بدأت
مطالعة رواية "جبل الزمرّد" مباشرة اثر استفاقتي من صدمة أحداث باردو...
كان لا بدّ لي أن أهرب من بشاعة الموت إلى جمال الحياة بين صفحات كتاب... وبدل أن
تمنحني الرواية الطمأنينة التي كنت أنشد، قذفت بي وسط متاهات الأسئلة المشبعة
بالقلق والحيرة... إنّها رواية محرّمة على مريدي الأجوبة الجاهزة...
في شقّتها المطلّة على نيل
الزمالك، ذات قاهرة 2011، تنكفئ "بستان بحر" على التّدوين بلا كلل... هي
التي ولدت في ستينات القرن العشرين، على مقربة من أطلال قلعة ألموت الإيرانية،
مشحونة بهاجس الإحياء... فلقد درّبها والدها مبكّرا على السّرد والحكاية وبثّ فيها
ما حفظه من حكايات وقصص وأشعار، وحمّلها أمانة استعادة زمرّدة أميرة جبل قاف
المختفية، وتنقية قصّتها ممّا شابها من تحريف واعتراها من نقصان...
تكتب "بستان" قصّة
سقطت من "ألف ليلة وليلة"، أو هكذا توهمنا منصورة عزّ الدّين... فهي
تسند لروايتها، الصادرة عن دار التنوير،عنوانا فرعيا هو "الحكاية الناقصة من
كتاب الليالي" ليشتبك نصّها الحديث مع الحكاية القديمة اشتباكا بنيويا
مخاتلا... في 224 صفحة مقسّمة إلى 17 فصلا سرديّا، نجحت الكاتبة في تفكيك حكاية
حاسب كريم الدّين في "ألف ليلة وليلة" ومن ثمّة نقضها وإعادة كتابتها
بأسلوب تخييلي مختلف.
ولا عجب أن تستهدف منصورة عزّ
الدّين كتاب الليالي بالتفكيك والنقض، باعتباره أقدم نصّ كان له وما يزال أثر في
النصوص الأدبية اللاّحقة شرق اليابسة وغربها.
يتناوب الواقعي والغرائبيّ في
"جبل الزمرّد" تناوب الزمان والمكان في فصول الرواية... فمن عالم ألف
ليلة وليلة بشخصيّاته القصصية الأسطورية (نورسين، زمرّدة، بلوقيا، ايليا، الملك
ياقوت، مروج، الرّاعي،...) وفضاءاته الغريبة (جبل المغناطيس، جبل قاف، جولستان...)
إلى عالم الرواية الواقعي بشخصياته (هدير، شيرويت قنديل، كريم خان، نادية،
كمال...) وفضاءاته الحقيقية (ميدان التحرير، الزمالك، مدينة ثاكاتيكاس
المكسيكية...)
عالمان مختلفان متنافران لم
يجتمعا إلا بقدرة محور الرواية ومركز ثقلها "بستان دريا"... كان لا بدّ
للبطلة والراوية في "جبل الزمرّد" أن تكون منحدرة من بلاد فارس، حاصلة
على اسم له وقع السّحر وتأثير الغرابة، مغلّفة بالغموض كبطلات الليالي، ممحونة
بهاجس القصّ كشهرزاد...
تكتب منصورة عزّ الدّين فتتمرّد
على قانون "قاف" الذي يقضي بمنع النساء من التدوين... كما تمرّدت
"مروج" من قبلها فكتبت سيرة الأميرة زمرّدة ليكون في ذلك هلاك هذه
الأخيرة وتهاوي مملكة والدها وتشرّد سكّانها...
اللّعنة محرّك أساسيّ من محرّكات
أحداث الرواية بشقّيها الواقعي والغرائبي... فلعنة الملك ياقوت والد زمرّدة طالت
كتاب "ألف ليلة وليلة" فـ"صار مطاردا منبوذا في ثقافته الأمّ، من
يقرؤه كاملا يموت مع انتهائه من آخر كلمة فيه"... ولعنة الحنين انقضّت على
نورسين والدة الأميرة زمرّدة الرّاغبة في الهرب من "قاف" والعودة إلى
مدينتها جولستان فانتهت بين جذع "ملكة الحيّات" التي اعتصرتها حتى أسلمت
الرّوح... ولعنة البحث عن اللّيل أصابت عيني إيليا بالظلام الدّائم فسافر إلى جبل
المغناطيس بحثا عن حجر الفضّة الذي يعيد إليهما نورهما فكان مصيره الخلود في
النسيان... ولعنة التدوين المحرّم على نساء "قاف" أصابت مروج وأهلكت
زمرّدة ومملكة أبيها وحكمت على شعبها بالتّيه طوال قرون... أمّا في الواقع، فكان
الجمال لعنة نادية، والاستسلام في مركز التحقيق لعنة شرويت قنديل، وإضاعة خاتم
الزمرّد لعنة هدير...
السرّد في "جبل
الزمرّد" غير متزامن، فهو عبارة عن قصص محشوّة في "صندوق" الرواية،
وهو تكنيك أدبيّ انتشر كثيرا في روايات القرنين السّابع عشر والثامن عشر... لا
تكتب "بستان دريا"، ومن ورائها منصورة عزّ الدين، لتخبر بل لتسائل...
فيجد القارئ نفسه باذلا قصارى جهده لفهم مكنونات السّرد المغرقة في المخاتلة...
لا تكاد تقبض في الرواية على
حقيقة مصرّح بها واحدة... فالترميز فيها أسلوب وغاية ... والسّؤال محرّك ثان من
محرّكات الأحداث... فالراوية كما شخوص روايتها يدفعهم السّؤال إلى الرغبة في كشف
المخبوء، أو تعرية الأسرار المكنونة، أو القبض على المعرفة، أو معانقة الخلود...
أسئلة ورغبات تقود أصحابها إمّا إلى الجنون أو الموت...
في هذا الإطار، تعتمد منصورة عزّ
الدين، على تراث أدبي وديني متنوّع... فأسلوبها في الغرائبية مشابه لألف ليلة
وليلة قاطع معه في آن، ومراجعها مستمدّة من فريد الدين العطّار وابن الوردي
وأفلاطون وابن فضل الله العمري، ومصائر شخصيات روايتها محكومة بمآل التاريخ في تيه
آل "قاف" المشابه لتيه بني إسرائيل...
تجعل الاستعارات والرموز التي
بثّتها عزّ الدين في جسد روايتها، القارئ محكوما بعبء تفكيك الشفرات... فهي تارة
تسري به نحو عالم الغيب والماورائيات وتارة أخرى تعرّج به الى ميدان التحرير حيث
آثار ثورة 2011 ما تزال قائمة... فالثورة المصرية، وان كانت زمنا واقعيا لكتابة
الرواية، تبدو في "جبل الزمرّد" إطارا موازيا لا محورا رئيسيا
للأحداث...
حصدت "جبل الزمرّد"
جائزة أحسن رواية في معرض الشارقة لعام 2014، ولا شكّ أنّ لجنة التحكيم رأت فيها
ما رآه كلّ قارئ أصابته الرواية بفيروس الحيرة... فهي نصّ مضادّ لألف ليلة وليلة،
لكنّه يبدو مضادّا لكلّ المسلّمات التي تواضع البشر عليها...
رواية تحكي ثورة مصر دون أن
تحكيها فعلا، وترافق المرتحلين إلى عوالم المعرفة الطالبين الخلود في طيّات كتاب
أو رواية أو في أحضان الموت... نصّ يتمرّد على لعنة الإرهاب بنعمة السؤال...
نقلاً عن: حقائق أونلاين.
No comments:
Post a Comment