا، ولا تشغلها المزاحمة. لا تقيم معمارًا لأنها ترغب في انبساط الفضاء أمامها، في أن تتمكن من مد البصر من أية زاوية وركن لتتطلع إلى الأفق. يمكنها من مكانها رؤية العالم كما لو أنه خُلق لتوه.

في روايتها الأخيرة “أطلس الخفاء” (2022)، الصادرة عن دار الشروق، ثمة شخص يتأهب للإحالة للتقاعد، مطلّق، يرغب في اعتزال العالم، للحد الذي يجعله يخلق العزلة إن لم يجدها. يعمل في جريدة قومية لكنه يعمل على هامشها: في الأرشيف. وبحجة تحسين دخله– رغم عدم حاجته لذلك– فإنه يعمل مصححًا لغويًا، لأنه يرغب في تصحيح خريطة العالم، فإن لم يكن قادرًا على إصلاح العالم فعلى الأقل يمكنه إصلاح أخطاء اللغة التي يجترؤها الذين يسكنونه. وهو في عزلته يهيم في استبصاراته: استبصارات سريالية أقرب للأحلام لكنه يبصرها متيقظًا. وهي كالأحلام يغيب عنها الصوت، أي صوت، وفي المرات النادرة التي يبدو فيها كأنه يسمع أصواتًا ما فإنه يدرك انبعاثها من عقله أو في عقله لا من العالم، حتى ولو كان العالم مجرد استبصار.

**

مادة الاستبصارات هي مادة ذاكرته لكنها تبدو كأنها ذاكرة أقدم، كأنها ذاكرة لا تخصه وحده؛ وإنما تخصنا جميعا؛ تخص أسلافنا. وعلى الرغم من أن أسلافنا ليست لديهم أخته ولا حبيبته ولا جدته ولا أمه، فإن أسلافنا كانت لديهم أخت وحبيبة وجدة وأم، كما لو أن سيرته الذاتية هي سيرتهم الذاتية، أو فلنقل إن سيرته الذاتية هي السيرة بألف ولام التعريف. سيرة من الرغبة في الاختفاء، ليس الرحيل، ولكن الاختفاء. إن يكون المرء غير مرئي مسألة، وأن يكون غير موجود مسألة أخرى. بالنسبة لهذا الشخص– مراد– فإن انعدام الوجود هو المراد، لكن انعدام الوجود بالنسبة له يساوي الوجود المكتمل، يساوي استعادة لحظة من التاريخ لا يمكن استعادتها: لحظة الوجود في “العالم الأول الذي وطأته أقدام آدم وحواء بمجرد نفيهما إلى الأرض، أو ربما تمثل الجنة نفسها”.

هذه اللحظة هي المعنى الحقيقي لاستبصارات مراد، تلك الاستبصارات التي قرر تدوينها بنفسه، والتي حدس أنها لا تتجلى إلا للمختارين، والتي تشبه “نثار من ذاكرة جمعية موروثة”. لهذا السبب فإن زمنها يمتد لـ “ذكريات الجنين”. يقول مراد: “أنا متأكد من أنني اعتدت سماع هذه الأصوات والإيقاعات، فيما أسبح في عتمة الرحم، وها هي تجلياتي مشكورة تعيدني إلى أيام هناءاتي غير الواعية”.



**

في الرواية صوتان: صوت الراوي العليم الذي يشكّل السردية الإطار التي يتحرك فيها مراد كشخصية حقيقية لديه عالم محدد ووظيفة معلومة وبيت يطل على شارع يمر به الغرباء. وصوت مراد نفسه خلال تدوينه لاستبصاراته. ورغم أنه– مراد في السردية الإطار– يدرك أن استبصاراته غرائبية فإنه يفكر في البداية في تدوينها بضمير الغائب “فمراد المستبصر لا يشبه شخصه الضعيف الفاني، بل هو تجسّد أرقى وأعلى وأعلم من ذاته” لكنه يعود ليقرر تدوينها بضمير المتكلم ذلك لأنه “لا مسافة تُذكر بين حالين للشخص نفسه، وإشراقاته ينبغي نسبها له وحده”.

فهو أنا والآخر، أنا والنحن، واستبصاراته لا تخصه وحده بل تخص الجميع، كما لو أنه وسيطا بيننا وبين العالم: العالم اللازمني، حيث اللاوجود يعني الوجود نفسه. وربما بسبب ذلك فإن العالم الذي يستبصره يميل للانحدار، لكن الانحدار هنا لا أظنه جُغْرَافِيًّا أو مَكَانِيًّا ولكن انحدار زماني إذا شئنا، كما لو أنه حفر في الزمن لا في المكان، كما لو أن الإنسان لن ينتهي في حفرة وإنما سينتهي في فجوة زمانية ما، فجوة ربما تعيده لأول الخلق.

**

الاستبصارات أيضا تطرح الأسئلة بخصوص الوجود، ليس فحسب بخصوص وجود مراد في العالم وإنما بخصوص الوجود البشري نفسه، كما لو أن أي وجود بشري هو ممثل للوجود في أكثف حالاته وأكثرها تمددًا. في أحد الاستبصارات يشاهد مراد سفينة تُبحر عند الأفق فيتساءل إن كان على متنها شخص ذو شأن “أينشتين جديد مثلًا أو إنسان سوف يلعب دورًا ولو بسيطًا في إخراج العالم من بؤسه” لكنه يتساءل “متى خلا العالم من البؤس؟ ومن بإمكانه إضفاء معنى على المعاناة والرتابة؟”.

