Friday, January 20, 2017

عاشق مولع بالتفاصيل: إيروتيكية التجزيء






منصورة عز الدين




يبدأ ألبرتو مانغويل روايته "عاشق مولع بالتفاصيل" الصادرة عن دار الساقي، بوصف بواتييه؛ المدينة الفرنسية المتفردة التي "تكشف عن نفسها تدريجياً، تفصيلاً إثر آخر، دون أن تتيح للزائر إدراكها تماماً بكليتها." يرد الراوي هذا الميل للتجزيء إلى "شهوانية موزونة لكائن في الشمس يظهر نفسه قشرة إثر أخرى، طبقة إثر أخرى، كالأميرة التنين ميلوزين من مدينة لوسيغنان القريبة."

مع مواصلة القراءة سيكتشف القارئ أن بورتريه المدينة هذا يكاد يتطابق مع شخصية بطل الرواية أناتول فازانبيان المولود في العقد الأخير من القرن التاسع عشر والذي كان نتاجاً نموذجياً لبواتييه، المغرمة بالتفاصيل لا بالمشهد الكلي.

لا يكتفي مانغويل بالمماهاة بين فازانبيان ومدينته، بل يماهي أيضاً بينه وبين أحجار كنيسة نوتردام. يكتب: "لكي يفهم المرء شخصية فازانبيان (يقول تيراديو وأعتقد أنه محق)، لا بد عليه أن يفهم السمة اللافتة للكنيسة التي وُلِد فازانبيان في ظلها، لأن السمرة الظاهرية لفازانبيان، المماثلة بقدر كبير لحجارة بناء الصرح، تخفي فعلياً نيراناً بيضاء داخلها."

يبدو الأمر كأن ثمة إصراراً من الكاتب على تشييء شخصيته، ودمجها بمحيطها المكاني والمعماري وحتى النباتي بكل الطرق الممكنة. فالمعادل البيولوجي لأناتول فازانبيان وفقاً للراوي هو نبات "سابروفيت" الذي يقتات على المواد العضوية الميتة. وفي سياق غير بعيد يجعل صاحب "تاريخ القراءة" الموزاييك والبلازون (نظم موزون في مديح شخص ما أو أمر ما، وتحديداً أجزاء من جسد الأنثى.) من المنابع الأصلية لموهبة فازانبيان الفريدة.

كما يتعمد إضفاء مسحة جروتسكية واضحة على بطله،  تساهم في وضع مسافة بين القراء وبينه ليتفحصوه كما لو كان موضوعاً للفرجة. فازانبيان كما يصوره مانغويل شخص باهت كادح بعينين عليلتين حتى نهاية حياته، متبلد بمظهر معدني يقتات على ما لا حياة فيه مثل الـ"سابروفيت".
يبدو الأمر متعمداً، ومختاراً كتقنية يراها الكاتب الأمثل في تقديم بطله الذي حوّل التلصص إلى فن. ما يدفعني لترجيح احتمالية التعمد والقصدية هو الحرص على هذا المسلك على امتداد الرواية القصيرة (95 صفحة) والتأكيد عليه بطرق مختلفة.

***

إذا كان مانغويل قد عمد إلى تشييء فازانبيان منذ السطور الأولى للرواية، فإن الأخير بدوره يُشييء من يوجه عاطفته/ عدسته نحو أجسادهم الغافلة عن العين الميكانيكية المتلصصة عليها. هو لا يشتهي الأجساد نفسها بقدر ما يشتهيها وقد تحولت إلى صور صماء (فن؟) يفردها فوق سريره.

بالنسبة له "لم يكن الجنس مهماً لأن الكائن البشري بأكمله أصبح، في عينيه، كتلة من الإغواءات الجنسية اللانهائية، وموزاييكاً من الرغبة، وخلية نحل من الاحتمالات الإيروتيكية التي تتحول وتتجمع بتقلب موشوري لوني."

 الرواية، التي ترجمها المترجم السوري يزن الحاج، والمتمحورة حول سيرة هذا الفنان الغريب تنزع إلى التقريرية في معظم أجزائها. ثمة ميل للإيحاء بأن دور الروائي هنا ينحصر في رصد كيف وصل بطله إلى مصيره التراجيدي النهائي، وفي تبيين منابع ولعه بالتفاصيل وموهبته غير المألوفة كمصور فوتوغرافي. قد يتساءل القارئ إن كان أناتول فازانبيان هذا شخصية حقيقية أم لا، وفي هذه الحالة أين تنتهي الحقيقة وأين يبدأ التخييل؟ غير أننا في النهاية  أمام رواية، وعلينا التعامل مع بطلها كشخصية فنية بغض النظر عن إن كان له وجود واقعي خارج صفحات العمل أم لا.

الأجزاء المروية على لسان فازانبيان باعتبارها شذرات من يومياته، هي ما قلل من جفاف النزعة التقريرية للرواية، ومنح فازانبيان صوتاً يعبر من خلاله عن آرائه ورغباته وتفضيلاته. في موضع ما يكتب مثلاً: "لا أرغب في رؤية المزيد. الاكتمال لا يترك فسحة للرغبة."
وفي موضع آخر: "الفارق بين التصوير الفوتوغرافي والنظر هو أن فعل الأول يدوم إلى الأبد، فيما يحدث فعل الآخر في شذرة زمنية لا تشبع حواسي الشرهة على الإطلاق."

***

يذكِّر فازانبيان ببجماليون لكنه يكاد يكون معكوس النحات الذي وقع في غرام تمثال من صنع يديه وابتهل كي تدب فيه الحياة. حوّل بجماليون بشكل ما الفن إلى كائن حي، أما بطل مانغويل فكان يحول الأجساد الحية (أجزاء منها لو شئنا الدقة) إلى فن. وكان يشتهي النسخة الفنية من الأجزاء التي تختلس كاميرته صورها من أجساد المستحمين في الحمام العمومي حيث كان يعمل أكثر من اشتهائه للأصل.

فشهوته - كما سبق وذكرت - لم تكن موجهة لهذه الأعضاء والأجزاء المتقطعة والعاجزة عن تكوين جسد كلي، بقدر ما كانت منصبة على صورها، أي على ما صنعت يداه من فن. يمكننا تأويل هذا بأنه غرام بالذات (بموهبتها؟)، لكن بطريقة ملتوية ومركبة، ووفق هذا التأويل يمكننا النظر إلى فازانبيان على أنه نرجس معاصر.
لكن الأهم أن رواية مانغويل القصيرة هي، في وجه من وجوهها، أمثولة للعلاقة الشائكة بين الفنان (فازانبيان في حالتنا هذه) وعمله الفني، لذا كان من الطبيعي أن ترتبط نهاية البطل بإخفاقه في مغامرته الأخيرة كفنان.


تبقى الإشارة إلى أن شخصية فازانبيان بالغة الثراء، وحافلة باحتمالات ومساحات وإمكانات فنية لم يستغلها ألبرتو مانغويل كما ينبغي.

زاوية "كتاب"، نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.

No comments:

Post a Comment