منصورة عز الدين
"الأمر الوحيد الذي قيل عن ملابسات العثور على جثته
مشوهة هكذا في جزئها العلوي، هو أن الرجل كان قد تعرض لمواد مفجرة هشمت أعلى جسده
على نحو كامل، وجعلته أشبه بكومة لحم رخوة ومبعثرة". على هذا النحو الخاطف
يبدأ الشاعر اللبناني فادي طفيلي كتابه "اقتفاء أثر.. مرويات في المدينة والأمكنة
والأحياء"، الصادر عن جمعية "أشكال ألوان".
ينطلق المؤلف من حادثة اغتيال جميل الصفوري، معلم اللغة
الإنجليزية والمبشر في المدرسة الإنجيلية، في وقت كان التبشير المسيحي
البروتستانتي فيه دعوة جنونية ومخاطرة في بيروت الغربية أواخر السبعينيات ومطلع
الثمانينيات.
التحق طفيلي بالمدرسة الإنجيلية عام 79، وتتلمذ على يد
الصفوري، وكوّن عنه صورة مغايرة لوضعه النهائي كمختطف مقيد داخل الصندوق الخلفي
لسيارة، أو جثة مشوهة مكومة في أحد أركان "زقاق البلاط". صورة يظهر فيها
كرجل لا يرضخ أبداً، ولا يكف عن التبشير بلهجته الفلسطينية الواضحة، ويتباهى بأنه لا
يخشى شيئاً ويعرف كيف يسلك طريقه في قلب الأخطار.
الكتاب عن المكان؛ عن حي زقاق البلاط وبيروت المقطعة
الأوصال بالمقابر والحواجز بين المتقاتلين، لكن جثة جميل الصفوري تطل علينا على
امتداد صفحاته باعتبارها المحرض على السرد والدافع الكامن خلفه. هي ليست مجرد عتبة
سرعان ما يتجاوزها المؤلف في رحلته لاقتفاء أثر المكان، إنما هي المكان نفسه، وقد
تماهى معها، وتبعثر مثلها إلى شظايا وأشلاء، فصار استعارة لها وصارت استعارة له.
هذا التماهي يمهد له صاحب "شجرة بيضاء تحاول الطيران" من البداية حين
يشير عابراً إلى أن "رائحة الطبشور والجير التي كانت تلازم يديه القويتين،
أخذت تقربه في ذهني إلى صورة حجر عنيد أو صخرة صلبة لا تلين".
اللافت أن ذاكرة الكاتب، الذي تهجرت عائلته من شرقي
بيروت إلى زقاق البلاط، فارغة ومخدرة بخصوص حياته المبكرة قبل التهجير، كأن
الذاكرة تبدأ من زقاق البلاط وفيه، "ذاكرة جديدة كاملة" سرعان ما اختلطت
مع أشلاء جميل الصفوري التي غدت موزعة هكذا، هنا وهناك في جميع أنحاء الحي وأركانه
وزواياه الخبيئة. يكتب طفيلي: "كما
تماهت الجثة، المكتومة الخبر، بالنسبة لي، مع غياهب الحي وبواطنه، قامت المقابر
متربعة بين الأحياء، وانسلت في ما بينها كي تضبط حدود التوترات والعلاقات
المحجوبة، وكي تلحم عناصر السكن والموت في جسم واحد يضج بالاثنين معا". إنها
الحرب وهي تعيد رسم جغرافيا الأماكن وتتلاعب بها تاركةً بصماتها عليها. المكان هنا
تقطع، ولم يعد كصورته القديمة في الذاكرة، والكتابة أشبه بمحاولة إيزيسية لجمع
الأشلاء المبعثرة ووصلها معاً.
طبقات متراكمة من ذاكرة المكان ينجح فادي طفيلي في تقديمها
بضربات سريعة موجزة: بورة رمل قام عليها يوما قصر الماركيز دو فريج، ثم صارت ملعب
كرة للأكراد قبل أن تبنى فيها اليوم مدرسة بمنحة كويتية هي أشبه بسجن!
فادي طفيلي يكتب عن الفقد، واستحالة أن يظل شيء على حاله،
حتى بدون حرب لأن التغير مآل حتمي، وحتى في الذاكرة لأنها تتلاعب بالروائح والظلال
والتفاصيل. هو هنا يعيد اختراع المكان ويشحنه بالروائح والأصوات والإيقاعات الدفينة.
يفعل هذا بلا نوستالجيا أو تورط عاطفي يثقل السرد ويغيِّم الرؤية، بل بعين رائية
وحياد فني تام وموازنة ماهرة بين إيقاع لاهث، ونبرة تأملية هادئة تكبح جماح هذا اللهاث
وتحوله إلى أفكار وتأملات تشرِّح المكان المتشظى وتفكك الحرب وآثارها على الأماكن
والبشر والعمران، دون الانزلاق في فخ التفجع والإدانات الأخلاقية السهلة.
زاوية "كتاب".. نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.