د. خيري دومة
"جبل الزمرد" رواية كبيرة، وهي - شأن الروايات الكبيرة -
لا يمكن تكثيفها في صيغة واحدة تلخص المعنى النهائي. رحلة خيالية تقوم بها سلالة
النساء في أزمنة وأمكنة مختلفة من تاريخ الكون، يصعدن من جبال متعددة ويخترقن حدود
الكون الضيق إلى كون أوسع. رحلة متعددة الطبقات والأصوات إلى عالم ما قبل الحياة،
وليس ما بعدها كما اعتدنا في سرود سابقة على مدى التاريخ الإنساني. راويات يحركهن
الحنين إلى صفاء عالم الزمرد الأول، المرتبط بألف رباط أسطوري مع حياتنا في
الشوارع المزدحمة. رحلة أسطورية مضنية لاستعادة حكمة جبل قاف، أو جبل الزمرد الذي
يسكننا.
الرحلة هي الهاجس الأول المهيمن على هذه الرواية وشخصياتها من النساء والرجال على السواء. الرحلة شوقٌ مقيم يطارد الجميع؛ فالشخصيات كلها تقريبًا، خياليها وواقعيها، مهووسة بالرحيل الدائم، تجتاز المسافات وتخترق الحجب، تنفتح على الأساطير والأعاجيب، يسوقها سحر كامن قديم عجيب لم يفارقها يومًا. ودائمًا يكشف السحر عن آياته في النساء خصوصًا، وفي قليل من الرجال المقدسين كإيليا وبلوقيا.
"بستان البحر"، الراوية وحاملة الحكاية، المولودة بجبال الديلم في إيران، تلملم أطراف الحكاية من مظانّها، تعرف ما حدث في الأزمنة الأولى، وما يدور في نفوس البشر والحيوانات والطيور والكائنات الغريبة، تملك معرفة لم تُتَح لحكاء من قبل، معرفة حصلتهما من جين أنثوي يصلها بملكات الحياة الدنيا والحياة الأولى والحكايات الشعبية، بزمردة ومروج ونور سين ومنار السنا. درست الكتب والرقوق والوجوه المتعبة، والتقت العلماء في أطراف الأرض.
"هدير" ابنة الطبقة الوسطى المصرية في قاهرة القرن الحادي والعشرين، يهيمن عليها ولعٌ بالسفر والرحيل. مغرمةٌ بالسفر منذ أن أضاعت وهي طفلة خاتم أمها ذا الفص الزمردي وسط كومة من القش. وسط كتبها صورٌ لأطراف العالم القصية التي تنتظر الزيارة. أمامها سكة سفر دائمة، وعلى مكتبها "رجل المستحيل". أما رحلتها الكبرى فرحلة سحرية تنتهي بها الرواية ويتحطم الكون بأسره. تطير هدير، تطفو فوق العالم، بتفاصيله التافهة، بمشكلاته الجادة، بأسئلته غير القابلة للإجابة،رحلة أخيرة تراجع فيها الأساطير وتلتقي بالعجائب.
"زمردة" ترحل من جبل إلى جبل ضد أعراف عالمها ثم تعود. "نور سين" تختطف على متن العنقاء إلى جبل قاف، ثم تخترق المحظور وتجتاز جبل قاف إلى جبل المغناطيس وتختفي. "مروج" و"الراعي". "إيليا" الباحث عن الليل، العملاق الأعمى قطع آلاف الأميال بحثًا عن جبل الزمرد وأحجاره الفضية. "بلوقيا" الصائغ الفارسي القادم من الطرف الآخر من العالم "التائه في سديم الزمن، الباحث عن المستحيل" تلح عليه الهواجس أن يرحل ويتيه: "أرغب في السفر إلى حيث لم يذهب أحد قبلي، إلى آخر الدنيا حيث كل شيء مختلف عما عرفته وتعلمته".
