محمد سليم شوشة
في سرد المجموعة القصصية "مأوى الغياب"
للكاتبة المصرية منصورة عز الدين عدد من السمات الفنية المحددة لخصوصية هذا السرد،
ويمكن أن تكون في تقديرنا مدخلا للتسلل إلى هذه الغابة القصصية، التي لها مساربها
وممراتها وطرقها الخاصة والمختلفة، التي قد تبدو غريبة وغير مألوفة بالنسبة لما هو
سائد من إنتاج قصصي راهن. المجموعة القصصية كلها ترتبط بحالة واحدة من التجريب
تجعل القصص متقاربة إلى حد بعيد، وإن تنوعت الأحوال التي تقاربها واختلفت من قصة
إلى أخرى.
لدينا إجمالا ما يمكن وصفه بأنه حال عامة من الهروب من
الواقع والانفلات من محدداته الصارمة، المرتبطة بالمكان والزمان والحدث أو الحوار
والعلاقة بالآخر. لدينا دائما ذات تنفلت بدرجة كبيرة نحو المطلق والعام، ويكاد
يكون انفلاتها كاملا من الواقعية بمعناها الشكلي، أي أن القصص تدور في عوالم
مغايرة من كافة جوانبها لما هو دارج في السرد، فالمكان والزمان والحدث والحوار وغيرها
من عناصر القصّ تتجاوز كلها اكتساب العلامات والإشارات المحددة، لواقع معهود أو
متفق عليه خارج السرد أو ما يمكن تسميته بالمدرك خارج السرد أو الداخل ضمن المساحة
المشتركة من الإدراك بين المبدع والقارئ. فإذا قلنا إن الغالب على كثير من السرد
القصصي والروائي أنه يلجأ إلى الاستناد أو الاتصال بالمدرك خارج السرد/الخطاب
القصصي، وهو العالم المعهود بأنه دولة معينة مثلا أو مدينة معينة وشوارع معينة،
ولو بأسماء غير معروفة وهكذا، فإن السرد في "مأوى الغياب" يختلف عن هذا
تماما، فنجد أن النص القصصي أو خطاب المجموعة كلها يصنع واقعه المغاير والمتجاوز
تماما لهذا المتفق عليه مسبقا مع القارئ، قبل القراءة والولوج للسرد لتصبح هذه
العوالم مطلقة وأكثر تحررا من المحددات الجغرافية أو الثقافية لغاية التركيز على
الذات الإنسانية المأزومة، أو فريسة الحيرة وصريعة الأسئلة حيال هذا الوجود بشكل
عام. فيمكن القول بأن هذا السلوك الفني أو هذا النمط من تجاوز الواقع في "مأوى
الغياب" حقق عددا من الأهداف والقيم الجمالية والدلالية، أبرزها ما ذكرت من
الرغبة في التركيز على ذات إنسانية عامة ومطلقة مشتتة، وفي حال من الحيرة من طبيعة
هذا الوجود، وتمتلك قدرا كبيرا من الأسئلة وبواعث الدهشة حيال هذا العالم المخاتل
أو المراوغ. النقطة الثانية أن هذا الانفلات من محددات الواقع بشكله المعهود
والمتفق عليه مع القارئ منح السارد القدرة على أن يحلق بعيدا مع معانٍ كلية وأسئلة
وجودية، وقضايا فلسفية كثيرة بقدر كبير من التحرر والأريحية، وكذلك تمكن السرد من
مقاربة حال وما وراء الظاهر والغوص مع تعاريج ومنحنيات الشعور وطبقاته الخفية وصلة
الإنسان الشعورية تحديدا بعناصر الوجود الأخرى ومحاولة اقتناص لغة الداخل أو اللغة
غير المنطوقة وأسئلة الذات لنفسها أو بالأحرى المحاورات الممتدة للذات مع نفسها
ومع بقية عناصر الوجود. الناتج الثالث لهذا الانفلات من محددات الواقع الذي حققته
المجموعة هو، ارتهانها بقدر كبير من الغرائبية الجديدة أو الواقعية السحرية
الجديدة أو غير النمطية، ولهذا فإن النموذج الإنساني الذي يصادفه المتلقي في هذه
القصص هو نموذج غرائبي، فهو قد يكون إنسانا عاديا وعصريا وليس فيه شيء لافت في بعض
المواضع أو الأحداث من القصة ثم نجده بعدها يملك من المرونة ما يمكنه من أن يكون
مثل السندباد أو البحارة في العصور الوسطى أو يمتزج بشخصيات تاريخية معروفة أو غير
معروفة أو نجده يقترب فجأة من نموذج أسطوري يصارع عالما مخاتلا ويحاول القبض عليه
بإدراكه ووعيه أو يصارع للانفلات التام منه والهرب بشكل حتمي، لكن عملية الهرب
تبقى معلقة وغير محسومة أو فاشلة. على نحو ما نلمس في هذا الاقتباس: "بدا
العالم من حولي ثقيل الوطأة بسمائه وغيومه وجباله الماثلة من بعيد على جزر لا أعلم
إن كنت سأبلغها أم لا. كل شيء كان يجثم على وجودي الذائب ويضغط عليه. تراءى لي
الهواء ثقيلا والماء معتما، وكنت أنا خالص الشفافية. الكون كله يخترقني، ينفذ من
خلالي ويطوحني يمينا ويسارا. يبعثرني ويتلاعب بي".