ويرى في استبصار آخر مجموعة من الحاصدين الذين “يؤدون مهمتهم بهمة، ومع هذا لا يبدو لي أنهم يحققون تقدما يُذكر” ورغم تعاطفه مع الحاصدين فإنه يكتفي بالتلصص عليهم فلا يمد يده لمعاونتهم ولا يفكر في تحذيرهم من عبث ما يقومون به. يقول “حتى لو عرفت، بالقدر المخاتل الذي يتيحه الحدس من معرفة، السر الكامن خلف هؤلاء الحاصدين ومهمتهم العبثية، فلن يفيدني هذا في شيء، والأهم أنه لن يفيد قوم الحصاد هؤلاء، فمصيرهم– كما يتراءى لي– محدد سلفًا”.

**

لكن يظل الاستبصار الأكثر رؤيوية والذي يشكل نقطة البدء في معرفة الطريق لإصلاح العالم وما أفسدته الضغينة هو الاستبصار الأخير لمراد: “قلبي يحدثني بأن الشقاق الحقيقي بدأ على الأرض بالطوفان وما أحدثه من هوة لا سبيل إلى تجسيرها بين البشر؛ هوة تقسمهم إلى أشرار وأخيار، هالكين وناجين، من آمنوا بالفُلك طوقًا للنجاة ومن كفروا به وسخروا من صانعه. وعلى الرغم من هذا، أومن بأنني قادر على تطبيب هذا الجرح ومحو آثاره إن دفعت كل طرف لإدراك وجود الطرف الآخر، ولو عبر الحدس والخيال”. هذا الاستبصار يمكن أن نحدس بأنه يقود الرواية نفسها بين طرفي الواقع والاستبصار، بين العالم كمادة وبين العالم كروح، ونقطة تلاقي السردين: السرد الإطار الذي ينتظم في لغة استعمالية، والسرد التدويني الذي ينتظم في لغة مجازية، بين عالم الواقع وبين عالم الخيال، بين اليقظة وبين الحلم، بين الصخب: صخب الشوارع وضجيج المدينة وبين صوت عبد الوهاب وموسيقاه، بين المتن والهامش أو الأرشيف، بل وبين الغياب والحضور.

تمثل أطلس الخفاء فصلًا جديدًا من فصول المشروع الروائي الكبير الذي تعمل عليه منصورة عز الدين بدأب وهدوء منذ روايتها الأولى متاهة مريم 2004. واللافت والباعث على الإعجاب في هذا المشروع أنه متفرد للغاية، ويشبه أغاني عبد الوهاب الذي يبدو أن منصورة تتشارك الافتتان به مع بطلها، خصوصًا أغانيه المبكرة الرائقة مثل “عندما يأتي المساء” التي لها سحر وطلاوة لا تضاهيها أغان أخرى.

نُشِر المقال في موقع "باب مصر"، بتاريخ 10 مارس 2022

 


Friday, February 2, 2024

يون فوسه: التذكير بمعنى الأدب ومغزاه

 


منصورة عز الدين

حين زرت اسكندنافيا قبل سنوات، فاجأتني الطبيعة: امتداد المياه من كل جانب، والتقشف الجغرافي وقلة النباتات نظرًا للطقس البارد. على جسر أوريسند؛ الرابط بين كوبنهاجن ومالمو، أحسستُ بأنني أمام طبيعة منيمالية أو صحراء مائية، لو جاز التعبير. وخلال قراءتي لأعمال فوسه، استحضرت تلك الطبيعة وذلك العالم الذي أثار في نفسي نوعًا من الوحشة الممزوجة بالإعجاب. شعرتُ أن ما يقابل هذا العالم لغويًا هو الصمت، أو على الأقل لغة تنبع شعريتها من التقشف والتخلص من كل الزوائد والأوصاف والمجازات المجانية. كان هذا انطباعًا عابرًا، سجلته في يومياتي وقتها، ثم وجدته متجسدًا أمامي، بينما أقرأ الكاتب النرويجي يون فوسه مؤخرًا.

عالم فوسه، كما تبدى لي في عمليه "ثلاثية" و"صباح ومساء" (دار الكرمة.. ت: شيرين عبد الوهاب وأمل رواش)، متقشف، كأنما يقدم الكاتب العمود الفقري للعيش وللوجود الإنساني، ويتخلص من كل ما هو فائض عن الحاجة. ومع هذا، البيئة المحلية واضحة، وكذلك المعالم الجغرافية للمكان. بعد الانتهاء من قراءة "ثلاثية" مثلًا، شعرت بأنني أعرف الأماكن التي دارت بها الأحداث، أنني على مقربة من البحر، تصلني رائحته وأصواته، أسمع رفيف أجنحة النوارس ونعيقها، أرى زرقة الفيورد حين يكون الجو مواتيًا، وأبحر مع أسلا وأليدا صوب بيورجيفين.

يحدث هذا، رغم أن فوسه مقتصد في أوصافه، موجز في ما يكتبه كأنما يكتفي بأقل القليل، أو كأنما يطمح إلى كتابة حيوات في حدها الأدنى، لكنه يجيد اختيار ما يخرجه من حيز الصمت، فيصبح هذا القليل كافيًا لخلق عوالم وشخصيات لا تُنسَى.

ومن نقاط تميزه أيضًا، طريقته الخاصة المازجة بين المسرح والرواية. لا أعني بهذا فقط أنه يكتب المسرح والرواية، ولكن أنه حتى في رواياته يستحضر جماليات المسرح وتقنياته، خاصة في الحوارات الموجزة؛ التي قد تميل للتكرار، أو للصمت والحوار من طرف واحد. فأحيانًا لا تكاد الحوارات تقول شيئًا. يكرر فوسه مفردة "يقول" أو "تقول" قبل كل جملة حوارية، لكن ما الذي يقال حقًا؟ لا شيء تقريبًا. كأن حيوات الشخصيات تجري داخل وعيهم، وتتأسس على ما لا يقال، على ما يُسكَت عنه.

