د. صلاح فضل
منصورة عزالدين روائية وإعلامية مرموقة، تجترح
فى روايتها الجديدة الفارقة «جبل الزمرد» مهمة خطيرة، هى مشارفة الغيب ومشافهة الأصل
ومقارعة جدتها الساحرة «شهرزاد» بنوعين مضفرين من السرد، أحدهما مغمس بالخيال الذى
ينطلق من قلب الأساطير الغارقة فى ضباب الأزمنة السحيقة، والآخر من صميم الحياة المفعمة
بدفء الوجود وعطر المشاهد اليومية وأشواقها الأليفة. يتلاقى النوعان فى زؤابة «جبل
قاف» الملفع فى غياهب السماء والمسكون بالعجائب، حيث تشب الأميرة زمردة لتكسر تابوهات
الأجداد وتبحث عن المجهول لتكتشف أحلام الخلود وبهجة التواصل الجميل.
تطرز منصورة عزالدين هذه السردية الفائقة بعناية
صانعة المجوهرات، تمزج الأحجار والألوان والأشكال بحرفية متقنة، حيث تبعث فى الأسطورى
شهوة الخلق الأولى، وفجيعة النبوءات والمصائر، وهى تخرق قانون التدوين المفترض الذى
حرم المرأة من الإبداع، كما تسقى فى البث اليومى ماء الحياة الذى ينبت عشبة الخلود،
تستغرق فى متعة التحليق فى أفق «ألف ليلة وليلة» بخيال مجنح، يصطنع لغته، ويضبط إيقاعه،
ويصل ما انقطع من حكاياته فى مغامرة خاصة، لإنتاج لون مشرقى جديد من واقعية مسحورة
مطعمة بالأحجار الكريمة السخية.
تصنع الكاتبة لسرديتها رواية على عينها، تتجسد
حيناً فى سيدة إيرانية الأصل هى بستان البحر، تقدم نفسها فى السطور الأولى قائلة «فى
العام الحادى عشر من الألفية الثالثة، وفى شقتى المطلة على نيل الزمالك، أنكفئ على
التدوين بلا كلل.. أرانى طفلة فوق جبال (الديلم) فى ستينيات القرن العشرين، أعد وخلف
أبى وهو ينشد أبياتاً لجلال الدين الرومى أو العطار أو حافظ.. فى الثامنة عشرة من عمرى
غادرت شبه مجبرة لم أحمل فى حقيبة السفر سوى ملابس قليلة كى تتسع لأكبر قدر مما حملنى
إياه من كتب ومخطوطات وأوراق، فى ذاكرتى كانت تضطرم مئات التفاصيل، وفى مفكرة صغيرة
قبعت أسماء مدن أعبر بعضها سريعاً وأقيم فى القليل منها لسنوات تطول أو تقصر، مدن تبدأ
من نيويورك حيث كان يفترض بى إكمال دراستى، وتنتهى فى القاهرة التى فهم من علامات ونبوءات
مبثوثة فى ثنايا ما ورثه من أجداده أنها محطتى الأخيرة أجد فيها ما أبحث عنه».
ومع تجسد هذه الراوية فى شخص محدد يتراءى من
حين لآخر فإنها تلبست بدور الراوى العليم فى حكى ما لم تره، بل تقصمت أصواتاً أخرى
فى الرواية، حيث نفذت إلى أعماق «هدير» وكتبت ما لم تعرفه عن نفسها وتابعت أمها منذ
طفولتها حتى مهجرها الكندى، كما تابعت خواطر الأميرة «زمردة» ومغامراتها فى الصمت والكلام،
سكنت جبل الحياة وصعدت مع «بلوقيا» إلى جبل قاف، ونزحت إلى أسرار الكون فتلاشت فى فصول
كثيرة كأنها ذابت فيه، لكنها ظلت فى معظم الأحوال تقبض على الزمام بقول محكم وهدف مرقوم،
لكن كل ذلك يتم على ضفاف عوالم تنبثق من البؤرة السحرية المركزية لألف ليلة وليلة،
حيث يلتقى فريق من الباحثين الذين يشبهون الدراويش فى تحلقهم حول قطب يجمعهم، تحكى
بستان البحر قصة لقائها بهؤلاء فى بيت أستاذ ضليع فى الألفيات، انكفأ مع عشرة أشخاص
على بساط من الفرو يناقشون الأصل الذى استلهمت منه حكاية «مدينة النحاس» فيروى أحدهم
من الذاكرة مقتطفاً من حكاية حسن البصرى الذى رحل إلى جزر واق الواق لاستعادة زوجته
منار السنا، ثم يتحاورون حول التأثيرات الدينية على حكايتى «حاسب كريم الدين» و«رحلات
السندباد» قبل أن يختم أحدهم الحلقة بمداخلة حول طيف النبى سليمان المهيمن على فضاء
الليالى.