كل عناصر الوجود
في عوالم قصص المجموعة جديدة تماما، لا الجبال هي الجبال أو السماء أو البحار أو
البشر، كله وجود مخاتل ومراوغ. المكان والزمان واللغة، كلها أشياء متشكلة بالوهم
ونابعة من إحساس هذه الذات ومرتهنة بهذه الأحوال الكثيرة والمتغيرة التي تقاربها
القصص، ولهذا هي دائما في حال من التبدل والتغير، وكلها أشياء تجعل القارئ غير
قادر على توقع ما ستطرحه عليه القصص، فيكون دائما جاهزا للمفاجآت وفي أعلى مراتب
التحفز والتشويق. وفي المجموعة كذلك تمتد حال من مناوشة الماورائيات والغيبيات متمثلة
في تصورات عن الإله أو القوة الأعلى أو ربة الطلاسم التي تتكرر في عدد من القصص،
وهي نموذج للقيمة العليا التي يمتزج فيها السر بالغرابة باللغة المراوغة والمراوحة
بين الفهم وغيابه التام. فنكون أمام واقع تم تشكيله على نحو أسطوري جديد، والأسطورة
في النهاية هي شكل من التفسير للوجود، أو محاولة تقديم تصور قريب ومتأت للعقل
والمنطق الإنساني. والذات الإنسانية التي تسكن هذه القصص أو تعيش عوالمها هي ذات
مسكونة دائما بالدهشة والحيرة، وبحثها عن الفهم ومحاولة التفسير لا ينقطع، وهو
الأمر الذي يمنح هذه القصص قدرا كبيرا من الحركية والقلق، ويجعلها أبعد ما تكون عن
الطمأنينة والسكون.
في عدد من قصص المجموعة تبقى الذاكرة رغم نسبيتها أحد
أهم محددات الهوية ومعرفة الذات، ولا تتلبس بها الحال ذاتها من المراوغة الكاملة
والمخاتلة الدائمة، فهي لها أهميتها وقيمتها وتفرض نفسها دائما، رغم تفاوت الإحساس
بها على نحو ما يكون من تفاوت مع بقية مفردات هذا الوجود. وإن كانت الذات الساردة
في بعض الأحيان تبدو في حال من الصراع مع الذاكرة التي تشبه وحشا مراوغا يمنح أو
يمنع وقت يشاء، وهذه الذات لا تجد سبيلا لمقاربة نفسها أو بقية عناصر الوجود غير
التفتيش في الذاكرة، وتلمس العلاقات والروابط بين ما تراه هذه الذات وما تسترجعه
الذاكرة. والجميل أن الذاكرة تأخذ أسماء مختلفة تنوع من أشكال حضورها في قصص أخرى،
ففي قصة "بحيرة الزئبق" نجد ما اسمها الشاشة الذهنية لنكون هنا، إما
ناتجين مختلفين عن أشكال الحضور الأخرى، فالذاكرة هنا في حال من التوهج والصحو
المغايرة عن كونها مجرد ثقب أسود، تسميه الذات ذاكرة، أو كونها كائنا مراوغا، ولكن
الشاشة كذلك تحمل في دلالة عصرية لتكون لغة السرد هنا تتراوح بين القديم والجديد،
أو العصري وتمزج بينهما، وتبقى هذه الشاشة كذلك غير متوهجة، أو في حال صحو دائم
وكرم كبير في منح الذكريات والاسترجاعات، لأنها دائما قابلة للانطفاء أو التعطل عن
العمل.