ما يلفت النظر في "ثلاثية" و"صباح ومساء" أن العملين يمكن المجازفة بالنظر إليهما كروايتي أجيال مكتوبتين بطريقة مبتكرة جدا ومخالفة للسائد والمألوف في هذا النوع من الروايات. كأن المؤلف يأخذ العمود الفقري لهذا النوع من الروايات، ويصيغ العمل وفقا لرؤيته الخاصة. نحن في الحالتين أمام سلالة أو خط نسب، تبدو فيه الحيوات منيمالية، والخلف يكرر سيرة السلف بشكل ما، فحيوات شخصياته تبدو كما لو كانت تكرارًا لحيوات الأسلاف؛ لا شيء يكاد يتغير رغم اختلاف العصر وطبيعة المجتمع والعالم. وتبدو الوحدة عميقة ومتجذرة في الوجود البشري، كأنها علامة الإنسان وتعريفه. ومع أن شخصيات فوسه تبدو كأنما تعيش حياة خالية من الصراعات الحقيقية، لكن الصراعات الأصعب التي تخوضها هي مع الخواء والفراغ واللاصراع. وربما لهذا يدفع هذا الكاتب قراءه إلى مواجهة أسئلة وجودية معقدة عن الحياة والموت وعن معنى الوجود الإنساني وجدواه.

لقد استدعت قراءة فوسه سؤالًا ظل يلح علي وأنا أنتقل من عمل لآخر: أهذا هو الواقع المعيش؟ وتمثلت إجابتي في أن هذه عوالم شديدة الواقعية، ومشغولة بحيوات البسطاء، مَن تخلو حيواتهم من كل ما هو مثير أو صاخب، مَن قد نقابلهم دون أن ننظر لهم نظرة ثانية. حيوات لا يكاد يحدث فيها شيء. غير أنها أيضًا عوالم مفارقة للواقع وتحمل غرائبيتها الخاصة؛ غرائبية خافتة تكاد تكون متلاشية، يمكننا عبرها التواصل مع الأحبة المغيبين بالموت، والتحاور مع الأطياف والأشباح. هل أجازف بقول إن ما يكتبه يون فوسه هو ظل الواقع أو طيف الواقع؛ حيث يكاد يكون كل شيء مكتمل الواقعية، إلّا أنه يحمل بعدًا سحريًا صوفيًا مع هذا؟ ربما يكون هذا صحيحًا، لكن الأدق منه قول إن ما يقدمه هذا الكاتب النرويجي الكبير هو الفن؛ الفن كما يجب أن يكون. فشأنه شأن الكتاب الكبار، لديه قدرة على غربلة ركام الواقع، والخروج منه بفنٍ خالص.



لكن ما الذي أعنيه بالضبط بالعيش مع الأشباح؟ هل يقتصر الأمر فقط على تواصل الأحياء مع الأموات، حيث لا حدود فاصلة بين العالمين؟ لا يقتصر الأمر على هذا، بل يمتد إلى العيش مع أشباح الماضي. إذ ثمة انجراف دائم نحوه. كما لو أن فوسه يكتب وفقًا لرؤية ويليام فوكنر الخاصة بأن الماضي دائمًا معنا، إنه حتى لا يمضي. على سبيل المثال، الجزء الأخير من ثلاثية، من المفترض أنه يدور حول الابنة أليس، لكن ما نجده أن بطلته هي الأم أليدا رغم موتها، سواء عبر طيفها القابع في غرفة المعيشة أو عبر أحداث ماضيها التي تسد ثغرات ما في الجزأين الأول والثاني: "سهاد" و"أحلام أولاف".

تتبدى الطيفية المهيمنة على عالم فوسه أيضا في فعل القتل. يرتكب أسلا ثلاثة جرائم قتل، على ما يبدو، فلا شيء مؤكد هنا، لكن الأمر يبدو تلقائيًا وكأن القتل فعل عادي كالتنفس، لا نراه شاعرًا بالذنب، أو مباليًا بهذا، لكن حين يتبعه العجوز، بعد أن غيَّر هو اسمه إلى أولاف، مبتزًا إياه بشكل غير مباشر ومذكرًا إياه بجرائمه، لا يتجلى لنا بدايةً إن كان العجوز هذا شخصًا حقيقيًا أم لا، إذ قد نؤوِّل ظهوره باعتباره ضمير أسلا مثلًا، أو شبحًا يتوهمه ويمثِّل ذاته الأخرى. وحدها حقيقة أن أسلا قد شُنِق فعلًا بعد إبلاغ العجوز عنه، تخبرنا أن الأخير شخص حقيقي، ساقه القدر إلى أسلا للاقتصاص منه على جرائمه المرتكبة، رغم أن الرجل في موضع سابق لم يكن يعنيه سوى نيل بعض المكاسب المادية وقدح من البيرة مقابل صمته.

لكن أهم ما يسم كتابة فوسه هو تلك المسحة الصوفية والروحانية المظللة لها. يتبدى البُعد الصوفي الروحاني في "صباح ومساء" على سبيل المثال، في أفكار أولاي عن الروح الإلهية الكائنة في كل شيء، فكلمة الله وروحه كامنة في كل شيء، والله موجود بالطبع "لكنه البعيد البعيد والقريب القريب، لأنه كامن داخل كل واحد من البشر...". فكرة كمون الروح الإلهية في البشر/ كل الموجودات تُذكِّر بمبدأ الحلول والاتحاد عند المتصوفة المسلمين.

