Monday, April 6, 2015

حياة زجاجية

  
منصورة عز الدين
                
                 
كانت العربة تشق طريقها بالكاد وسط المياه، فيما تتجمع زخات المطر على زجاجها الأمامي لتتحول إلى خيوط متداخلة لا تقوى المساحات على التخلص منها.

حوّلت بصري عن خيوط الماء.. التقت عيناي بعينيّ السائق.. بدت لي نظرته أشبه بنظرة مجنون فسحبت عينيّ بسرعة وركزت انتباهي مرة أخري علي خيوط الماء المنزلقة علي زجاج السيارة. كان يقود بيد واحدة  بينما تتحرك يده الأخري بعصبية بحثا عن شيء ما في تابلوه السيارة. ثم لا يلبث أن يكف عن ذلك ليضعها علي فمه أو يضغط بها علي جبهته بقوة. بعد لحظات بدأ جسده يهتز بطريقة غريبة وبين الحين والآخر كان يرمقني بنظرة نارية عبر المرآة..

احتمال أن يكون الرجل مجنوناً أو تحت تأثير مخدر قوي أرعبني، اكتشفت فجأة أن الرعب الحقيقي لا يكمن في تعرض أحدنا لخطر عدو شرس ذي قلب ميت إنما في أن نقع تحت مخالب مجنون لا يستطيع السيطرة على نفسه. فقدان العقل يغدو مفزعاً في مثل تلك الحالات، رغم أننا لا نفطن أصلا إلي وجوده في ما عداها.

انتبهت من أفكاري على زخات متصاعدة من المطر وعلى همهمات متألمة تصدر عن السائق الذي طلبت منه تهدئة سرعته فسمعته يخبرني بأن الأمر برمته خرج من يده. كانت نظرته عبر المرآة تحمل ما يشبه الاستغاثة فانهرت تماما. فرغم خوفي في اللحظات السابقة من بطشه بي إلا أن جزءاً بداخلي كان يرتكن إلي الراحة من قوة وثبات افترضتهما فيه شأن افتراضاتنا الساذجة عن كل الخاطفين.

كنت أظن أنه مهما فعل سيكون أكثر أمناً من الطبيعة التي كشرت عن أنيابها، لكن استغاثته حطمت آخر أمل لدي ونبهتني إلي أننا معاً تحت رحمة قوي مجهولة.
أبصرت عرقاً غزيراً يتفصد علي وجه الرجل فيما كان يلعن ويسب وهو ينظر بهلع إلي الطريق المحاط بأشجار كثيفة من الناحيتين وقد أخذ يضيق لدرجة أصبحت تعوق حركة السيارة.
بدأت أرتعش بشدة وقبل أن أغيب تماماً عن الوعي أطاحت يد عملاقة بجسدي نصف المغيب إلى خارج العربة فتدحرج عدة مرات على أرضية حديقة تشبه الدغل تحيط بالفيللا شبه المهجورة المجاورة لمنزلي.

أشواك حادة خدشت وجهي وأجزاء متفرقة من جسدي وأحسست بدماء طازجة تنزف مني في أكثر من موضع ثم بدأ وعييّ يعود إليّ.. ثمة كلب كان ينبح في مكان قريب بصوت مجروح وكائنات سوداء تشبه القطط كانت تركض بجواري مصطدمة بجسدي.

همهمة غامضة كانت تصدر من داخل الفيللا.. تحاملت على نفسي وتحركت باتجاه الدرجات الأربع المؤدية إلى الداخل، دفعت الباب الموارب ودخلت بوجل غير معتادة على خطوتي العرجاء.. كل شيء كان مختلفاً عن الأجواء الخارجية، مدفأة قديمة محاطة بطوب وردي اللون تتأجج فيها النيران كانت تتصدر المكان وبجوارها كرسي هزاز مازال يتأرجح ببطء، كأن شخصاً ما قد غادره تواً.. كنبة كبيرة وفوتيهات عدة تناثرت هنا وهناك والحوائط بأكملها كانت مكسوة بمرايا براقة انعكست عليها  صور المدفأة بنيرانها والفوتيهات والكرسي الهزاز وكل ما بالبهو إلاي، حيث لم أجد أثراً لجسدي على صفحات تلك المرايا الملعونة فانطلقت في صراخ يائس.

