"كان
جسدي، حروفي وحركاتي، لغتي وأنفاسي، متوناً متروكة للعابرين"
أميمة صبحي
لنصوص المجموعة القصصية الثرية
"مأوى الغياب" تعدد يضعك أمام تفسيرات مختلفة وقراءات متشعبة. اقتبست
منصورة عز الدين في بداية المجموعة اقتباساً قصيراً من جاك دريدا، لكنه يلقي
بضفافه على كل نصوص المجموعة، يقول: "ذلك أن إله الكتابة هو أيضا، وبتلقائية،
إله الموت".
هكذا تلعب الكاتبة مع الكلمات لعبة سردية ممتعة، تكتب ثم تنفض ما كتبته وتحيله إلى موت مؤقت، لتعيد إحياءه مرة أخرى في نص تالٍ. اللعبة هنا ليست ثنائية، بل ثلاثية الأبعاد. يتبدل اللغز الذي حاكته اللغة ما بين الجبل والغابة والبحر أو ما بين العناصر الأرض والماء والهواء في عالم تحكمه ربة الطلاسم وتؤطره الطبيعة. يبدأ العالم كتاريخنا. سديم يستحيل إلى ضباب يتكاثف على مهل وكائن ينفصل عنه شيء ما كأن نواة دقيقة هي جوهره قد هجرته. كبدايتنا عندما نتلمس طريقنا للتعارف على عالمنا الجديد ومحاولة نسج حروف لنكون كلمات تصلنا بالآخر.
لتحوت، إله الحكمة ومخترع الكتابة في الميثولوجيا الفرعونية، إهداء خاص وتمدد داخل قصص المجموعة الصادرة مؤخراً عن دارَي "سرد" و"ممدوح عدوان للنشر والتوزيع". تحوت الذي خلق نفسه بقوة اللغة، ترك أرق الكتابة والحكي خلفه. يقدم نفسه هنا كمنقذ من التماهي مع السراب والنسيان. على الرغم من مقاومة ربّة الطلاسم وإقامتها صرحاً بطريقة مخالفة له: "فاللغة قناع، والكلمات فخاخ، والمسميات خديعة"، لكننا نعود للعبة التفكيك مرة أخرى وإحالة كل هذا للموت وعملية الميلاد من جديد. إلا انك ستتمكن من الرؤية شرط أن تكون غريبا "سيجود الحجر بأسراره على الأكثر غفلة عن كل مميزاته، على من سيبقى غريباً أينما حل، فوحده الغريب يقدر على الرؤية".
تقرأ "مأوى الغياب" بروح لاهثة، لكنك لن تصل إلى اليقين على طول الكلمات، وكأن الكتابة هي الخطيئة الأولى، وما تلاها هو محاولة تصحيح وطلب الغفران. فالزمن سائل لا يمكنك القبض عليه "لم أدرك ما الزمن، كما لم أعرف من أين واتتني هذه المفردة". نسير ونسير مع الشكوك ولا نصل لأصل الأشياء. شخصيات بلا أسماء، تبحث عن كينونتها وأصلها في أعمق ما قد تصل إليه، فتحيل هواجسها إلى العناصر الأولية التي كونتنا وشكلت ماهيتنا. تبدو لي كقصة الإنسان منذ بدء الخليقة وتصوير عذاباته وانتقالاته بين حالات متعددة ومتشعبة قد تختلط بروحه ذاتها. فيبدو العالم وكأنه اختراع طازج اخترع للتو داخل عقل كاتب يجتهد ليجد الكلمات المناسبة. سماء تظهر وتختفي وصخرة معلقة في الهواء يتسرب منها شلالات تخيف بحارة عابرين على حافة العالم، تتجسد لهم أينما اتجهوا وحين يئسوا قرروا الاتجاه نحوها متوقعين أنهم هالكون، لكنهم فوجئوا بأنها وهم وعبروا من خلاله كما يعبرون بهواء. تقول منصورة "كلما صعدت للأعلى غامت رؤيتي للعالم. خيل إلى أن الأبعاد والظواهر الجغرافية يعاد تشكيلها. فالبحر في الأسفل ليس هو البحر، والغابة ليست بغابة، والسماء تختلف عن كل تخيل ممكن لها". كلما اقتربت، ابتعدت، في مطاردة لسراب لن تصل إليه أبدا.