الإيحاء الديني موجود في الرواية أيضًا من خلال أن البطل يوهانس وصديقه بيتر يعملان بالصيد، والاسمان هما النسخة النرويجية من اسمي يوحنا وبطرس، ما يستحضر تلميذَي المسيح اللذين كانا صيَّادين بدوريهما. وسير بيتر ويوهانس بجوار الماء معظم الوقت، يُذكِّر من طرف خفي بواقعة سير بطرس على الماء الواردة في إنجيل متى.

هذا بخلاف أن الرؤية الدينية الميتافيزيقية، حاضرة بقوة من خلال تلك الرحلة البرزخية إلى العالم الآخر، حيث يلتقي يوهانس بصديقة الراحل بيتر، ويبدو كأنما يسيرعلى التخوم بين عالَمي الغيب والشهادة. الخوض في عالم ما بعد الموت، والتواصل الروحي بين الأحياء والموتى حاضر بالمثل في "ثلاثية" من خلال تواصل أليدا مع أسلا بعد موته، وكذلك رؤية أليس لأمها أليدا رغم موتها كما سبق وأشرت. وكذلك قد يحيلنا حمل أليدا وهروبها مع أسلا بحثًا عن مأوى، من طرف خفي، إلى مريم العذراء، ورحلة العائلة المقدسة إلى مصر. ثمة أيضًا هيمنة للجريمة والعقاب على اقترافها المتمثل في شنق أسلا، أو هيمنة للخطيئة والقصاص لو لجأنا إلى اللغة الدينية.

بكلمات أخرى، تزخر عوالم فوسه بالحس الصوفي والغنوصية القائمة على المعرفة الحدسية الباطنية أو العرفان، إن اخترنا تعريفًا من صميم التصوف الإسلامي. فشخصيات هذا الكاتب النرويجي، في معظمهم، يتواصلون عبر بصيرتهم لا بصرهم.

ختامًا، هذه كتابة تُذكِّر بمعنى الأدب ومغزاه، بمعنى أن يكون للكاتب بصمته الخاصة، إضافته التي يضيفها إلى من سبقوه، واقتراحه الجمالي الجرئ غير الخاضع للسائد، وغير اللاهث خلف مقروئية أكبر أو مواءمات ومساومات خارج رؤاه الفنية. كتابة تُذكِّر بما سبق وكتبه ماكس فريش في روايته "شتيلر" (دار ممدوح عدوان، ت: سمير جريس): "ليست الكتابة تواصلًا مع القراء، أو تواصلًا مع الذات، بل تواصل مع ما لا يُباح به. وكلما باح الإنسان بما في دخيلته على نحو أدق، تجلي المسكوت عنه على نحو أنقى، أي تجلت الحقيقة التي تدفع الكاتب وتحركه."

 * نقلًا عن جريدة أخبار الأدب.

 


Monday, October 10, 2022

سر آني إرنو: حين تصير الكتابة جسرًا بين شركاء الوجع

 

 

منصورة عز الدين

 

 


مع كل قراءة جديدة لعمل من أعمال الروائية الفرنسية آني إرنو، المتوجة بجائزة نوبل لهذا العام، تبدو لي كأنما تعرف ما تريده من الكتابة بالضبط، والأهم أنها تعرف كيفية تحقيقه، فإن كانت قد كتبت يومًا: "ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة، وجعله في النهاية لا يُنسى."، فهذا ما تحققه في كتاباتها بالفعل، إذ تمنح لجروحها معنى وقيمة عبر الكتابة، ولا تكف عن تشريح الذات والعلاقات بنفاذ بصيرة يصل حد الاستبصار.

 

كلما قرأت لآني إرنو، أتذكر أيضًا جملة الكاتبة الأمريكية جوان ديديون الخاصة بأن الكتابة فعل عدائي يتمحور حول قول "أنا"، حول فرض ذات الكاتب على الآخرين، حول قوله لغيره: "إنصت إليّ، انظر بعينيّ، غَيَّر رأيك!"، مع فارق أن ديديون في رواياتها تعتمد على التخييل والبنية المركبة، على عكس ما تسلكه في كتبها غير الروائية، في حين تكتب إرنو ذاتها وتضع كل تفاصيل حياتها وعلاقاتها تحت المجهر في رواياتها دون حاجة إلى التخييل، كما تبدو غير مهتمة بتغيير رأي الآخرين، لكنها مع هذا تنجح في التأثير فيهم، إذ يشعر قراؤها بأنها تحكي عنهم، وبأنها تمنح هواجسهم الخاصة ومشاعرهم المسكوت عنها صوتًا وقوامًا، وتخرجها من حيز اللاوعي إلى براح الكلمة المكتوبة وملكوت الأدب.

 

تكتب آني إرنو عن علاقتها بأمها في نصها "امرأة"، فتشعر قارئات كثيرات بأن الأم تشبه أمهاتهن، وعن علاقتها بحبيبها في "عشق بسيط" فتبدو كمن تقبض على جوهر العشق إن كان له جوهر، وتجسِّد قوته الكاسحة وقدرته على إعادة صياغة ذواتنا، وهشاشته المهدِّدة بتلاشيه في أي لحظة كأنما الأصل فيه الاستحالة والانقلاب من النقيض إلى النقيض.

 

في تقديمها لترجمتها لـ"الحدث" تصف الشاعرة هدى حسين كتابة إرنو بأنها: "تكمل عندي جملًا لم أقلها، وتنهي مراحل لا أرغب في أن أعيشها كاملة."

وفي تقديمها لترجمتها لـ"البنت الأخرى و لم أخرج من ليلي" تكتب الروائية نورا أمين: "لقد عشت قصص آني إرنو كأنها حكاياتي الشخصية. غصت فيها وتجسدتها. توحدت مع صوتها حتى خُيِّل إليّ أحياناً أنها تكتبني بشكل شخصي."

