أحمد منير
إن كان ولابد أن تتحفظ وتحاول جاهدا أن
تخفي إعجابك الكبير بعمل ما، حتى تستقر وتهدأ من كثرة ما أثار بداخلك من دهشة وزخم
جمالي وفني، فسيكون هنا في هذا العمل الذي يفاجئك بالدهشة من أوله حتى آخره. أكثر ما تقدمه الروائية البديعة منصورة عز الدين من فرادة وتميز في
هذا العمل ثلاثة أمور حسبما أرى، أولها هو ليس فقط اختيار العمل الأبهى والأجمل
والأكثر زهوا في تاريخ الحكي كي تشتبك معه، وأقصد طبعا "ألف ليلة وليلة"
إنما هي حسبما أرى تتجاوز ذلك الاشتباك لصناعة جمال وزهو سردي مقابل لليالي نفسها،
هي تنطلق من أرضية الليالي لا لتتماهى معها أو تغرق فيها، إنما كي تصنع جمالية
حكايتها الفريدة مثلما فعل نجيب محفوظ في رائعته "ليالي ألف ليلة"، فكما
خدعنا محفوظ وقدم لنا روايته على أنها ليلة من الألف، بينما انطلق يغرد ويعزف
ليقدم حكايته الخاصة والفردية والتي لا تقل جمالا عن ليالي الألف، هكذا توهمنا
منصورة أيضا أن حكايتها هي الحكاية الناقصة من كتاب الليالي، لنُفاجَأ بها تصنع
حكايتها المتفردة من نفس عجينة حكايات الليالي بعد تفكيكها وإعادة خلقها لا بعثها،
وهذا يدفعنا نحو الميزة الجمالية التالية وهي أن منصورة لم تصنع حكاية تطاول
حكايات الليالي فقط وإنما صنعتها عبر لغة وأسلوبية تخص حكايتها وروايتها، لغة سلسة
منسابة من السطر الأول للرواية حتى آخرها، لغة لا تشبه لغة الليالي ولكنها تخلق
نفس السحر وتزخمك بنفس الزخم الخيالي، ثم إنها على مستوى السرد وإن اعتمدت على
ميزات فنية وجمالية في أسلوب السرد المتناسل أو الحكاية التي تتوالد من الحكاية،
لكنها صنعت خطيّ سرد متوازيين يتقاطعان ويتشابكان في النهاية لينتجا الحكاية
النهائية التي تصنع هذه الحكاية الناقصة المزعومة، فتظل منصورة منذ سطر الرواية
الأول تغزل الخيط تلو الخيط كي تجمع كل خيوط الحكاية متقاطعة في النهاية عبر زمنيْ
السرد لتطلق تعويذتها الخاصة لتعيد بعث الحكاية المفقودة إلى كتب الليالي من جديد. الميزة الثالثة للرواية حسبما أتصور هو هذا الزخم الذي تقدمه على
مستوى الأسئلة ومستويات القراءة، فالرواية يمكن قراءتها على أكثر من مستوى، لمن
يريد فقط أن يستمتع بالحكاية التي تمزج ببراعة ما بين الواقعي والخيالي، وما بين
الماضي والحاضر، وما بين اليقظة والحلم، وما بين السلف والخلف، كل ذلك في ضفيرة
جميلة متواصلة، فقضية التواصل هي قضية محورية تقدمها الرواية كسبب رئيسي في اللعنة
التي تلحق بالأميرة زمردة محط اللعنة وصاحبة الرواية المفقودة، حيث كان حلم وصل
جبل قاف الأسطوري بالعالم والذي سعت له زمردة فكان سبب لعنتها، كما أن الرواية
تطرح مستويات أخرى للقراءة وأسئلة وإشارات حول عدة قضايا مثل الوراثة واللعنات
المتوارثة، وتحريف الحكايات وتناقلها، ومحورية الأنثى في خلق العوالم الخيالية
والواقعية، والحدود الفاصلة ما بين الخيالي والواقعي، والأزمنة بماضيها وحاضرها
ومستقبلها، وفكرة تناسخ الأرواح والعوالم المتوازية، والمزيد من الأسئلة التي
تتناسل وتتوالد كما تتناسل وتتوالد الحكايات أيضا في الليالي وفي الرواية. الحكاية في الرواية هي اللعنة والتعويذة، وهي الداء والدواء، والأسئلة
في الرواية كذلك، هي البداية والنهاية أيضا، فهي دائما بلا إجابات قاطعة ولا أقواس
مغلقة، مثل جميع شخصيات الرواية البشرية والحية، والغارقة في لعناتها وشكوكها
وأسئلتها وحيرتها المتواصلة، منذ الأجداد وحتى الأحفاد، ومنذ التاريخ وحتى الحاضر
والمستقبل، لعنات وأسئلة حول ما كان يمكن أن يكون وما قد كان، وحول ما كان يجب وما
وقع، وحول المأمول والحاصل، وحول وحول، في امتداد وتناسل للأسئلة المتشككة الضائعة
في اللا يقين، فالرواية تتركك مع كل شخصياتها في حيرة ودهشة وكأنها بدأت بعد ما
انتهت، كل ذلك عبر رحلات تبدأ ولا تنتهي، فالشخصيات كلها في رحلة، التاريخي منها
والآني، فما بين رحلات بلوقيا والباحث عن الليل والراعي وزمردة ومروج ورحلات أهل
جبل قاف وأحفادهم بين الجبال، ورحلات بستان البحر وهدير ونادية وكمال، ورحلات حتى
الشخصيات التي لم تنتقل مكانيا لكنها ارتحلت ولا تزال من ماضيها إلى حاضرها داخليا
مثل شيرويت الجدة، وكأن الرحلة هي أيضا لعنة مصاحبة ومكتوبة ومستمرة، وكأنّ ذلك
إسقاطا ودفعا لرحلتك الواجبة أنت نفسك مع ذاتك ومع الرواية التي بدأت ويبدو أنها
لن تنتهي.
جبل الزمرد تستحق حصولها على جائزة أفضل
رواية عربية في معرض الشارقة الدولي للكتاب 2014، وهي رواية فارقة ومدهشة وتستحق القراءة والاحتفاء.
No comments:
Post a Comment