وأتصور أن مقاربة سيميائية تقوم على رصد علامات دالة
بعينها وترتيبها ومحاولة قراءتها في المجموعة كلها، وعبر كل القصص أو في مجمل
الخطاب السردي، سوف تكشف كثيرا من الأنساق الفاعلة في إنتاج القيمة الجمالية
والدلالية في هذا السرد، مثلما نجد مع دلالة الذاكرة. وعلى سبيل التمثيل كذلك نجد
أن كلمة الجبل بالتحديد حاضرة بقوة، وهي تتراوح بين القدرة على الإخفاء أو الشموخ
وأحيانا تكون على النقيض من المعنى الأول، حين يحمل الجبل شيئا عليه مثل القلعة في
قصة "قلعة الشمس"، فكلمة الجبل عبر توظيفات قصص مجموعة "مأوى
الغياب" لها تكشف عن طاقات دلالية واسعة، تصل إلى حد التناقض أحيانا، بما
للجبل من قدرة على إخفاء أشياء وراءه، وحجب الرؤية التي دائما ما يبحث السرد أو
يركض وراءها، بينما في حالات أخرى يحمل الجبل الأشياء، فيؤدي دور الإبراز
والتوضيح، ويكون دليلا على الشموخ والثبات أو يكون معادلا للحقيقة في نصوعها
ووضوحها. الأمر ذاته يتضح في توظيفات كلمات مثل الواحة أو البحر والنهر والأشجار
بأنواعها، وكذلك تجليات اللون في هذه المجموعة تكشف عن ثراء كبير وحضور بارز. وقصص
المجموعة في الحقيقة لا تقارب الإنسان وحسب على نحو ما هو معهود مع أغلب الكتابات
السردية، ولكن بعضها يقارب أحوال عناصر أخرى مثل النهر في قصة "عيون مغلقة
على حلم قديم" أو مقاربة الشجرة بوصفها ذاتا مركزية، كما في قصة "شجرة تشبه
لؤلؤة"، وهو ما يجعل القصص تطرح حالا من التماهي والتداخل بين الإنسان وكافة
عناصر الوجود الأخرى، وهذا النسق البنائي/السردي من التداخل بينها يجعل عوالم قصص
المجموعة مفتوحة على حال من الغرائبية والطرافة وتجعل القصص تبني عوالمها الخاصة
التي تنفلت بشكل كامل من نمطية الواقع وتركيبته المعهودة، وهو الأمر الذي يؤثر على
زاوية الرؤية لهذا الوجود، ويجعل القصص تغوص مع أحوال شعورية جديدة تماما، على نحو
إحساس الشجرة مثلا بالمتحركين حولها أو من جانبها من البشر، أو إحساس الشجرة
بالأفق ورؤيتها للبحيرة التي خلفها أو أمامها وغيرها من الأشياء المحيطة بها، أو
إحساسها بمن يتسلقونها، ليكون القارئ أمام أحوال شعورية مغايرة، ولها وجاهتها أو
منطقها الذي يفترض وجودها ويفترض لها القدر الكبير من العناية والأهمية. ولنكون في
مواضع كثيرة عبر هذه الغرائبية أمام عوالم تقترب كثيرا من سحرية العوالم، التي
أنتجتها غرابة أدب العصور الوسطى، وفق نمط جديد في الإنتاج، فنحس كما لو كنا أمام
عوالم وموجودات "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري أو عوالم "ألف
ليلة وليلة" وغرائبيتها أو عوالم "الكوميديا الإلهية" لدانتي، فنجد
بحيرة تصطاد أو تتربص بكل ما يقترب منها وتقتنصه، ما عدا الطيور فهي تبقى مجمدة في
وضع الطيران فوق البحيرة، ليكون هذا الوجود الذي تطرحه عوالم القصص أكثر رحابة من
الذات الإنسانية، وينفتح على اصطخاب وتصادم شعوري عام تتداخل فيه كافة هذه الذوات
التي تبدو، كما لو أنها كانت مجهولة أو مُهْمَلَة خارج سرد مجموعة "مأوى
الغياب". فنجد الواحة في لحظة من قصة "بحيرة الزئبق" هي المعادل
للذات أو أن ثمة تماهيا للذات مع الواحة في لحظة اختفائها أو خوائها، مثلما هو
حاصل في هذا الاقتباس: "شعرت بانزعاج شديد كأنما الواحة التي لم أبصرها إلا
لدقائق ماضيي وهويتي الشخصية، ومن ثم تركني اختفاؤها ضائعا ومشردا ويتيما".