الجبل هو الفضاء المهيمن. عنوان الرواية نفسه "جبل الزمرد"، شخصياتها لا تكاد ترحل إلا من جبل إلى جبل. كان الجبل عبر التاريخ محط اتصال الأرض بالسماوات العلا. جبال أسطورية تحيط بالأرض في التصورات الدينية والشعبية. الجبل مكان لاعتكاف الأنبياء والنساك والمتصوفة. المدينة الخالية من الجبال "بلا عرق يربطها بجبل قاف" كما قالت الراوية. جبل قاف ليس مكانًا حقيقيًّا، إنما هو كما قال الحكيم لابنته جوهر الحقيقة صعبة البلوغ. الرواية كلها رجع صدى للجبال، على الأرض وفي سماء الأساطير.
أما الحكاية، فهي تميمة الخلاص في هذه الرواية. و"جبل الزمرد" كما يقول العنوان الفرعي هو "الحكاية الناقصة من كتاب الليالي". وبستان البحر هي الحكاءة المنوط بها ملء ثغرات الحكاية وضم أجزائها معًا". يقول والدها "نحن غرباء أبديون.. لا شيء يبقى سوى الحكايات، تنتهي الذاكرة بموت صاحبها، وتظل الحكايات كذاكرة بديلة متوارثة. الحكي والحكاية، مثل الجبل، أشد الكلمات تداولاً في رواية جبل الزمرد. عطش للحكايات لا يرتوي، حكايات من الخيال وعوالمه الغريبة، حكايات فرعية وحكاية من داخل حكاية. حكاية شفوية غير قابلة للمحو، ينقلها جيل لجيل وتنسرب من جين لجين. الحكاية كالحياة مسكونة بالمصادفات، والحياة كخاتم الزمرد الذي ضاع من هدير الطفلة في كومة القش فصنع الحكاية.
ما الذي تقوله الرواية؟ أهي رحلة أسطورية في البحث والاكتشاف؟ معراج جديد؟ واحدة من الرحلات الخيالية التي لم يتوقف البشر عن القيام بها عبر التاريخ؟ رحلة البحث عن الحكاية الناقصة في كتاب الليالي؟ أهو البعد الغامض الناقص من حكايتنا على الأرض؟ تكاد الرواية أن تقول بأن النقص قانون الوجود وسره، وأنه سر مواصلة السعي والحركة.
في الرواية لمس رقيق للقضايا الميتافيزيقية الكبرى - وربما القضايا السياسية أيضًا، خصوصًا مصر في ثورة يناير والعدل المستحيل - لمس من بعيد دون انخراط أو تورط يوحي بالفهم الكامل. وكان من الممكن لهذين الهمين، لو برزا إلى السطح في جبل الزمرد، أن يدمرا ما أنجزته الرواية من جمال أدبي، لكن المؤلفة ظلت على وعي وحساسية، وإن تبدى الهم السياسي أكثر مما ينبغي قليلا في فصل واحد من الرواية.
منصورة عز الدين وريثة سلالة طويلة من الحكاءات يبدأن بزمردة النادرة هناك في عالم ما قبل الحياة، ومرورًا بشهر زاد الشهيرة في الحكايات، ووصولاً إلى بستان البحر وهدير المعاصرتين. ولم يكن مستغربًا أن تتمكن منصورة من ضبط إيقاعات الحكاية، وقطع الحكايات الفرعية المتعددة ثم وصلها، إلى أن تلتئم كل الحكايات في نهاية الرواية. ولعل أهم ما يميز العمل وصاحبته ليس فقط امتلاك خيال بلا حدود تغذيه التجربة والقراءة، وإنما أيضًا امتلاك لغة مطواعة مدهشة، تلامس الحكايات الأسطورية من ناحية، وتلامس الشعر وإيقاعاته من الناحية الأخرى، دون أن تفارق حياتنا وهمومنا اليومية.
عن جريدة القاهرة
No comments:
Post a Comment