محمود عبد الشكور
تقدم منصورة عز الدين في روايتها الجديدة
"بساتين البصرة"، الصادرة عن دار الشروق، ما يمكن اعتباره أحد أفضل
النصوص السردية في 2020، وأكثرها براعة في الشكل والمضمون، وإحدى أفضل رواياتها
عموما، نضجا واكتمالا.
نص مؤلف من طبقات متراكبة يعيد تشكيل
الزمن، ويمزج بين الواقع والخيال والحلم، ويصنع من الماضي والحاضر نهرا واحدا،
يضطرب بأسئلة مؤرقة، يفتح كل الصناديق المغلقة، ويبحث مع بطله المأزوم عن الهوية،
التماسا للمعنى، والتماسا للطريق.
تقاس قيمة الروايات بمدى نجاحها الفني،
وبقدرتها على تقديم بناء متماسك، رغم أن مادتها متعددة المصادر، ومن هذه الزاوية
فإن "بساتين البصرة"، التي تبدأ بحلم ذكر في كتاب "تفسير الأحلام
الكبير" المنسوب للإمام محمد بن سيرين، سرعان ما تقيم جسرا عجيبا بين عالمين،
وشخصيتين، ومكانين، وحكايتين، إحداهما تعيش في الحاضر، هي هشام خطاب، الرجل الذي
لا يعمل، رغم دراسته للجيولجيا، والذي يرتزق من بيع الكتب القديمة، وبين شخصية
تدعى يزيد بن أبيه، يفترض أنها عاشت في البصرة في القرن الثاني الهجري.
يزيد خوّاص يصنع السلال والحصران، وهشام
يقول طوال الوقت إنه هو يزيد، أما هويته الحاضرة، واسمه هشام، فهما هويتان
مزيفتان، ولذلك فهي يبحث، ونتورط معه في البحث، لاكتتشاف هويته المنسية، في رحلة
تنتقل فيها منصورة بسلاسة عجيبة من المنيا الى البصرة، ومن القاهرة الى بغداد.
أما مادة الرحلة فهي خليط من الأحلام
والكتابات المتروكة وتفاصيل الواقع، وبين زمن يزيد ومأساته، حيث عصر المعتزلة
والمرجئة، وحيث تحضر شخصيات تاريخية كبرى مثل الحسن البصري و واصل بن عطاء، وزمن
هشام وأزمته، حيث يضغط الواقع على البشر، وحيث تبدو الكتب القديمة ملاذا ومهربا،
يتشكل بناء الرواية البديع في صورة نهر سيّال من الذاكرة الخصبة، فيحضر الماضي حيا
من جديد، طارحا أسئلة لا تنتهي.
ومثلما تبدو الذاكرة مراوغة، تثبت أمرا
حينا، وتخدعنا أحيانا، فإن منصورة تستلهم هذه اللعبة، فتتعدد أصوات الساردين، بل
إن الطبقة الأعمق في البناء لا تستلهم الذاكرة فحسب، ولكنها تبدو أيضا مثل حلم طويل
مضطرب متعدد الأماكن والأزمنة، وقد حققت هذه الجسور المرنة بين الواقع والخيال
والحلم، وبين الماضي والحاضر، هدفا فنيا آخر هو في صميم معنى الرواية، إذ يبدو أن
خط عدم اليقين، والبحث عن "حقيقة ما"، سؤال عابر للأزمان، سواء في تجربة
يزيد بن أبيه، تلميذ الحسن البصري ثم واصل بن عطاء، أو في معاناة هشام خطاب،
الباحث عن هوية ملتبسة بدورها.
هذا الشكل المراوغ الذكي، الذي لن يكتشفه
القاريء إلا مع سطور النص الأخيرة، هو أيضا في صميم معنى الطبيعة الإنسانية
المراوغة والمتقلبة، سواء في حكاية يزيد مع صديقه النساخ مالك بن عدي، أو في حكاية
مجيبة، زوجة يزيد، مع مالك، أو في حكاية يزيد مع عجوز القصر وقت الطاعون، أو في
حكاية هشام وسلوكه مع ميرفت أو بيّلا، أو في حكاية ليلي، والدة هشام، مع زوجها
الغائب، أو في حكاية ليلى أثناء حياتها في طنطا، وفي المنيا، بل إنها بالأساس هي
حكاية هشام الغريبة معنا، من أول النص، إلى نهايته.