وكان الأستاذ شغوفاً بتتبع ما يسميه النص الأصلى
وتمييزه من القصص المزورة، لكنه اهتم بحديث بستان البحر عن الحكايات المضافة وتمثيلات
الجبال فى ألف ليلة، ومن هنا تنطلق الراوية فى إعادة تخليق مجموعة الجبال فى روايتها
ابتداءً من جبل المغناطيس وأحجاره التى تصيب من تلتصق به بعاهتى الضحك والعمى، إلى
جبل قاف والزمرد ومن قبلهما جبل الحياة ومدينة الشمس التى لا تعرف الليل أبداً، حيث
يشب فيها عملاق يبشر بجمال الليل. إلى غير ذلك من تجليات الخيال الإبداعى النزق فى
الرواية.
النبوءة والرؤية:
توجز الراوية المتألهة العليمة فلسفة الرواية
على لسان أحد النساك من السلالة التى انتشرت فى حنايا الأرض من جدودها وهو يستشرف المستقبل
بنبوءته مؤمناً بإخلاص بالقوى السحرية للكلمات قائلاً «بكلمة واحدة تنهار ممالك وإمبراطوريات،
وبنسج حرف وراء آخر تنتهى حيوات، ووحدها زمردة ستسير بمهارة مغمضة العينين، بين حقول
ألغام الكلمات عارفة خيرها من شرها، كم ابتهل كى يشهد عودة الأميرة، كان سيتعرف عليها
حال تساقط مطر من زمرد حبات خضراء لا يراها إلا المؤمنون بجبل قاف، من عداهم سيرونها
كأى مطر آخر، أعمار أجيال من أسلافه النساك ضاعت فى انتظار هذا المطر الزمردى الآذن
بعودة ابنة ياقوت التى ما إن تتجسد من جديد وتستفيق إلى واقعها وتستعيد تفاصيل ماضيها
حتى ينتصب قاف مجدداً ويتراقص ابتهاجاً. ساعتها ستبعث العنقاء.
وتعود رعية ملك الجبال الناجية إلى موطنها، يواصلون
حياتهم بعد تخلصهم من لعنة الإخفاء والتيه، سيمثل لهم الملك يا قوت كراع سرمدى، فى
حين تحكمهم الأميرة مستفيدة من حكمة قاف وفلسفته، حكمة مؤدية إلى فهم الذات، ومن ثم
فهم العالم».
هذا الوضوح الفكرى فى رؤية الناسك الديلمى يشهد
بأن بانية الرواية فى اعتمادها الأساس الميثولوجى لقصص الخلق وحكمة الأجداد ترى خلاص
الكون فى حكمة الأنثى التى تجيد فهم ذاتها وفهم العالم من حولها، فتصبح النبوءة رسماً
للهدف وتجلية للمقاصد.
ومع أن الكاتبة ترتكز على بعض العناصر المختمرة
فى الضمير الجماعى للثقافة العربية فإنها تجيد تفجير هذه العناصر وشحنها بحيوات نابضة
بطريقة خصبة، وقد مهدت لذلك فى عتبات الرواية بإيراد بعض المرويات التى تهيئ ذهن القارئ
لاختراق هذه العوالم، فتقتطع من تفسير القرطبى ما يشير إلى جبل قاف بأنه «طبقاً لابن
زيد وعكرمة والضحاك جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء، اخضرت السماء منه وعليه طرفا السماء
المقببة، وما أصاب الناس من زمرد فهو منه» لكنها عندما تدفع بإحدى شخصياتها للوصول
إلى جبل الزمرد هذا فى روايتها سرعان ما يتمدد الخيال ويضرب أطنابه العريضة من الغرائب
التى تحدث فيه، حيث يستمر القمر بدراً لأسبوعين متتاليين، وتتصاعد أبخرة ساخنة من بحيرات
الفضة المذابة الموزعة بين أرجاء المدينة، توقفت الطيور فى حدائق قصر الزمرد عن التغريد،
غمر الخوف الأهالى، وقد بدأوا يسمعون أصواتاً غريبة بجمل لا يفقهون كنهها، وذبلت الورود
وتساقطت عن أغصانها.
أما الأميرة زمردة فتقع فى براثن الصمت وتمتنع
عن الكلام»، فإذا جمع أبوها حكماء الجبل انتهوا إلى أن مرد هذه الظواهر هو دخول شخص
غريب إلى فضاء الجبل مما يسبب اختلال نواميسه، وعندما يكتشف شخص بلوقيا الذى اقتحم
هذا العالم تعود نواميس الكون إلى حالتها الطبيعية، هذا الدور الرئيسى للكهانة والسحر
هو ما كان يدير تصورات الأقدمين وأخيلتهم عن الوجود، وهو الذى حلت محله قوانين العلم
فى العصر الحديث، لكن الراوية المستغرقة فى عوالم السحر والكهانة لم تشأ أن تنتبه إلى
ذلك، مع أن وعيها يجمع بين الأزمنة والأمكنة، ورؤيتها تحاول اختراق الغيب دون نور العلم.
