علا الساكت
في روايتها الجديدة "بساتين
البصرة"، تشيّد لنا الروائية المصرية منصورة عزالدين عالماً إبداعياً مفارقاً
للسائد، إذ تعود بنا إلى التراث العربي القديم لتشييد عالم مركب، تتداخل فيه
الأصوات والحبكة وتصنع روايتها كأنما تغزل ثوباً مزركشاً مرصعاً بأحجار لغة رفيعة،
لا تغيب عنها تأثيرات التراث العربي، والأدب الكلاسيكي.
وتنسج عزالدين في "بساتين
البصرة" قطعة تتعدد فيها الأزمان وتتداخل الشخوص، إذ تقدم لنا رواية أقرب إلى
حجر نرد، في كل مرة تلقي فيها براوٍ جديد، نكتشف معه وجهاً جديداً للحكاية ذاتها.
تبدأ الرواية بحلم مأخوذ من الكتاب المنسوب
لابن سيرين "تفسير الأحلام الكبير"، بزوال علماء البصرة.
تنشغل عزالدين بالحالم، وتنسج حكايتها
انطلاقاً من غياب تفاصيله هو، في مقابل الحلم وتفسيره بمصير كبار علماء البصرة،
وتغزل روايتها بدءاً بهشام خطاب ابن المنيا الذي تخرج في كلية العلوم، الذي يصطدم
بجدار الواقع سريعاً، ليعمل في مجال بيع الكتب القديمة والنسخ النادرة، ويحتل روحه
حلماً بأنه يعيش في زمن آخر باسم آخر هو "يزيد بن أبيه".
تقول عزالدين، صاحبة رواية "متاهة
مريم"، إن فكرة الرواية ظلت معها لفترة تقارب 25 عاماً، حين قرأت هذا الحلم
وتفسيره في ابن سيرين، وتضيف: "شعرت أنى سأكتب عنها شيئاً ما، لا أدري ما هو
لكن ظللت أفكر في تلك الرؤية وذلك الحلم".
وتتابع: "كتبت الرواية على أساس فصول،
تروي كل فصلٍ شخصية مختلفة، لكن اكتشف بعد المسودة الأولى أن هذا النسق مربك
للقارئ لأننا أمام زمنين، وأكثر من مكان، وشخصيات كثيرة، فأعدت الكتابة بتقسيم
الرواية إلى أقسام، كل منها يكشف وجهاً جديداً للحكاية. وهذا جزء من متعة الكتابة،
أن أمضي وراء احتمالات كثيرة للبناء".
اللحظة التاريخية
لا يخفى على القارئ أن زمني الرواية يجمع
بينهما سمة مهمة هي أنهما زمنان لتحولات كبرى وشقاق، فهناك لحظة اعتزال واصل بن
عطاء مجلس الحسن البصري، والجدل الفقهي الناجم عن خلافهما، الذي يراه البعض أنه
ثاني أكبر لحظة شقاق في التراث الإسلامي، وفق عزالدين.
لا تستسلم "بساتين البصرة" للسرد
الأفقي التقليدي، الذي تتابع فيه الأحداث والصور، وفق ترتيب زمني أو مكاني، بل
تقدم مع كل صوت جديد في الرواية تفاصيل جديدة للحدث ذاته، تكشف لنا رقعة جديدة من
زمنين مختلفين، يعبر الأبطال فيهما قروناً من الزمن عبر الحلم، أو علامات قادمة من
زمن بعيد، فتارة تقدم لنا الحبيبة المهووسة بالسينما، والأم التي ينفرط من رقبتها
عقد الكهرمان المتوارث لأجيال، والتي تتشابه في حكايتها الجدة ذات الكنز المربوط
على خصرها مع مجيبة زوجة "يزيد بن أبيه".
تجيد صاحبة "نحو الجنون" نسج
العلامات، والتقديم للأحداث الكبيرة عبر سلسلة من العلامات على الطريق، فشخوصها
يتشابهون إلى حد كبير، في الإيمان بالعلامات، وتمحور حياة كل منهم حول خطيئة، أو
لحظة تتبدل فيها دراما حياته للأبد، تخبو وتذبل كما تذبل زهرات الياسمين، فمن خلال
العلامات ربطت عزالدين أشخاصاً يبدون متباعدين ببعضهم.
وهذا الربط الذي يشعرنا أننا أمام بناء
دائري، فمنصورة تمسك أبطالها من ذنوبهم، والتي تحرك دراما حيواتهم، فلا عجب أن
الأحداث تدور بحيث نكتشف أن يزيد الذي بدأ الرواية ضحية لجريمة قتل، انتهى قاتلاً،
وأنه دُفن حيث دفن هو مفتاح جريمته الأولى.
قارئ غير متوقع
في هذا العالم المترامي بين زمنين وعدد
كبير من الشخصيات، استخدمت عزالدين اللغة حيلةً روائية للتفريق بين أصوات كل عصر،
فاستخدمت ديباجات الخطب لتمييز شخوص البصرة، فيما تنوعت اللغة الحديثة بين مستوى
المثقف على لسان هشام، واللغة البسيطة الساخرة على لسان حبيبته.
تقول عزالدين: "كانت اللغة عاملاً
أساسياً بالنسبة لي أثناء كتابة الرواية، فهي التحدي، واللعبة التي أحببت أن
ألعبها، وأشرك القارئ الذي يقرأ بتمعن معي فيها".
تتماهى لعبة اللغة عند منصورة مع ولعها
بالتراث العربي، فكتبت فصلاً على لسان واصل بن عطاء، بدون حرف الراء، الذي اشتهر
هو بتجنبه في خطبه، تقول: "كان التحدي أن أكتب بمنطق واصل بن عطاء نفسه، لكن
بلغة ليست مهجورة وصعبة بالنسبة للقارئ الحديث".
وتتابع عزالدين: "لم يكن هدفي أن أمرر
رسالة بعينها، هناك أنواع أخرى من الكتابة ممكن اللجوء لها لتمرير الرسائل بطريقة
مباشرة مثل المقال، في الفن هناك خيط تمشي وراءه، وهو يقترح عليك تفاصيل وأفكاراً
تتولد أثناء الكتابة".
يذكر أن "بساتين البصرة" هى
الكتاب الثامن لمنصورة عزالدين، سبقها 4 روايات، و3 مجموعات قصصية. وصلت روايتها
"وراء الفردوس" إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، كما فازت
روايتها "جبل الزمرد" بأفضل رواية عربية من معرض الشارقة للكتاب 2014،
ووصلت مجموعتها القصصية "مأوى الغياب" إلى القائمة القصيرة لجائزة الملتقى
للقصة العربية عام 2018، والقائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد.
نقلاً عن جريدة الشرق
6-10-2020
No comments:
Post a Comment