يتملكنا هاجس المراقبة على طول المجموعة. فالشخصيات مراقبة كما إنهم يتلصصون على بعضهم البعض وعلى أنفسهم "أشعر أن هناك من يراقبني، من يقترب مني" أو "أكثر ما يضايقني إحساسي أنها تراقبني وتعد عليّ أنفاسي". كما أنهم يراقبون محيطهم فيجدون جلبة غير مرئية لا يمكن تحديد كنهها ولا مركز انبعاثها. تتلاشى الطرق والمدن من خلفهم على الرغم من اتخاذهم لها سبلا للوصول لبقعة معينة. فتتقلص العوالم في زئبقية غامضة.
تنفتح مغاليق السرد قرب النهاية كاشفة عن قطع اللغز الذي جمعت الكاتبة أجزاءه على طول المجموعة. في قصة "لا فريسة ولا صياد" تقول الشخصية "كانت كل قطع اللغز مفرودة أمامي وفي متناول يدي ومع هذا فاتتني الخلاصة البديهية الكفيلة بأن تقودني إلى سري الغائب عني". حيرتها وراء كينونتها خيلت لها أن البنايات طافية في الهواء لا راسخة فوق الأرض، فاعتقدت أنها أوهام بصرية. تبحث عن صورتها الحقيقية في انعكاسات الجداول والأنهار، لكنها تجد وجهها يرمقها من الأسفل فتفكر في إلقاء حجر ليختفي وجهها خلف دوامات المياه المتحركة وتتأكد إنها الأصل وليس انعكاسا.
تتلاعب ربة الطلاسم بذاكرتها كأنها تلهو ككل الآلهة العاطلين عن العمل فترى نفسها امرأة فوق جبل أو رجلاً تائهاً داخل غابة أو مبحراً في سفينة. حتى تفيق من نوم عميق أو موت مؤقت، يُعاد ميلادها من جديد في ظل تجويف حجري وهاجسها الأوحد هو الهبوط إلى سفح الجبل. إنها النهر حيث بدأت الحياة وحيث ستنتهي.
وتواصل الكاتبة لعبتها الجادة المحرضة على القراءة في "من خشب وهلاوس"، تقول الشخصية "كنت أقطع الأشجار حين داهمني ذلك الشعور لأول مرة... شعرت أنني مخلوق من الخشب". هكذا يمارس رجل فعلاً اعتيادياً ربما مارسه بشكل يومي منذ الأزل لكنه نفذ لعمق روحه واستطاع الولوج للرائحة الطازجة الفاتنة، فشعر أخيرا أنه في موطنه. على عكس العنصر المائي، هنا الذاكرة حاضرة رغم قدمها. شجرة عجوز ترمز إلى الأرض ذاتها، الأم التي تطعم وتهتم بالبشر، فيقدم الطعام والشراب لرفيقيه قبل اختفائهما. كما يتذكر كل شيء، القصف، القنابل، والانفجارات المتتالية والزلازل. مسكون بأنقاض وصرخات فزع وجثث ملقاة في الشوارع.