 

أنا أيضًا ينتابني إحساس مشابه حين أقرأ أعمال إرنو، رغم انحيازي عادةً للتخييل والتركيب. إذ سبق أن رأيت الكثير من مشاعري وهواجسي وحتى من أحداث وخبرات ظننتها تخصني وحدي، مجسدة في أعمالها، لكن هذا الشعور تضاعف، على نحو أقوى، خلال قراءة عملها "البنت الأخرى" (صدر بالفرنسية في 2011)، لسببٍ أساسي هو أنني فقدتُ في طفولتي أختًا صغيرة مثلها، وكتبتُ عنها قصة بعنوان "فتاة فبراير" ضمن مجموعتي القصصية الأولى "ضوء مهتز" (2001). الفارق أنني رأيت شقيقتي الصغيرة "ياسمين"، التي رحلت بعد شهرين من ميلادها، أما إرنو فوُلِدت بعد وفاة شقيقتها "جينيت" بعامين، ولم تعرف بأمرها سوى وهي في العاشرة، إذ ظلت الصغيرة الراحلة السر المقدس في حياة الوالدين، وعاشت كاتبتنا في ظل الطيف المهيمن للصغيرة التي خنقتها الدفتيريا.

 

ولأن الصور القديمة هي كل ما يربط "البنتين"، تبدأ آني نصها "البنت الأخرى" بوصف صورة سِبيا، بيضاوية للرضيعة جينيت، وكيف كانت تظنها صورتها هي، أي أننا منذ البداية نجد أنفسنا أمام التباس: أنا / هي. وهو الالتباس المهيمن على النص بكامله بداية من العنوان. فما يطرأ على الذهن حين نقرأ عنوان "البنت الأخرى"، هو أن الإشارة هنا للأخت المحكي عنها، غير أننا نكتشف لاحقًا أن الكاتبة تقصد نفسها بـ"البنت الأخرى"! فالذات تخلت عن مركزيتها وصارت آخر، والأخت الغائبة احتلت المركز وأزاحت أختها الحاضرة إلى الهامش.

 

علاقة الإخوة نفسها مشكوك فيها وفقًا لإرنو، حيث لا يقرها سوى السجل المدني. "لكنكِ لستِ أختي، لم تكوني أبدًا أختي. لم نلعب سويًا ولم نأكل سويًا ولم ننم سويًا. لم ألمسك أبدًا، ولم أعانقك. لم أرَ أبدًا لون عينيك. لم أركِ أبدًا. أنتِ بلا جسد، بلا صوت، مجرد صورة مسطحة في فوتوغرافيا الأبيض والأسود."

 

المشاعر التي تعبر عنها الكاتبة هنا بالغة التعقيد، فهي خليط من الغيرة والتنافس مع ظل خفي، والذنب لأنها نجت من التيتانوس فيما رحلت شقيقتها التي هي دافع الحكي ومبرره: "أنا لا أكتب لأنكِ متِ. لقد متِ من أجل أن أكتب. هناك فارق كبير."

لكن كيف تكتب إرنو ما لا تعترف بوجوده، ما لم ترَه سوى كغياب تام مخبَّأ في قلبَي الأب والأم باعتباره سرهما الأعظم؟

تفعل هذا عبر رصد وتشريح تأثير كل هذا عليها هي: "ليس لكِ وجود إلّا عبر بصمتكِ على وجودي. أن أكتبكِ هو ألّا أتعدى معاينة غيابكِ. إنكِ شكل فارغ يستحيل ملؤه بالكتابة."

 

اللافت أن صاحبة "الحدث" تصف نصها، في أكثر من موضع، بالرسالة. وهو فعلًا رسالة موجهة لجينيت أينما كانت. والتحدي الماثل هنا، هو أن: "ضمير المخاطب فخ. ففيه شيء خانق، ويقيم بين الأنا والأنت حميمية متخيلة بفوحان الشكوى، إنه يقرِّب كي يلوم. وبرقة يميل إلى أن يجعل منكِ سبب وجودي، وأن يحط من شمولية وجودي بسبب اختفائك."

 

هكذا تواصل إرنو الجري وراء ظل، معتبرة أن رسالتها المكتوبة لجينيت رد دين متخيل بأن تمنح أختها الوجود الذي منحه لها موتها، فلو عاشت جينيت لما أتت آني إلى العالم لأن أبويها كانا مصممين منذ البداية على إنجاب طفل واحد فقط.

ثنائية مشابهة نجدها على نحو مختلف في "الاحتلال" (ترجمة: إسكندر حبش)، فنرى الذات مسكونة بالآخر، حين يتعملق شعور الغيرة بداخل الراوية بحيث تشعر بأن المرأة الأخرى، في حياة طليقها، تحتلها.

 

من ناحية أخرى، يمكننا -في أكثر من عمل لآني إرنو - أن نلحظ بين السطور  طيفًا من شعور ما بالذنب لأنها عبر التعلم والكتابة ابتعدت عن الأصول البسيطة لعائلتها، وارتقت إلى صفوف النخبة. تجلى هذا في "امرأة" و"لن أخرج من ليلي" على سبيل المثال، لكنه كان محور "المكان" (ترجمة: د. أمينة رشيد ود. سيد البحراوي)، الذي كتبت في طبعته العربية مقدمة عنوانها: "رسالة إلى القارئ العربي"، بدأت على هذا النحو: "هذا الكتاب بدأ من وجع، وجع أتاني فترة المراهقة، عندما قادتني المتابعة المستمرة للدراسة، ومعاشرة زملاء من البرجوازية الصغيرة إلى الابتعاد عن أبي، العامل السابق، والمالك لمقهى/ بقالة. وجع بدون اسم، خليط من الشعور بالذنب والعجز والتمرد (لماذا لا يقرأ أبي، لماذا "يسلك بفظاظة"، كما يكتب الروائيون؟) […] كان موت أبي المفاجئ سنة نجاحي في مسابقة الأستاذية حدثًا فاجعًا. وراء الحزن غمرني يقين "بخيانة طبقية"".

