القدس العربي.. 19 سبتمبر 2020
مجازفة سردية جديدة هذه التي تقترحها
الروائية المصرية منصورة عز الدين في عملها الجديد “بساتين البصرة”؛ لا يِجْحَدُ،
مع ذلك، مقادير الجسارة الفنية في أعمال سابقة مثل “متاهة مريم”، “وراء الفردوس”،
“جبل الزمرد”، “أخيلة الظل”؛ أو في “ضوء مهتز” و”مأوى الغياب” على مستوى القصة
القصيرة. لكنّ براعة الإنجاز العالية، التي تناسقت عناصرها وتكاملت وظائفها خلف
طموح تجريبي بالغ النضج، تكفلت بتحويل المجازفة إلى حصيلة ناجحة تماماً؛ ليس في
مستوى خطوة كبرى إضافية إلى أمام، تقطعها عز الدين في مشروعها السردي، الروائي
والقصصي، فحسب؛ بل كذلك، وربما قبلئذ، في الفوز بتعاقد رابح مع قارئ يلذّ له، حسب
شيخنا الجرجاني، أن يتقبّل المشقة في سياق تذوّق الفنّ، وأن يُقبل على مقارعة
الصعوبة خلال تلمّس المتعة غير المبسطة والتشويق غير المسطح.
“بساتين البصرة” تقود الحكاية (إذْ ثمة حكي
هنا، بديع وسلس وشيّق وذو بنية ومعمار…) عبر منمنمات مجزأة لكنها تتوحد في ستة
فصول، لا تخفي عناوينها أنساقا أخرى من جسارة التعبير ونزوع المجاز: “سماء
تركوازية كما يليق بحجر كريم”، “شذرات من حياة يزيد بن أبيه”، “أيام تنفرط كحبّات
العقد”، “داخل لوحة شاجال”، “امرأة في الكرخ.. بيت على أطراف البصرة”، و”خلف ضباب
الجسد”. وهي حكاية تنعقد بين أزمنة متباينة وأمكنة متباعدة وعمارات سرد متقاطعة
ورواة يتبادلون الأصوات وأسماء العّلّم كما شخوص التاريخ مسميات المخيّلة؛ من
المنيا المصرية إلى البصرة العراقية، ومن واصل بن عطاء والحسن البصري إلى هشام
خطاب وأمّه ليلى وصديقته ميرفت في مصر المعاصرة، ومن مُجيبة زوجة يزيد بن أبيه
وحبيبها عدي بن مالك النساخ، إلى بيلا روزنفيلد زوجة مارك شاغال وبطلة لوحاته
الشهيرة. وكما برعت عز الدين في توظيف تقنيات عديدة من ألف ليلة وليلة في “جبل
الزمرد”، فإنها هنا تتجاسر بشجاعة قصوى على ربط معتزلة البصرة أواخر العصر الأموي
بالمتشددين التكفيريين أبناء أيامنا هذه؛ ولا تُتمّ هذه الجسارة إلا بعد إخضاعها
لمعايير الفنّ الروائي أوّلاً، وربما ثانياً وثالثاً وعاشراً!
هنا سطور من الرواية:
“يدلني هاجس مفاجئ على أن رحلتي تنتهي هنا.
أفكر في حفر الأرض. لا أجد معولاً يعينني على فعل هذا، فأحجم عن الفكرة. أرقد على
ظهري حالماً باخضرار العشب أسفلي، وعودة الكرمة إلى سابق عهدها. مؤكد أنها كانت
يانعة مزدهرة يوماً ما. أعرف، على نحو مبهم، أنها يبست حزناً وقهراً. غزاها الموت
يوم دُفنت ذاتي القديمة في عمق تربتها. لم يكن جسدي – بعد التحلل – صالحاً لمدّها
بالحياة. كان ترياقاً، زادت جرعته، فاستحال سُمّاً لا شفاء منه. نُبش قبري المرتجل
هذا، وتُرك لبرهة فاغراً فاه للسماء، فاختلّ توازن محيطه. قُتلت غيلة، وقُبرت بل
غٌسل ولا صلاة جنازة، وزرع قاتلي شجرة ياسمين فوق قبري، فكبرتْ وتفرعت وتآمرت معه
لإخفاء جرمه. لم يسأل أحد ما الذي أتى بالياسمين على حدود كرمة وارفة”.
دار الشروق، القاهرة 2020
No comments:
Post a Comment