***

لم أعرف أبداً من الذي نقلني إلى بيتي لأجد نفسي في الصباح بين اليقظة والنوم على فراشي الدافئ.. كل القوانين معطلة والأشياء ليست كما أعرفها بل جد مختلفة.. الغرفة مغلفة بإضاءة حمراء ملتهبة، وقطع الأثاث في غير مواضعها المنطقية.. الباب مفتوح على الردهة التي أصبحت أضيق من حقيقتها، ومنها يبين شيش باب الشرفة، وهو يتموج تموجات شديدة الاهتزاز.

وحدها نجفة السقف الثابتة على شكل غصن شجرة به ثلاث ورقات تحمل كل منها لمبة، وحدها تلك النجفة بدت كأنها تتحداني.. تقترب مني رويداً رويداً، تكاد تصطدم بوجهي قبل أن ترتفع فجأة لتعاود كرتها من جديد.

ثمة أصوات كانت تتزاحم من حولي في أرجاء البيت كما لو أنها استغنت عن أصحابها وتحولت إلى محض صوت يتجول وحده مبيناً مدى هشاشة الأجساد.

عندما أفقت تعرفت على الحياة كما آلفها، افتقدت حالة الاهتزاز المقبضة التي عايشتها وضايقني أنني لن أعرف ما إذا كان ما مررت به حلماً أم أي شيء آخر..

حاولت أن أتناسى لكن عينيّ السائق ظلتا تلحان عليّ. فتحت باب الشرفة وألقيت نظرة على الجو بالخارج.. رأيت الشمس متوهجة والشوارع نظيفة وجافة كأن ماء المطر لم يمسسها منذ زمن، وكالعادة قبعت الفيللا شبه المهجورة المواجهة لشرفتي مستسلمة للصمت التام، فعلى عكس البيوت المجاورة تتواءم تلك الفيللا مع الظلام والسكون: لا أضواء ليلية، لا أصوات تنبعث منها، لا مشاجرات، لا شيء علي الإطلاق.

اعتدت أن أمر بها كل صباح أثناء خروجي للعمل، كما تحلو لي مراقبتها ليلا للتأكد من السكون الرهيب الذي يغمرها. ما بين السادسة والسابعة مساءً تظهر يوميا المرأة النحيلة ذات النظرة الحولاء، كأنما تبحث عن شيء ما بـ'الفراندة'. تسير جيئة وذهاباً عدة مرات قبل أن تجلس إلي كرسي البامبو ذي الوسائد المتداخلة الألوان مسندة مرفقيها إلى الطاولة المستديرة، وتظل على جلستها لبعض الوقت ونظرها مشدود إلى مدخل الحديقة الشبيهة بأحراش مصغرة تحتاج إلى من يهذبها، ثم لا تلبث أن تلتجئ إلي داخل الفيللا بخطوات مسرعة مرتبكة.

تبدو المرأة بملابسها وتصفيفة شعرها كشخصية خرجت لتوها من كتاب مصور يتناول فترة الخمسينيات من القرن العشرين. وجهها خالٍ من التعبيرات تقريباً ونظرتها الحولاء تسلمني إلي الانقباض.

أتساءل حين أحملق فيها: هل تري عيناها العالم كما تراه عيناي بالضبط؟ وهل نري كلنا الأشياء حولنا بالكيفية نفسها؟ ماذا لو كانت هناك اختلافات طفيفة جدا من شخص لآخر قد يؤدي تراكمها إلي نتائج مفزعة؟ ماذا لو كانت هذه المرأة مجرد وهم؟ لماذا لا أنادي عليها بصوت مسموع، ربما يبدر منها ما يدل علي أنها هناك؟

لكنني دائماً ما أقف عند هذه النقطة ولا أحاول المضي قدماً في تساؤلاتي المرهقة، تحاصرني الملامح الحادة والنظرة الزجاجية لامرأة في الخمسين من عمرها غير منشغلة إلا بما في داخلها فأرتب شقتي وأنظف الزهور البلاستيكية من التراب المتراكم عليها، وأتأكد من أن قطع الأثاث في مواضعها تماماً، ومن وقت لآخر أتسلى بمراقبة الوقت الذي يتفتت أمامي إلى قطع مهشمة متناهية الصغر يصعب ضمها إلى بعضها البعض، لكنها حين تقرر الالتئام تضغطني بين حوافها المدببة.