 

في النهاية ثمة الكثير مما يمكن قوله عن إرنو، لكن الأهم من وجهة نظري أنها ظلت وفية لرؤاها الجمالية وواصلت التقاط ما قد يراه الآخرون عابرًا وهامشيًا أو حتى لا يصلح مادةً لـ"الأدب الكبير"، وإحالته إلى أعمال تشرِّح فيها مشاعرها بلا هوادة وتحفر داخل ذاتها بشجاعة وصدق نادرين، هما في ظني ما يدفع القراء، مهما تباينت ثقافاتهم وخلفياتهم عنها، إلى رؤية أنفسهم ومشاعرهم الدفينة بين سطورها وفي ثنايا ما تكتبه. فتصير الكتابة، وفق هذا المعنى، مرآة تدمج بين الذات والآخر، وتجربة تشاركية بامتياز، وهو ما تعيه إرنو جيدًا، إذ سبق لها أن كتبت أن: "إذا كان ثمّة تحرّر عبر الكتابة، فهو ليس في الكتابة ذاتها، بل في هذه المشاركة مع أناسٍ مجهولين في تجربة مشتركة."

لهذا يبدو تتويج مشوار آني إرنو الروائي بجائزة نوبل، تتويجًا لمسار معين ورؤية بعينها في الكتابة، أقصد الكتابة المنحازة للخافت والذاتي والهامشي والمشغولة بتشريح الذات والغوص فيها، لكن ليس من باب التقوقع وبناء الجدران بين الذات والعالم، وإنما بهدف البحث عن مشتركات مع الآخرين، مع شركاء الوجع والألم والاخفاقات وحتى المشاعر الهوسية من بني البشر.

كما يبدو فوز إرنو بالمثل تتويجًا لحيوات أناس نعرفهم جيدًا، عبر قراءة أعمالها، بداية من الأم؛ السيدة دوشاسن المرأة البسيطة التي تعرفنا عليها في "امرأة" وعشنا معها لحظات أفولها ومرضها في "لم أخرج من ليلي" المدون في صورة يوميات كتبتها إرنو أثناء مرض الأم، ومرورًا بالأب وصولًا إلى الزوج/ الطليق والعشيق وغيرهم من أبطال إرنو البارعة في تشييد الجسور بين تجاربها الخاصة وتجارب قرائها.

 *نقلًا عن جريدة أخبار الأدب.

 

 

 

Tuesday, November 23, 2021

أن تقرأ الأدب الأمريكي في كوبا كاسترو

 


 

خوسيه مانويل بييرتو

ترجمة: منصورة عز الدين

 

هيمنجواي في كوبا، 1934



في ربيع 2007، كنت مدعواً لعشاء نظمته مجلة باريس ريفيو على شرف نورمان ميلر. كان الروائي قد نشر لتوه ما سيكون روايته الأخيرة، "القلعة في الغابة"، وكان إي إل دوكتورو سيجري حواراً معه ليلتها. ذاك المساء، حين دخل ميلر الغرفة، بِسَمته المميز جداً – لرجل كان يوماً صلباً وقوي البنية، ويتكئ الآن على عكازين بسبب تقدمه في العمر- تأثرت بعمق. عبرت له – وماذا غير هذا يُقال في ظرف مماثل؟ - عن إعجابي الشديد  بكتبه وعن أنني بدأت قراءتها عندما كنت صغيراً جداً، قبل سنوات عديدة.

بعد أيام قليلة، حكيت لصديق عن هذا اللقاء. "لكن، كيف؟" سألني مندهشاً، "هل قرأت نورمان ميلر في كوبا؟!" وأضاف، "أليس من المفترض أنه واحد من كتاب أمريكا الشمالية الممنوعين في الجزيرة؟"

تخيل صديقي، ربما لسبب وجيه، أنه لم يكن بالإمكان العثور على أدب أمريكي في كوبا، وأن هذا الأدب مُنِع لأن البلدين كانا في حالة حرب شبه معلنة، وعداء معلن بوضوح. بصبر أوضحت له أن هذا لم يحدث قط.

كُتب ميلر وكثيرين غيره من كتاب أمريكا الشمالية لم تكن ممنوعة في كوبا؛ في الحقيقة، كانت تُباع على نحو واسع. كانت متاحة في كل مكتبة؛ وبإمكان كل شخص قراءتها.                            

ومع هذا، دفعني تعليقه، للتفكير في تأثير أدب جارتنا علينا في كوبا. دفعني لتأمل الكيفية التي تغلبت بها هذه الكتب على الرقابة والظرف السياسي، وكان (أي التعليق) سبباً لأن أتذكر مساراً ثقافياً، وأن أشكل قائمة مختصرة بالكتب الأمريكية الشمالية التي قرأتها كطفل في كوبا إبان حكم كاسترو، متأملاً في كيفية تأثير هذا الأدب بقوة على تكويني الأدبي.

أتحدث عن كُتَّاب مثل إرنست هيمنجواي، وليم فوكنر، ج. د. سالينجر، كارسن ماكالرز، وليم سارويان، شيروود أندرسون، جيمس فينيمور كوبر، ثورنتون وايلدر وكثيرين غيرهم: قائمة لا نهائية. هذه الكتب كشفت لي، ولا تزال تكشف، كيف يمكن للأدب عبور الحدود، وفوق كل شيء، اختراق جدار العدائية.