يتحد مع تحوت ويغرق نفسه فيه. ويستعيض عن فقدان صوته بالتدوين فيخط آلاف الكلمات في اليوم بلغة اخترعها بنفسه ويسجل على جسده التاريخ. واقفا يتأمل أفقاً لا يبوح بشيء وسماء غائمة على الدوام "لم يعد الدوار يضايقني، تأقلمت معه". يقول "ما أكتبه يخيفني لأنه يثبت كل ما رأيت من أهوال، يحييه ويكرره بلا نهاية... أتذكر الشوارع الخاوية والبيوت المهدمة وآثار الحريق على المباني العامة. في الأيام الأولى كان المشهد صاعقاً ثم بدأت اعتاد عليه بحيث تكاد الحياة السابقة عليه تخبو من ذاكرتي وكلما أنطفأت، ازدهر الخراب بداخلي". لكن حتى تلك الشجرة العجوز الصلبة لا تصل أبدا لليقين وتتشكك فيما تراه، تتساءل أهو الصواب؟ وكيف تعرف أن رؤيتها للواقع هي الأقرب للحقيقة والجوهر؟
وفي "طلسم أخير" تستمر ربة الطلاسم في خداعنا. تتلون وتغير ماهيتها فتقول إنها اختارت الحجر لكنها أقرب إلى اللامرئية، تضيف "كان جسدي حروفي وحركاتي لغتي وأنفاسي متونا متروكة للعابرين... كنت فكرة خطرت للحجر وتسربت منه إلى العالم المحيط به". تنفتح على براح الكون ولا تكف رأسها عن الدوار عندما تشعر بالقيد. فراغ لكنها ليست فارغة إنما مليئة بالحياة. تخاف من قصف ما، وتجري في الدهاليز مختبئة وتخاف من فئران تشاركها وتنقل المخطوطات والوثائق المهمة إلى القبو.
تقول إنها تحب السيرك والسحرة وقد تحولت هي نفسها إلى ساحرة ربما اخفت كتاب "ألواح الزمرد" المنسوب لتحوت داخل متونها. كانت تنبهر بألاعيب السحرة وما أن تبدأ فقرة الساحر تتماهى معها بكيانها كله، ويسلب لبها سحر إخفاء الخداع كما صارت تجيده تماما. وتحيل كل هذا الدمار للساحر الذي استطاع قراءة عقلها وعرف إنها كتبت "ربة الطلاسم" في ورقة اخفتها عنه. "خيل إلي أنني لو نجحت في تضليل الساحر لما تمكن أحد اقرانه من إخفاء عالمي القديم... منذ ليلة الغارات رفضت سكنى البيوت، وتواءمت مع العراء". "ارتحلت مع الريح على طريق مهجور... لبرهة شعرت بالتحرر من أسر الحجر. عدت أثيرية من جديد".
إنها صاحبة الألف وجه، ربما تكون الشخصية الوحيدة التي تعرف منذ البداية كينونتها وتتلاعب بها وتتلون وتقدم السراب للعالم بخبث لتستمتع بالهواجس والشكوك التي تدور حوله. إنها الربة المعاقَبة المنفية التي لا تعبأ بشيء ولا تكترث للذاكرة. رفضت التدوين والكتابة ولم تنحن لتحوت. ربما ذهب عقلها خلال انتظارها بين الصخور وركودها في الطرقات الترابية بين بساتين الفاكهة، تقول إنها والنار شيء واحد وتغرق في الهلاوس والأسى. فقدت إحساسها بالاتجاهات وتعطلت بوصلتها الداخلية، لكنها لا تكف عن هدم بنائها وإعادة البناء في صيرورة دائمة وتعدد لا نهائي "بحيث أبدو كمهلوسة تنقض ما سبق وغزلته، كملتاثة سحبت العالم معها إلى مستنقعات الجنون".
الثلاثة تائهون بطرق مختلفة، تسيطر عليهم الهلاوس ولا يقتربون إلا ليبتعدوا من جديد. وكأن الغرق في الفوضى هو الطريق الأمثل للتعرف على ذواتنا والاستمرار في المزيد منها؛ "كنا في حاجة إلى التيه كي نعرف، والآن وقد فعلنا، لن يفيد الانتقال من مكان لآخر، فكل الأماكن سواء".
نقلاً عن جريدة "المدن" الإلكترونية.
7 /4/2018
No comments:
Post a Comment