منصورة عز الدين
تأخرت كثيراً في قراءة هذه الرواية وهذا
الكاتب، فرغم أن ترجمتها العربية صادرة عام 2010 إلّا أنني لم أنتبه لها حتى قرأت
مؤخراً مقالاً للشاعرة منى كريم عن كاتبها. الرواية هي "بارتلبي
وأصحابه" (ترجمها الكاتب العراقي عبد الهادي سعدون وصدرت عن دار سنابل)،
وكاتبها هو الروائي الأسباني أنريكه بيلا-ماتاس.
في "بارتلبي وأصحابه" يتعقب
بيلا-ماتاس كتاب الـ"لا"؛ من توقفوا عن الكتابة أو ركنوا إلى الصمت وتشككوا في جدوى الكلمة. يسميهم "البارتلبيين"
نسبة إلى شخصية بارتلبي الآسرة في عمل هرمان ملفيل: "بارتلبي النسّاخ"،
ذلك الذي كان يقول دوماً: "أفضل ألّا أفعل ذلك."
ستتصادى رواية
بيلا-ماتاس هذه مع أفكار الكتاب/ القراء المتسائلين عن جدوى الكتابة، إذ سيجدون
أنفسهم فيها، وسيلتقون مع أشباههم ويختبرون أفكارهم الخاصة في مرآة أفكار الكتاب
المشار إليهم في العمل. لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه موجه لشريحة معينة من
القراء، فالقارئ العادي سوف يستمتع به أيضاً إذ سيجد نفسه أمام تشكيلة كبيرة من
"كتاب الـ"لا""، بعضهم مألوف لديه، وبعضهم الآخر يتعرف عليه
للمرة الأولى.
الرواية تسير على
الحافة بين الرواية التخييلية المتعارف عليها وبين الـ”Non-Fiction”، إذ كانت
ستبدو أقرب لموسوعة مخصصة لهذا النوع من الكُتّاب لولا أن المؤلف يدخل البعد
التخييلي فيها عبر الراوي الذي نتعرف عليه من خلال شذرات عابرة يخبرنا فيها من وقت
لآخر عن نفسه وحياته المختلفة عن تلك الخاصة ببيلا-ماتاس. في السطور الأولى مثلاً
نعرف أنه أحدب منعزل ولا حظ له مع النساء. وأنه نشر رواية قبل خمسة وعشرين عاماً،
لم يعد للكتابة بعدها بسبب صدمة انتابته حين أهدى كتابه لأبيه ففهم الأخير أن
جزءاً من الكتاب يضم تجديفات ضد زوجته الأولى، فأجبر ابنه على كتابة إهداء على
نسخة من نسخ الكتاب بكلماته هو.
بالنسبة للراوي
كان الأدب الوسيلة الوحيدة لشعوره باستقلاليته عن أبيه، لكنه في الختام رضخ وكتب
ما يريده الأب: "شعرت برعب التحول لناسخ يعمل بأمر ديكتاتور إهداءات".
ولأننا أمام عمل
مخصص للكتابة وعنها، فمن الطبيعي أن تنحل عقدة الراوي عبر قراءته لكتاب هو
"معهد بيير مينارد" لروبرتو موريتي: "ساعدني على تهيئة الأرضية
لقراري بشطب صدمتي النفسية القديمة والعودة للكتابة". الكتاب المشار إليه
يدور في أجواء معهد يعلمون فيه قول كلمة (لا) بأكثر من ألف وسيلة!
يخبرنا الراوي أيضاً
منذ البداية أنه بدأ تدوين هذه "اليوميات" في 8 يونيو 1999، واصفاً
إياها بـ: "دفتر هوامش في أسفل الورقة تتضمن تعليقات على نص غير مرئي، والذي
أرجو أن يبين قدرتي بتتبع الشخصيات الـ بارتلبية".
الكتاب بكامله
جولة داخل أروقة ما وراء الكتابة، إذ يمضي المؤلف متنقلاً بين كُتّاب بارتلبيين
تنوعت خلفياتهم واختلفت أسباب صمتهم، وشخصيات فنية وروايات أو كتب تناولت هذه
الظاهرة بشكل أو بآخر. إنها الشعاب المهلكة لمتاهة الـ لا، كما يطلق عليها. ووسط
هذا كله، يشركنا معه في كواليس وأسرار رحلة تدوينه لكتابه هذا في سرد شائق عميق
وساخر في الآن نفسه.
في "بارتلبي
وأصحابه" يتوقف بيلا-ماتاس أمام خوان رولفو صاحب رائعة "بدرو
بارامو" الذي كان يرد على المتسائلين عن سبب توقفه عن الكتابة بـ":
"لأن العم ثيلرينو قد مات، وهو من كان يلقنني القصص"! وخوان رامون خمينث
الذي هجر الكتابة وسقط في صمت أدبي مطلق بعد موت زوجته زنوبيا، وله جملة تعد من
أهم مقولات "تاريخ الـ لا": "عملي الأهم هو ندمي على أعمالي".
وموباسان الذي هجر
الكتابة لاعتقاده أنه قد أصبح خالداً. لكن ربما يكون "ب. ترافن" هو أكثر
كُتّاب الـ لا إثارة للخيال، فلا أحد تقريباً عرف اسمه الحقيقي ولا جنسيته ولا حتى
الحصر الكامل للأسماء التي تخفي خلفها: "كاتب مراوغ لا مثيل له. لقد استخدم
ترافن الخيال كما لو كان واقعاً، أسماء متعددة ساحقة ليغطي على حقيقته".
الشخصيات المتخيلة
في رواية بيلا-ماتاس، على قلتها، لا تقل لفتاً للانتباه عن الكتاب الحقيقيين.
شخصية ماريا ليما منديس مثلاً التي يشير الراوي إلى أنه تعرف عليها في باريس حيث
وصلت إلى هناك مع بدء السبعينيات واستقرت في الحي اللاتيني بفكرة أنها عبر هذا
ستتحول إلى كاتبة على غرار الكتاب اللاتينيين الذين سكنوا قبلها الحي نفسه، إلّا
أنها "أصيبت بخرس أن تكون كاتبة".
وشخصية لويس
فيليبه بينيدا، زميل دراسة الراوي، الذي كان لا ينهي قصائده، واحتفظ بدفتر أزرق
سمّاه "أرشيف القصائد المنسية". وكتب أمام الراوي قصيدة على ورق لف
السجائر، ثم لف بها سيجارة دخنها فوراً: "لقد دخنها، أعني دخن القصيدة"!
قراءة
"بارتلبي وأصحابه" نزهة مثيرة في أروقة الأدب ودهاليزه بصحبة كاتب
موسوعي واسع الثقافة. نزهة لا يقلل من كمالها سوى حاجة الكتاب إلى مزيد من التدقيق
اللغوي وتدقيق أسماء الكتاب غير الأسبان وفقاً لقواعد نطقها في لغاتهم الأصلية.
* زاوية "كتاب"، نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.