الشكل إذن هو المضمون، كما هو الحال في
الروايات الناضجة، وبينما يعتمد تفسير الأحلام على الرموز، فإن الرموز تستخدم هنا
في موضعها، وبدرجة عالية من الوعي، إنها مفاتيح الصناديق، وعناوين الإجابات، وطرف
الخيط، بل إن عنوان الرواية نفسه يمتلك دلالة تتجاوز حنين هشام إلى بساتين البصرة،
حيث هويته وحبه الأصلي، وحيث وطنه الذي يسيطر عليه، لتصبح عنوانا على الماضي كله،
ذلك الماضي الذي نلتمس فيه أن ينقذنا من الحاضر، أما الياسمين فهو ليس سوى الموت
وقد تقنع بأقنعة مختلفة، أجيد رسمها على مدار الرواية.
وبسبب هذا الثراء في مستويات السرد، وفي
أسئلة هشام خطاب، وإصراره على البحث، فإن "بساتين البصرة" تبدو في
جوهرها رواية عن الطبيعة الإنسانية بكل وجوهها: موتا وحياة، عقلا وفلسفة، عاطفة
وتمردا، امتثالا وثورة، إثما وبراءة، وبينما نظن أن البحث يسير في خط مستقيم،
نكتشف أن الدائرة تعيدنا من جديد الى حاضر هشام.
لا توجد شخصية واحدة لها وجه واحد فقط، هذا
هو الإنسان الذي يبدو حرفيا معلقا في منزلة بين المنزلتين، بل لعله معلق أيضا في
الهواء، مثل هشام الباحث عن هوية، وغير القادر أن يفلت من ذاكرته، التي تظهر أيضا
رموزا في أحلامه، والتي تطارده حتى الموت، وهي أيضا تتجلى في النص في الكتابة وفي
الكتب، ليست مصادفة أن يعشق هشام الكتب القديمة، التي يبدو أنها ابتلعته تماما،
وهو يتمنى لو كانت وصلتنا بعض الكتب المفقودة، مثل كتب ابن الراوندي، وبداية بحثه
مرتبطة بكتاب شهير لابن سيرين، وهنا تجدر الإشارة الى أن منصورة مشغولة دوما بأثر
الكتب والكتابة في أعمال سابقة مثل "جبل الزمرد"، مثلما تبدو من أفضل
الساردات في استلهام الأحلام والجنون.
بين الميلاد وحصار روائح الياسمين، تبدو
الشخصيات مثقلة بذنوبها، وبلحظات ضعفها، يمتد هذا الخيط من الثلاثي يزيد ومالك
ومجيبة في الماضي، وصولا الى هشام في الحاضر، الذي يحلم بأنه ابتلع قمرا، فأظلم
الكون، والقمر في تفسير ابن سيرين يمكن أن يكون رمزا للأبوين، وكان هشام ينادي أمه
ليلي أيضا باسم "قمر".
هذا الكائن المثقل بماضيه وذنوبه، والذي
تؤرقه الذاكرة، ولا تنقذه الملذات، هذا العائش في أسئلة الكلام، والذي يظن أنه
امتلك اليقين، سرعان ما نكتشف سراب رحلته، ونعرف المسافة الهائلة بين واقعه
وخياله، أما الزمن فهو خط متصل من نهر النيل الى شط العرب.
تنتقل إلينا كلما توغلنا في اللعبة حيرة
هشام، وكأن كتاب تفسير الأحلام جعله يركب عجلة الزمن والذاكرة، وهما لا يرحمان
أحدا، الآثمون يعاقبون، وحتى ليلى التي ألقي الغريب بها في المنيا، دفعت الثمن،
وظلت أسيرة لذكرياتها، وبينما يتجادل علماء الكلام، حول وجود القدر، أو نفيه، وحول
حكم مرتكب الكبيرة، وحول الجبر والاختيار، فإن ما حدث للشخصيات بالفعل يجعلنا نرى
ألوانا وأشكالا من كل شيء، ومن كل الفرضيات العقلية، هنا تبدو الحياة أكثر تعقيدا
حتى من الفلسفة.
ورغم أن هشام استدعى بساتين البصرة تحديدا،
ورغم أنه يقول إن بلده هو بلد اللغة والبساتين والأئمة، تلك المدينة القابعة في
العراق، إلا أن كل إنسان له أيضا بساتينه وبلدته وأحلامه، لديه ذنوبه ومواطن
حيرته، وهناك، في نهاية الرحلة الشاقة، تنتظره حتما بتلات الياسمين، ورائحتها.
أما الصناديق التي نظن أننا امتلكناها يوما
ما، فتبدو دوما في حاجة الى مفاتيح مناسبة، نبحث عنها طوال الوقت، وقد لا نجدها
على الإطلاق.
No comments:
Post a Comment