في المجموعة، الصادرة عن داري سرد وممدوح عدوان للنشر
والتوزيع، ثمة كذلك نوع من انفتاح القصص على بعضها لتنتج الدلالات والعوالم
القصصية، وفق نسق تعاوني أو تأكيدي، فعلى سبيل المثال تطرح إحدى القصص "ربة
الطلاسم" التي يبدو حضورها مركزيا في هذه القصة بينما تتكرر في قصص أخرى
ليكون هذا التكرار شكلا من القدرة على ترسيخ وجود هذا الكائن المفترض، أو المتخيل
أو ناتج الخيال، فيكون هناك شكل من الامتداد للشيء أو للذات المعينة داخل أكثر من
قصة، وهو أمر يكسر من حدة غرابة هذه الذات المنتجة عبر الخيال، ويصنع لها هذا
الامتداد في الحضور درجة من الألفة والاقتراب التدريجي منها. والأمر نفسه نجده مع
تلك البحيرة الغرائبية التي تشل حركة الطيور فوقها، فتتكرر في أكثر من قصة، وهي
بحيرة زئبق أو بحيرة مسحورة وغير محددة على نحو أكيد، بل يبقى وصفها على درجة من
الانفتاح على المطلق، سواء في ما يخص مكانها أو مرجعيتها، فهي قد لا تزيد عن كونها
ناتج الذاكرة المراوغة التي لا تمنح وصفا حاسما لاسترجاعاتها ونواتجها أو
لذكرياتها وتصوراتها للأشياء والمواقف المتشابهة، أو التي يستدعي بعضها بعضها وفق
نسق التناظر.
من المهم في ظني
تأكيد أن هذه العوالم الغرائبية التي تنتجها قصص المجموعة تأتي في إطار سرد مشهدي
مكتمل وواضح للمخيلة، رغم سرعة تحولات الذات من تبديات وتصورات مختلفة، فكأننا
أمام ذات أقرب للشبح أو الساحر القادر على تجاوز هيئته إلى هيئات أخرى، وهذه
التحولات في الحقيقة تأتي في إطار روح شعرية محفوفة بالمغامرة، وبقدر من التحرر
الرومانسي أحيانا حيث تكون حركة هذه الذات من متجول مغامر ومسحور بالوجود إلى راعي
ماعز في مناطق جبلية، أو من رسام فنان ونحات إلى أسير مسجون أو فريسة حبيسة أي
ظاهرة أو خطر مفاجئ، فكل هذا يأتي في إطار مشهدية مشوقة وسحرية تكسر أفق توقع
القارئ على الدوام، وتجعله يتحرك حركات موازية لهذه الذات الجوالة والمفعمة
بالحركة. وكل هذا يؤكد على قيمة دلالية تكاد تكون هي الأبرز بين ما ينتج سرد
المجموعة من معان، وهو هيمنة الديناميكية على هذا الوجود وغياب الثبات، على أن
الطريف وفق ما يطرح السرد من سؤال ضمني عن قيمة هذه الحركية الدائمة، وهل هي ضد
المعرفة وضد الوقوف على حقيقة الأشياء وجوهرها أو هويتها؟ أم أن الحركة هي أصل
الوجود وهي أكثر ما يبرز حقيقة الأشياء ويجعلها جلية؟ فسؤال الدهشة من هذه التبدلات
حاضر بشكل ضمني في كافة القصص، وهو ما يعد إنجازا جماليا لهذه القصص التي استطاعت
أن تهمس بأسئلتها، بدون صخب أو مباشرة، حيث كفل هذا الهمس وغياب التصريح مساحة
واسعة للمتلقي ليكون شريكا في إنتاج المعنى والتفاعل مع القصص في كل مستويات
بنائها، سواء الجمالي وملامح هذه العوالم والتفاعل معها ومع نقلاتها المفاجئة أو
مع القيم الدلالية والشواغل والأسئلة المباشرة والضمنية بشكل خاص. وإجمالا يمكن
القول بأن سرد مجموعة "مأوى الغياب" يجسد مغامرة مختلفة لذات تركض وراء
هويتها المراوغة أو الغريبة، أو التي تستعصي على الفهم وتبحث باستمرار محددات
واضحة وثابتة لهذه الذات، وهو ما لا يتحقق أبدا رغم تجسد هذه الذات في موجودات
صلبة وأكيدة الحضور في أحيان كثيرة، ومن هنا فإن هذه المغامرة ورحلة البحث عن
المعرفة لا تنتهي.
نقلاً عن جريدة القدس العربي.
14/6/2018