Thursday, May 5, 2016

إعادة المجد لفكرة عابرة



منصورة عز الدين

"إنها واحدة من مهمات القصة: أن تعيد حكاية العالم على نحو يليق بأحلامنا." هذا ما كتبه الكاتب العراقي لؤي حمزة عباس في مقدمة كتابه "حامل المظلة.. قصص وحكايات" الصادر عن دار ميزوبوتاميا.
وفي "الكتابة.. إنقاذ اللغة من الغرق" كان لؤي قد أشار إلى الكتابة بوصفها تغييراً للعالم؛ أي تلاعباً بمكوناته وإضفاء رتوش ولمسات تحوله إلى آخر سحري أو حلمي مفارق لأصله الواقعي دون أن يكون منبت الصلة به بالضرورة.
هاتان الإشارتان إلى الكتابة كإعادة حكاية العالم وكتغيير له من المفاتيح الأساسية لفهم عالم لؤي حمزة عباس وللاقتراب من رؤيته للفن في علاقته بالواقع.
لا يدَّعي صاحب "مدينة الصور" أنه يخترع عالماً موازياً، ولا يستعرض على قارئه بألعاب وحيل مبالغ فيها، بل يوهمه بأن ما يقوم به بسيط وعابر؛ مجرد تلاعب بمكونات الواقع ومفرداته.
قصص ونصوص "حامل المظلة" واقعية تماماً في معظمها، ومع هذا تشوبها مسحة مفارقة للواقع، ثمة غرائبية ما يصعب الإمساك بمصدرها، إذ تحافظ على غموض ومراوغة يليقان بالفن.
بعض القصص تزيد فيها المسحة المفارقة للواقع مثل قصة "القرية" التي أراها واحدة من أكثر قصص الكتاب تميزاً، وقصة "يتنقل في الليل"، وبعضها يقترب من منطق الحكاية في البساطة والتجريد، ما يوضح للقارئ سبب اختيار المؤلف "قصص وحكايات" عنواناً فرعياً لمجموعته.
في "حامل المظلة" نجد أنفسنا أمام نزيل فندق يجلس إلى مائدته المعتادة في ركن المطعم لمراقبة حركة النُدّل والتدقيق في وجوه النزلاء حتى حفظ طبائع كل منهم. ورجل تتلخص وظيفته في مرافقة نزلاء الفندق، حاملاً المظلة لهم، في المسافة بين الرصيف ومدخل الفندق، وعواد العامل في سينما نادي الميناء. تتعدد الشخصيات والأفكار، ويظل لؤي حمزة عباس محافظاً على نبرته الخافتة، مؤمناً بدور الكتابة في "إعادة المجد لفكرة عابرة".
الكاتب، في حالته، متقمص لروح العالم، هكذا يمكنه أن يكون حبة رمل وسمكة في نهر و"طائراً محلقاً ينظر للنيران البعيدة تومض وتختفي." أو كما كتب قبلاً: "قرناً بعد قرن لم أكن غير كرة المعدن النارية تُصبُّ على مهلٍ لترمى بالمنجنيق على الأسوار. قرناً بعد قرن لم أكن غير السور والمنجنيق."
على النحو نفسه كان الراوي في قصة "أعمى بروجل" هو أعمى بروجل وعميان بروجل لم يكونوا سوى بروجل نفسه.. الفن، وفق هذا المعنى، هو أن يصير الفنان آخرين؛ أن تصير الذات آخر.
ويشبه هذا، على نحو ما، ما سبق وأشار إليه لؤي في "الكتابة.. إنقاذ اللغة من الغرق" من محو الكتابة للكاتب، من إزاحتها لحضوره لصالح حضورها. والحقيقة أن كتاب "الكتابة..." يعد المفتاح الأهم في فهم عوالم لؤي حمزة عباس، كما أن العلاقة بينه وبين "حامل المظلة" متينة ومتشابكة بحيث يبدو الكتابان على اختلافهما مكملين لبعضهما بعضاً.
في كتابة حمزة عبّاس، نشعر أن الحرب ماثلة دوماً في الخلفية حتى لو لم يشر الكاتب صراحةً إليها، لكنها ليست الحرب المألوفة بأهوالها ومآسيها، بل تمثُل كفكرة عابرة، بحيث لا نرى نيرانها المستعرة، بل ظلها الأشد خفوتاً وأثرها في النفوس.

التأثيرات الطاوية والبوذية ماثلة، دوماً، في نصوص لؤي حمزة عبّاس، كما تلوح آثار مدن إيتالو كالفينو اللامرئية بين ثنايا نصوص "الكتابة.. إنقاذ اللغة من الغرق" وتخايلنا من بعيد في غير نص من نصوص "حامل المظلة"، غير أننا هنا لسنا أمام تأثر بليد، بل حوارية إبداعية خلّاقة، تذكرنا بأن صاحب "إغماض العينين" هو أحد أهم كتاب القصة المعاصرين.

الحلقة الأولى من زاوية جديدة أكتبها في "أخبار الأدب" بعنوان "كتاب".

No comments:

Post a Comment