كنت طفلاً خلال حرب فيتنام، حيث كانت الصحف تغص بالكاريكاتيرات المعادية لأمريكا بدرجة فظيعة. الولايات المتحدة كان تلام على كل مصيبة، على كل شيء يحدث للدولة: كل حالة وفاة، كل كارثة طبيعية. كانت أمريكا مكاناً بلا قلب، حيث يتعاطى الناس المخدرات، ويبلغ العنف معدلات غير مسبوقة، وتسيطر العنصرية على كل شيء. هذا ما كنت تجده مذاعاً في الراديو ومعروضاً على شاشة التلفزيون يومياً.

 وإذا لم تستمع إلى الراديو أو تشاهد التلفزيون، ربما يمكنك المشاركة في مجموعة دراسية، من تلك التي كانت تعقد لتحليل آخر خُطب القائد الأعظم. هذه المجموعات الدراسية كانت واحدة من اجتماعات عامة تستمر لساعات وساعات، تتهم الولايات المتحدة بالعدوانات الأكثر غدراً، تحرض الجماهير وتزعج الدُمى التي يحركها المعتدون.

لكن، ما أريد لفت نظركم إليه – ما لا يزال يدهشني اليوم – أن كل هذا لم يغسل مخي. لم يشكِّل رأييّ في العالم الخارجي وبالأخص الولايات المتحدة. لا يعني هذا، أنه لم يكن ذا تأثير عليّ، لأنني طبعاً تأثرت، وظلت رؤيتي لسنوات مشوبة بأكثر الصور النمطية شيوعاً؛ لكن هذا لم يخرب كل شيء بالنسبة لي.

أدين بخلاصي للكتب. ربما كان كتاباً لهنري جيمس قرأته خلسة بينما يتلو قائد الشباب الاشتراكي بطريقة رتيبة خطاباً سمعناه كلنا قبل أسابيع قليلة. الخطاب السياسي للمسؤول الحزبي كان مملاً جداً ولا يمكن مقارنته بالأناقة التي عثرت عليها، مثلاً، في قصة "ديزي ميلر" لجيمس. هذا الكتاب أسرني. وقعت في هوى بطلته غير العادية لدرجة أنني بعد سنوات عديدة، عنونت واحدة من قصصي الأولى، المكتوبة في روسيا، "ديزي"، وهو اسم شائع لدينا أيضاً في كوبا.

في رأيي، من الواضح أن المسؤولين عن سياسات النشر خلال السنوات الأولى للثورة الكوبية كان لديهم تركيز على الجوانب الإنسانية؛ لم يكن الأمر عقائدياً جداً. أعتقد أنهم نظروا إلى الأعمال الأساسية للكتَّاب الأمريكيين باعتبارها جزءاً لا غنى عنه من التكوين الثقافي لأي شخص متعلم. ولا أظن أن أي مكتبة تم إخلاؤها من كتب أمريكا الشمالية. لم يكن هذا ما حدث، مثلاً، في مكتبة مدرستي، وقد درست في مدرسة لينين الشهيرة، حيث اعتاد المسؤولون الحزبيون الكبار إلحاق أطفالهم.

رغم أن هذا قد يبدو متسماً بالتناقض، فإن دور النشر المملوكة للدولة هي ما غرس بداخلي شغفي بالأدب، وبالأخص أدب أمريكا الشمالية. كانت هذه الدور تفضل الأدب الذي يتناول موضوعات اجتماعية؛ مُنِحت الأولوية للكُتَّاب الذين أتموا بطريقة ما عمل وزارة الحقيقة الكوبية[i]، أو للكتب التي تدين، على نحو راقٍ وفني، الجار الشمالي الكبير. نتيجة لذلك، كانت هناك دائماً عناوين أمريكية شمالية بين الكتب التي اعتادت أمي، وهي قارئة نهمة بدورها، أن تشتريها أسبوعياً. ذات أسبوع قد يكون الكتاب هو "بدم بارد" لترومان كابوتي، الذي لا بد أنه نُشِر ليُظهِر مناخ الجريمة الدائم في الولايات المتحدة. في الأسبوع التالي "تأملات في عين ذهبية" لكارسن ماكالرز، كتاب بلا نقد واضح (لا أظن) واعتقدت، ولا أزال، أنه حافل بالغموض. ثم قد تُحضِر أمي للمنزل عملاً تراجيدياً أمريكياً لثيودور دريزر، كان قد نُشِر ليبين الوجه القبيح للرأسمالية. كان من السهل العثور على "إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك؟" لهوراس ماكوي، أو "الغاب" لآبتون سينكلير. لا زلت أتذكر بوضوح  صورة من الغاب جعلت الطفل الصغير الذي كنته يرتجف: ثمة أواني طهو عملاقة يلقي فيها عمال متعبون دوماً، أحشاء الحيوانات المقتولة في مذابح شيكاغو، وذات يوم، يتعثر واحد منهم، ويقع في أحد هذه الأواني، لكنهم يتركونه فيه، لأن منطق رأس المال البائس يمنعهم من رمي كل هذا اللحم. ثم، في مطعم بشيكاغو، يقضم زبون شيئاً صلباً بأنيابه. يخرجه من فمه ويفحصه في الضوء. يتضح أنه زر يخص العامل المطبوخ. 

