Thursday, June 9, 2016

إيماءة تقدير




منصورة عز الدين

لطالما استمتعت بتخيل علاقات بين كتاب متباعدين: ما الذي يمكن أن تكون عليه صداقة بين ميشيما ونوربرت غشتراين؟ أو بين إيتالو كالفينو وإدجار آلان بو؟ ما الحوار المحتمل لو اجتمع وليم فوكنر بجونتر جراس؟ أو خوان رولفو بديفيد فوستر والاس؟
وفي فترة تمنيت وجود مراسلات منشورة بين خوليو كورتاثر وأدولفو بيوي كاساريس! لا أعرف لماذا كاساريس تحديداً، وليس بورخيس مثلاً، فبعض الأمنيات بلا عقل أو منطق، لكنها كانت أمنية معقولة بالنظر لانتماء الكاتبين لعصر واحد وجنسية واحدة.
لكن كورتاثر وأد أمنياتي حين ذكر في "يوميات لكتابة قصة" أنه لم يقابل كاساريس سوى ثلاث مرات، وأن كل ما تبادلاه من حديث في المرة الأولى هو أن أحدهما طلب من الآخر تمرير الملح له خلال حفل عشاء!
وفي المرة الثانية زاره كاساريس في بيته بباريس، والتقط كثيراً من الصور؛ لم يتذكر كورتاثر سبب الزيارة لكنه تذكر أنهما تحدثا عن جوزيف كونراد. أما المرة الثالثة والأخيرة فكانت خلال حفل عشاء آخر ببيت كاساريس في بوينس أيريس، وتحدث الكاتبان وقتها عن مصاصي الدماء!
غير أن ما كتبه كورتاثر عن صاحب "اختراع موريل" في نصه، المشار إليه أعلاه، مثَّل تعويضاً مناسباً لي، حيث تمنى لو كان كاساريس لأن الأخير أقدر منه على كتابة القصة المرغوبة منه والمتمنعة عليه. فالمسافة التي يجيد كاساريس وضعها بين راويه وشخصياته ستنجح في ترويض "أنابيل لي"؛ الشخصية التي تخايل كورتاثر من ماضيه والمستلهمة (اسمها على الأقل) من قصيدة لإدجار آلان بو.
في "يوميات لكتابة قصة" أعلن صاحب "لعبة الحجلة" إعجابه اللا محدود بموهبة مواطنه وسخر من نفسه وكتابته بطريقة لا يجرؤ عليها إلّا الكبار.
السخرية من الذات بل ومن النوع الأدبي المكتوب، ظهرت بشكل مختلف في رواية فريدريش دورنمات البوليسية "الوعد"، ففي فصل محوري ينقل الرواية بكاملها إلى مكانة أعلى، يعلن لواء الشرطة السابق أنه يفضل ماكس فريش على "الكاتب" الذي تشير كل الدلائل إلى أنه قناع سردي لدورنمات نفسه. يوضح الرجل مآخذه على أسلوب "الكاتب" المولع بالعبثية وبأن يكون أكثر بشاعة من الواقع من أجل المتعة الخالصة مع الإشارة لشخصياته الورعة غريبة الأطوار.
والمفارقة أن الحكاية التي يحكيها رجل الشرطة السابق للكاتب تغرق في العبثية بدورها، فعبقرية البطل متّى وخطته وتصرفاته تبدو في النهاية غارقة في العبث بسبب سخرية القدر ومفارقاته، وكما كتب دورنمات: "لا شيء أفظع من عبقري يتعثر في شيء معتوه."، في صدفة خرقاء.
ما يهمني هنا أن تفصيلة تفضيل إحدى شخصيات العمل لماكس فريش على الكاتب/ فريدريش دورنمات كانت قد فتنتني حين قرأت الرواية، التي ترجمها سمير جريس قبل سنوات، أحببت بالأساس الطريقة الساخرة اللعوب في تفكيك الأسلوب والسخرية منه وإرسال إيماءة تقدير – ولو عابرة لكاتب آخر معاصر - كما سبق وفعل كورتاثر مع كاساريس وإن كان انشغال دورنمات بتشريح الذات الكاتبة والسخرية من الرواية البوليسية ورثائها في آن أكثر من انشغاله بإيماء التقدير تلك.

الأمثلة عديدة ومعظمها يتسم بالظرف والذكاء، إلا أن الأمثلة على انتقاص الكتاب من بعضهم بعضاً أكثر، ولا ينبع الأمر دائماً من الغيرة والتنافس بقدر ما ينبع من أن كل كاتب في العادة أسير ذائقته ورؤاه الفنية وتصوراته عن الكتابة الجيدة، وحين يقرأ عملاً لكاتب آخر ففي الغالب سيقرؤه وفي ذهنه تصور بديل للطريقة الأمثل لكتابته.

نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.

No comments:

Post a Comment