أراقب الوقت الذي لا يأبه بأحد بل يظل مسدراً في غيه مفتتاً الجميع إلى شظايا صغيرة تتشابه معه وتتحول مثله إلى غبار متطاير في الهواء، فأصل بحدسي إلى أنه مجرد شخص بالغ الوحدة والكآبة يبحث عن أشباه لكنه لا يتماهى معهم إلا بابتلاعهم في أحشائه الوسيعة، ومن ثم أقرر من تلقاء نفسي أن أسارع باتجاهي نحوه، أن أنهي قصة وجودي على نحو رائع يتماشي مع رؤيتي المتضخمة عن ذاتي، وعلى الرغم  من هذا كنت أجبن في اللحظات الأخيرة وأتشاغل بتفاصيل صغيرة تمسك بتلابيبي.. أذهب إلي العمل، وأتسكع في الشوارع، وأتأمل أعماقي في الأماكن الصاخبة، وقبل كل ذلك كنت أواصل مراقبتي للمرأة بالفيللا المجاورة.
لا أذكر الآن متي اصطدمتُ بالنظرة الحولاء لأول مرة، لكنها كانت لحظة استثنائية في حياتي الراكدة. بدت لي كرسالة مبهمة تحتاج إلى من يفك شفرتها كما بدا لي انحراف إحدى عينيّ المرأة كمؤشر على خلل رهيب اعترى روح العالم.

***

كانت المرأة النحيلة منهمكة في عمل شيء ما بشرفتها، حين انبعثت أنة مكتومة من الداخل فانتفضت ورمت لي نظرة سريعة قبل أن تستدير نحو مصدر الصوت. انتفاضتها المرتعبة حركت فضولي.

صحوت مبكراً في اليوم التالي وتسللت للبحث في أكياس قمامتها إلا أنني لم أجد فيها ما يلفت النظر. فقط مجرد ضمادات قطنية مدماة وأمبولات زجاجية مكشوطة العنق وبقع دماء جافة تغطي كل شيء. لم يكن ثمة بواقي طعام أو زجاجات عصير فارغة أو حتي قشر فاكهة، ولولا المرأة ذات النظرة الحولاء وصوت الأنين الذي بدأ يتصاعد بشدة لاقتنعت بأن هذا المنزل مهجور تماماً.

الأنين المتزايد جذبني ناحيته ولدهشتي وجدت الباب مفتوحاً ووجدتني في البهو نفسه ذي المدفأة القديمة والكرسي الهزاز والفوتيهات المتناثرة، لكن المرايا بدت وكأنها مصمتة تماماً.. لم تعكس أياً من هذه الأشياء، خطوت في الردهة التي ينبع منها الأنين وفتحت باب الحجرة.

رأيت المرأة النحيلة ترقد بجوار جثة رجل واضعة يدها فوق صدره، فيما خيط غزير من الدماء الداكنة ينساب على الأرضية باتجاه الباب.. تقدمت ببطء ودون أن أحتاط للأمر، واجهتني صورتي في مرآة صغيرة بجوار الفراش. كانت عيناي مركزتين على نظرة حولاء وجسد نحيل يتحديانني بشراسة قبل أن أغرق في ظلام دامس.

مايو 2002

 نُشِرت القصة لأول مرة في جريدة أخبار الأدب مايو 2002، ثم في مجموعة "نحو الجنون".. دار ميريت.. القاهرة.. 2013.

No comments:

Post a Comment