منصورة عز الدين
اسمي بستان!
من يعرفونني جيدًا، وهم قلة، يسمونني "كاهنة الأبيض
والأسود"!
الآخرون يرونني غريبة الأطوار. لو قُدِّر لكاتب أن
يكتبني لوصفني بالمرأة الحوراء، أو ذات الشعر الفاحم والملابس السوداء، إلى آخر
هذه الأوصاف المحدودة بالظاهر، غير القادرة على التقاط ما يتأجج بداخلي.
لن يتمكن أحد من اِكْتِنَاه ما أخبئه ولا ما أقدر عليه،
كما لن يكون على علم بخفايا الوقائع التي جرت قبل قرون ولها نذرت حياتي، لذا عليّ
أن أكون الكاتبة، أو بالأحرى الحكَّاءة المنوط بها ملء ثغرات الحكاية ولضم أجزائها
معًا، حكاية لستُ بطلتها، لكنها لن تكون بدوني.
في العام الحادي عشر من الألفية الثالثة، وبشقتي المطلة
على نيل الزمالك، أنكفئ على التدوين بلا كلل. عالم قديم ينهار بالخارج وأنا مشدودة
إلى كلمات مراوغة لا تكف عن التسرب من بين أصابعي. كسحائب صيف عابرة، تمر بذهني مشاهد
متتابعة من أزمان مختلفة، أقتنص بعضها، ويتملص مني بعضها الآخر.
أراني طفلة فوق جبال الـ"ديلم" في ستينيات
القرن العشرين، أعدو خلف أبي في تسكعه الصباحي وهو ينشد أبياتًا للرومي أو العطّار
أو حافظ. يسبقني بأمتار ثم ينتبه إلى تأخري عنه، فيقف منتظرًا إياي بصبر، وبخار
الماء يتصاعد من فمه. ألحق به، فيُجلسني فوق صخرة مجاورة ويحكي لي، كما كل مرّة،
شذرات من خبر موطننا الأصلي. رغم البرودة الشديدة يدب الدفء في جسدي، وأكمل له ما
يغفله من تفاصيل، فيعانقني سعيدًا.
"نحن غرباء أبديون"! كان يقول كل مرة يُخرِج
فيها تلك الرقوق والجلود العتيقة من خزانته السرية ويروح ينبه عليّ ألاّ أبوح
بسرها لأحد، ساهيًا عن حقيقة أني أكاد لا أحادث أحدًا غيره. أعده بهذا، فيبدأ في
تعليمي كيفية فك شيفرة ما بها. ينقل لي ما تعلمه من أبيه. يهمس لي بأن السلسلة يجب
أن تتوقف عندي، أسأله عمّا يعنيه، فيرد بأن ما لديه من علامات، ينبئه بأني الكاهنة
المنتظرة، ولا يزيد في الشرح.
أتذكره الآن، بينما أجلس في بيتي القاهري، فتحضرني روائح
جبل "آلاموت" ونباتاته، أكاد أبصر السفوح المكسوة بالخضرة والقمم
المكللة بالثلوج والسهل المنبسط محتضنًا القرى المحيطة بجبال الديلم.
ذات يوم بعيد أشار أبي إلى ما أطلق عليه "أطلال
قلعة آلاموت"، وغاصت ملامحه كلها في أسى لم أدرك أسبابه. كان يقف منتصبًا
مبالغًا في شد جسده، وهو يتأمل البقعة التي يصوب نحوها سبابته. لم أنظر إليها، بل
تعلقت عيناي بوجهه الأليف بلحيته الخفيفة وشعره الرمادي.
انحدرنا نحو الأسفل، وبين برهة وأخرى كان يلتفت إلى
الوراء ممعنًا النظر في أطلال لم أكن – إلى ذلك الوقت - أعرف عنها شيئًا. بعدها
بيومين أجلسني بجانبه تحت شجرة كستناء، وحكى لي عن حسن الصبَّاح وطائفة الحشاشين.
