منصورة عز الدين
"بمجرد
تصويرها، تنتهي الحياة هنا. هذا رمز لهوليوود تقريباً. لم تكن هناك غرف داخل تارا.
كان مجرد واجهة." بجملة ديفيد سلزنيك هذه يفتتح روبرتو بولانيو روايته
المدوخة "أنتويرب". و"تارا" لمن لا يعرف هو القصر الفخم بفيلم
"ذهب مع الريح" الذي أنتجه سلزنيك وحقق نجاحاً مدوياً.
يكتب بولانيو في
المقطع الأول من الرواية المعنون بـ"واجهة": "يتجه الطفل نحو
المنزل. زقاق من أشجار اللاريس. حرب الفروند. قلادة من دموع. الحب مزيج من
السنتمنتالية والجنس (بوروز). القصر مجرد واجهة- تم فكها ليعاد نصبها في أطلانطا.
1959. كل شيء يبدو مهترئاً. ليست ظاهرة حديثة. منذ وقت طويل، كل شيء حطام.
والإسبان يقلدون طريقة كلامك. إيقاع أمريكا الجنوبية. زقاق من النخيل."
اختيار كلمات
سلزنيك للبدء بها لم يكن اعتباطياً، فالرواية مغلفة بجماليات السينما، كما أن
الواجهات المموِّهة على الفراغ واللاشيء حاضرة فيها، وكذلك الإحساس المرير
بالانتهاء الحتمي وبعرَضية الأشياء وزوالها.
"أنتويرب"
مقسمة إلى مقاطع أقرب إلى شذرات قوامها أحلام وكوابيس وهلاوس. حطام كلمات وشخصيات
وعوالم. كل شيء حطام كما جاء في الشذرة الأولى. السينما حاضرة بقوة على مدى شذرات
الرواية ومقاطعها، في لحظات عديدة يشعر القارئ أنه أمام شريط سينمائي ما، أو
بالأحرى أمام "ما وراء" هذا الشريط. "ميتا فيلم" لو جاز
التعبير.
القارئ الباحث عن
الوضوح، الراغب في حكاية مفهومة، أو حتى متاهة بها مفاتيح تقود إلى درب الخروج، لن
تعجبه "أنتويرب"، قد يُفتَن بشعريتها وابتكاريتها، لكن إحساسه بالتيه
الكامل قد يدفعه لعدم إكمال قراءتها.
ثمة راوٍ عليم،
تتقاطع معه وتجاوره أصوات بولانيو ورجل شرطة، وعابرين، في أجواء تخلط العنف
والجريمة مع الجنس والنبرة الشعرية مع التقطيع السينمائي لمشاهد مرسومة بعناية
واقتضاب.
أبطال العمل، لو
جاز لنا الحديث عن أبطال لعمل مماثل، هم مؤلف اسمه روبرتو بولانيو وضابط شرطة يحقق
في جريمة قتل، وفتاة بشعر أحمر وعينين خضراوين، وأحدب ورجل إنجليزي، وليزا حبيبة
المؤلف الغائبة التي يشبهها بمرض يتملكه.
"قل لهذا
الغبي أرنولد بينيت إن كل قواعده عن الحبكة تنطبق فقط على روايات متنسخة من روايات
أخرى." يكتب بولانيو في روايته التي يحطم فيها كل القواعد والمعايير المعروفة
لفن الرواية، كأن الدافع الأول لكتابة "أنتويرب" هو إبلاغ أرنولد بينيت
فنياً بسخافة قواعده وحماقة تصوراته عن الفن. إضافة طبعاً إلى ما ذكره على لسان
قناعه المسمى أيضا روبرتو بولانيو: "أكتب لأفهم السكون."
فكتابته المشغولة
بالفراغ والزوال تبدو كأنما تضخ المعنى في الأشياء الفارغة منه، تماما كالفتاة
الصهباء حين "تخيلت أن الأثاث في الغرفة، وحتى حبيبها أشياء فارغة عليها ضخها
بالمعنى."، لكنه طوال الوقت مدرك أنه لا يمكننا الفرار من العدم.
تنتهي الرواية
بابتهال ملغز يدعو فيه بولانيو أن تكون كتابته مثل أبيات ليوباردي التي تلاها
الشاعر الفرنسي دانييل بينجا، فوق جسر على بحر الشمال، كي تمده بالشجاعة.
كل سمات كتابة
بولانيو موجودة هنا في حالتها الخام، وبأقصى درجات وضوحها، كأن
"أنتويرب" حملت بذور عوالمه الروائية وشخصياته المستقبلية، ولا عجب في
هذا حين نعلم أنها أول رواية كتبها صاحب "تعويذة"، وآخر رواية نشرها قبل
وفاته مباشرة. فبحسب قوله كتبها وهو في السابعة والعشرين في أول انتقال له من
الشعر إلى الرواية، واحتفظ بها في الدرج لأكثر من عشرين عاماً. ربما لهذا كتبها
متحرراً من أي قيود، ودون خوف من صعوبة التلقي، أو حساب لتخوفات الناشرين.
في مقدمته القصيرة
للرواية يشير بولانيو إلى أنه كتبها لنفسه: "كتبت هذا الكتاب لنفسي، وحتى هذا
لست متأكداً منه (....) كتبت هذا الكتاب للأشباح، الذين، لأنهم خارج الزمن، هم
الوحيدون الذين مع الزمن. بعد آخر إعادة قراءة (الآن فقط)، أدرك أن الزمن ليس
الشيء الوحيد الذي يهم. الزمن ليس المصدر الوحيد للرعب. يمكن للمتعة أن تكون مرعبة
أيضاً، وكذلك الشجاعة."
في المقدمة نفسها
يعترف بولانيو أن الناشرين لم يكونوا ليرحبوا بنشر الرواية لو دفع بها للنشر حين
انتهى منها، كانوا سيرفضون نشرها، وكان سيفقد المخطوط!
الطبعة الإنجليزية
لأنتويرب صادرة عن دار "نيو ديركشنز" بترجمة لنتاشا ويمر.
زاوية "كتاب".. نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.