منصورة عز الدين
من المفترض بالأدب أن يدفع القارئ للنظر بعين جديدة، أن
يزيح ستارة الاعتياد عن عينيه ويدفعه لاكتشاف المدهش والمثير للتأمل حتى في
البديهي والمعتاد.
وهذا ما ينجح فيه تماماً الكاتب السعودي عبد الله ناصر
في مجموعته القصصية المتميزة "فن التخلي" الصادرة مؤخراً عن دار التنوير
للطباعة والنشر والتوزيع.
نصوص المجموعة مغلفة بمسحة شعرية، لدرجة أن بعض النصوص
يمكن تصنيفها كقصائد نثر. لا أقصد بشعرية السرد هنا وفرة المجاز والصور، بل شعرية
العالم والعلاقة بين مكونات القصص وأيضاً شعرية الرؤية المختلفة.
في "فن التخلي" تتلاشى المسافة بين الفن
والواقع، بل أن الواقع كما نعرفه يكاد يختفي لصالح نسخة تخيلية منه، كأن شخصيات
الروايات والأفلام الشهيرة أو حتى المشاهد المرسومة في لوحات فنية هي الواقع
المُقتَرح علينا من المؤلف. هكذا يمكن لقارئة "موبي ديك" أن تبلل قدميها
بماء البحر الذي يبعد عنها مسافة ألف كيلومتر. وأن يستيقظ أحدهم ليجد نفسه في
الصفحة العاشرة للرواية التي أتم قراءتها في الأمس.
الكتابة هنا ورقية بشكل ما وعوالم الخيال أكثر حقيقية من
العالم المُعاش، فالواقع المعتاد مهمَّش والمرجعيات الواقعية واهية، ولو حضرت
فرؤية الكاتب المختلفة لها تحولها إلى ما لا علاقة له بما يألفه الآخرون، فالمرآة
مثلاً مجرد زجاجة مصابة بألزهايمر، والقطارات خيول شريدة، وحدبة الظهر هي كل ما
تبقى من الجبل.
لا شخصيات في "فن التخلي" بالمعنى المألوف، بل
نجد أنفسنا – في الغالب - أمام تنويعة واحدة للشخص نفسه، الذي أتردد في وصفه
بالبطل أو حتى الشخصية الفنية، وأجد أن التوصيف الملائم له هو "الذات المكتوب
عنها". الأهم من الشخصيات طرافة
الفكرة وطزاجة الرؤية والعين المتأملة بلا تكلف والمفارقة الذكية.
نصوص المجموعة بالغة الإيجاز ومكتوبة برهافة تشعر معها
أن مجرد التأويل سيفسدها، تُفضِّل كقارئ أن تتشربها وتتمثلها بداخلك لا أن
تشرِّحها. تقرأها فلا تدلك على جنسية كاتبها، تخالها لكاتب لاتيني أو أسباني لوفرة
المرجعيات اللاتينية فيها دون أن تفقدها أصالتها الفنية.
المجموعة مهداة للشاعر والكاتب الأوروجواني ماريو
بينيدتي، وفي نص "هذيان" ثمة كاتب أتاح له هذيان الحمى أن يكتب قصة تدور
أحداثها في "سانتو دومينغو" عاصمة الدومينيكان التي لم يسمع بها يوماً.
"لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بدت شخصياته دومنيكانية أيضاً كما لو أن
كاتبها جونو دياث وليس هو"!
وفي نص "حذاء رياضي للمشي"، ثمة نزهة يومية
معتادة إلى ميدان إسبانيا، مروراً بشارع القديس ليوناردو ومقهى خيخون وضاحية
البرادو حتى محطة أتوتشا للقطارات "حيث يقف عند شباك التذاكر متردداً، فالوقت
قد حان ليغلق خرائط غوغل ويسارع للتوقيع في سجل الانصراف".
كأن المؤلف يقول لنا: من قال إن الفن يجب أن يشبه واقع
كاتبه ويعكس خصوصية ثقافته الأم بالضرورة! ومن قال إن الفنان أو الكاتب عليه
الالتزام بقواعد ثابتة! الفن حرية ومحاربة للقيود وتمرد على ما هو متوقع من
الكاتب. كفى بالفن أن يكون معبراً عن خالقه؛ عن انشغالاته وهمومه ورؤيته الخاصة
جداً للفن الجيد. ونصوص "فن التخلي"، بإيجازها وعمقها والفلسفة الكامنة
خلفها، خير معبر عن موهبة كاتبها وعينه المختلفة القادرة على إغواء القارئ وسحبه
للنظر بها وتبني رؤيتها.
زاوية "كتاب".. نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.
No comments:
Post a Comment