قال إن لا شيء يبقى سوى الحكايات، تنتهي الذاكرة بموت صاحبها، وتظل الحكايات
كذاكرة بديلة متوارثة.
دربني مبكرًا على السرد والكتابة، مسربًا لي تدريجيًا
لمحات مما ينتظرني من مهام، أسمعني مئات الحواديت المستلة من دهاليز التاريخ
الغابر، وأنشد لي آلاف أبيات الشعر، كنت ألتهم، بتشجيع منه، ما يقع تحت يدي من كتب.
اصطحبني تقريبًا إلى كل مكان ذهب إليه، معه زرت قبر عمر الخيام
المحروس بالورود وقلوب المحبين، وخطوت في أروقة وأزقة مدينة مشهد المقدسة، وتجولت
بين نيسابور وشيراز وأصفهان. "هذه مدن يتنفس فيها التاريخ ويعيش، ومع هذا يجب
ألاّ تنسينا وطننا المشتهى"! يقول، ثم يغمض عينيه ويغرق داخل ذاته، فيخطر لي
أن الوطن المحلوم به ليس سوى فكرة.
"محال أن
أنال صحبتك، لهذا أصاحب غبار طريقك"! اعتاد أن يكرر قول فريد الدين العطّار
فأعرف أنها رسالة موجهة لي، أحدس أني مَن سوف يصاحب غبار الطريق، وأن حياتي برمتها
ستضيع على الطريق المستحيل إلى وطن يسكن الكلمات. هشة، متعبة، تنهشني الأفكار
والشكوك والهواجس، كان مقدرًا لي أن أخطو مخفورة بالغبار.
في الثامنة عشرة من عمري، غادرت شبه مجبرة لتصميمه أن
مكاني لم يعد حيث يقيم، وأن عليّ بدء رحلتي وحدي، لم أحمل في حقيبة السفر سوى
ملابس قليلة كي أتيح مساحة لما حمَّلني إياه من مخطوطات وكتب وأوراق. في ذاكرتي
كانت تضطرم مئات التفاصيل، وفي مفكرة صغيرة، قبعت أسماء مدن أعبر بعضها سريعًا كما
يفعل عصفور قلِق، وأنظر لبعضها الآخر من علٍ نظرة طائر، وأقيم في القليل منها
لسنوات تطول أو تقصر. مدن تبدأ من نيويورك حيث كان يفترض بي إكمال دراستي، وتنتهي
في القاهرة التي فهم من علامات ونبوءات، مبثوثة في ثنايا ما ورثه عن أجداده، أنها
محطتي الأخيرة التي سأجد فيها ما أبحث عنه، القاهرة حيث أجلس الآن - بعد مرور
اثنين وثلاثين عامًا على توديعي له - أنسج الكلمات لأحيك ثوب الحكاية الناقصة من
كتاب "الليالي".
"أي حكاية تلك؟ نعرف حكايات كثيرة أُضيفت إلى
"ألف ليلة وليلة"، لكننا لم نسمع بحكاية معينة نقصت منه، ثم أنه ليس
كتابًا واحدًا، إنما نص لا نهائي لا يني يتغير عبر الإضافة والحذف!"
هذا ما سوف يجول بذهن من يقرأ ما أدوِّنه، لكن اسمحوا لي
أولًا أن أضم أشلاء حكايتي جنبًا إلى جنب! ولتسامحوني إذا لم تتضح لكم معالمها
سريعًا، ولتعلموا أن من أصعب الأمور القفز بين الأزمنة والتواريخ ومصالحة ماضٍ
سحيق مع حاضر معاش. الصبر صيّاد، فليكن الصبر رفيقكم، كما كان وما يزال رفيقي
الوحيد على دربي الوعر.
صدرت الرواية في يناير 2014 عن دار (التنوير القاهرة- بيروت- تونس)
No comments:
Post a Comment