أسطورة النساء:
إذا كانت الليالى هى أبرز ما تبقى فى ذاكرة الإنسانية
من رؤية مقنعة تنسب لشهرزاد فإن رواية «جبل الزمرد» تكشف عن نوع من الأسى الكامن فى
أعماق الإنسان من الوجود ذاته، وقد أتيح الراوية أن تجوب أكثر مدن العالم بهجة واشتعالاً
بالفن، لكن أسى الروح كان الانطباع الغالب عليها، فبستان البحر تلتقى بكريم خان فى
فيينا فلا تستحضر ليالى الأنس الشهيرة، بل تقول «أدرك أن ثمة ما هو مأساوى فى فيينا،
فشىء ما فى المدينة العريقة يثير الأسى، إنها تبدو كطلل مجد غابر، كأنما تخبر الآخر
بأن هذا هو ما تبقى من إمبراطورية كادت تحكم أوروبا كلها.
ذكرنى هذا بالأسى المغلف لذكرى أرض أسلافنا والموشوم
على أرواحنا، نحن المنحدرين منها حتى ولو لم نعترف به»، ربما كان ما يترسب من الأسطورة
فى أعماق الوعى الإنسانى، وما يبقى فى حنايا الروح من صولات الخيال قديماً وحديثاً
هو هذه الخميرة من الحزن التى تلون وجدان الإنسان، وخاصة من هن أكثر حساسية ورهافة
وتمركزاً حول العواطف وتقلباتها وهن النساء على وجه التحديد.
وعندما تتطرق الراوية العليمة لحياة نادية -
أم هدير - وهى تتقمصها أحياناً، تركز فى وصفها على شعرها الطويل باعتباره مظهراً لجمالها
الباهر الذى كانت ضحيته، فالحزن كان رفيقها الدائم، وتربط الراوية بينها وبين «ريميديوس»
بطلة رواية «جارثيا ماركيث» التى طارت إلى السماء فى لفتة دالة، تشير إلى أن الكاتبة
عايشت هذه العوالم السحرية وتمثلتها بشدة، لكنها استطاعت أن تنتزع نفسها من قبضتها
المغناطيسية لتهرع لمكنونها العربى المميز والذى يفوق المكنز الأسطورى لأمريكا اللاتينية.
لكن اللافت أن هذا الجمال الذى كان كفيلاً بأن
يسعد أى امرأة لم يعقبه سوى البكاء الذى كانت تعود به نادية كل يوم من المدرسة، على
أننا لا نستطيع أن نفرغ من قراءة الرواية دون أن نشير لبعض المعادلات الرمزية التى
تتمحور حولها، وأهمها جبل قاف الذى انتهكت أسراره وتشرد أهله، وأخذت أجسادهم تجف تحت
الشمس المحرقة، وأرواحهم الملتاهة تحلق حول المشهد الأخير لأميرتهم المخلوقة من ضوء،
ينظرون خلفهم فيفاجأون بالجبل وقد بدأ يفقد لونه الأخضر الزمردى تدريجياً ويصير إلى
بهوت كما لو كان مثل حرباء محنطة..
فى الصباح أفاقوا ليجدوا أن كثيرين منهم قد شنقوا
أنفسهم فوق أغصان أشجار المانجو وبقيت أجسادهم الخالية من الحياة معلقة كثمار عملاقة،
كانوا فى معظمهم من الفريق الذى تشبثت أنظاره حتى آخر لحظة بقاف وماضيه» هل نستخلص
الدلالة الأخيرة للرواية من هذا المشهد المأساوى لشنق النفس عند التعلق بأهداب الماضى
والموت أسى عليه، أم نلتمس معنى آخر فى حياة «مروج» ابنة حكيم الجبل التى لم نعرض لها
لكثرة تفصيلات الرواية وصعوبة الإحاطة بها فى هذا المقال، وقد خرقت مروج قانونا يحرم
التدوين على المرأة مع أن النساء أقدر على الوصف والتحليل ووضع التفاصيل فى سياقها
الصحيح، وهل كان انتهاك هذا الشرط الافتراضى سبباً فى لعنة الجبل أم كان وسيلة للتحرر
من أغلال الماضى؟ وأيا ما كانت الأسئلة التى تثيرها رواية «جبل الزمرد» فهى بلا ريب
عمل إبداعى فائق وجسور، يطرح أخيلة غرائبية، ويطمح إلى تشكيل
شعريته الخاصة، ويشهد
باقتدار كاتبته على أن تكون حفيدة لجدتها صانعة الأساطير الكبرى.
نقلاً عن المصري اليوم
No comments:
Post a Comment