الكتب الأخرى التي كانت تُوزَّع على نطاق واسع، هي تلك التي تناولت استغلال السود في الولايات المتحدة. قرأتها باهتمام خاص. على سبيل المثال، قرأت "الولد الأسود" لريتشارد رايت عندما كنت صغيراً جداً، وقد صورت التمييز ضد السود في الجنوب بطريقة حيوية جداً. لا أزال أتذكر مقاطع كاملة من الكتاب وأسماء العديد من شخصياته: شورتي، الصديق البدين الكلبي لريتشارد والذي يسمح للناس بضرب مؤخرته مقابل نقود معدنية؛ السيد فولك، الأيرلندي الذي يسمح لريتشارد باستخدام كارت المكتبة الخاص به للحصول على  كتب لا يستطيع ولد أسود الحصول عليها؛ السيدة روس الحنون وابنتها بيس التي ساعدت الصغير ريتشارد كثيراً.

 

قرأت أيضاً الرواية "الاشتراكية" "طريق التبغ" لإرسكين كولدويل. قرأت ثلاثية أمريكا و"تحول مانهاتن" لجون دوس باسوس. قرأت "واينزبيرج – أوهايو" لشيروود أندرسون. قرأت سينكلير لويس وإرنست هيمنجواي، بالطبع. كان هيمنجواي مثال كاتب أمريكا الشمالية الطيب: محباً لكوبا (صورها بشغف، كما قيل لنا، في العجوز والبحر) ومؤيداً للجمهورية الأسبانية (لمن تدق الأجراس). في كوبا كان هيمنجواي معبوداً.

قرأت الكثير من أعمال وليم فوكنر. أتذكر بوجه خاص، ما بعد ظهيرة كان عليّ فيها أن أكون مع والدي في واحدة من زياراته للطبيب، لكن بدلاً من هذا، بقيت في السيارة أقرأ. كنت أقرأ طبعة قبيحة من "بينما أرقد محتضرة" صادرة عن دار النشر التابعة للدولة، وقرب النهاية، بينما تحمل العائلة جثة الأم وعليها عبور النهر بها وهو في حالة فيضان، اختبرت حالة انغماس صوتي، نوعاً من الهلوسة السمعية: كان باستطاعتي سماع هدير الريح، الماء وهو يخبط محور عجلات العربة، حفيف أغصان الشجرة. حين دق أبي أخيراً على شباك السيارة لينبهني لعودته، انتابني إحساس بأن الصمت ران على كل شيء حولي لأن أحداث الرواية توقفت عن الحدوث.

قد يمثِّل هذا مفارقة ساخرة، لكن الكتب التي مُنِعت أكثر من غيرها، كانت الكتب الخفيفة الرخيصة. "البيست سيلرز"، و"البالب فيكشن": بكلمات أخرى، كتب بإمكانها أن تكون مصدراً للتسلية. وكنتيجة لهذا، أصبحت حيازة أحدهم لكتب كهذه تعبيراً عن المكانة، حتى عندما يتعلق الأمر بشيء بلا طعم كرواية "مطار" لأرثر هايلي. أطفال الوزراء والدبلوماسيين الكوبيين تجولوا في مدرستي بهذه الكتب لأنها كانت بالضبط نوعية الكتب التي يشتريها الدبلوماسيون والوزراء الكوبيون خلال رحلاتهم للخارج. استطعت قراءة معظم الكتب الأعلى مبيعاً في هذه الفترة: "الفك المفترس" لبيتر بينشلي، "ملف الأوديسا" لفريدريك فورسيث، و العمل الأكثر ابتكاراً "بابيلون" لهنري شاريير. 

 

للأسف، هذا التحرر المبكر في ما يخص الثقافة في كوبا، والذي استفدت منه كقارئ خلال طفولتي ومراهقتي، استحال اليوم إلى انعدام مرونة، ورؤية أكثر دوجماتية لا تسمح بغزل ثقافي مماثل. رؤية القارئ الكوبي اليوم لأدب أمريكا الشمالية تنتمي، بكثير من التفاؤل، إلى السبعينيات. هي، بكلمات أخرى، متخلفة بمقدار ثلاثين عاماً. في كوبا لم يُنشَر أي عمل لدون ديليلو، توماس بينشون، أو توني موريسون. أبعاد هامة من الحياة في الولايات المتحدة، والحال هكذا، تم تجاهلها: على الأخص، التنوع العرقي الهائل في الولايات المتحدة، صعود الكتاب المنتمين للأقليات، الأمر الذي وسم المشهد الأدبي الأمريكي خلال العقود الأخيرة، وثورة المثليين.

مع هذا، لو أن تاريخي مع الكتب الأمريكية التي قرأتها طفلاً في كوبا كاسترو يوضح شيئاً ما، فإنه يوضح قدرة الأدب على دحض الصور النمطية، وإلغاء حتى أكثر الحملات الاتهامية وبرامج البروباغندا فظاعة. الأدب يقرب الأمم من بعضها البعض أفضل من آلاف الخُطب ذات النوايا الحسنة.

بالنسبة لي، الأدب ترياق مضاد للبروباغندا – ترياق أعانني على اكتساب فكرة أكثر إنسانية عن دولة قٌدِمت كعدونا الرئيسي، الذي يتجسس دائماً علينا ومتأهب لغزونا عسكرياً. ما الصورة التي وصلتني، بعد كل هذه الكتب، عن الأمريكيين؟ كانوا مهووسين عند فوكنر، وإقليميين بسطاء عند لويس، وعصابيين عند سالينجر، ووحيدين على نحو مروع عند كارفر. شعب – كيف أقولها؟ - من البشر، عاديون بشكل تام.

 

خوسيه مانويل بييرتو روائي ومترجم كوبي مقيم بنيويورك، ويدرِّس الأدب في جامعة سيتون هول.

 نُشِرت في "بستان الكتب" بجريدة أخبار الأدب، نوفمبر 2015



[i] هنا إشارة ساخرة إلى "وزارة الحقيقة" في رواية "1984" لجورج أورويل