Thursday, May 12, 2016

آورا: قصيدة قوطية






منصورة عز الدين


في روايته القصيرة البديعة "آورا"، وعبر اللجوء إلى ضمير المخاطب، ينجح كارلوس فوينتس في وضع مسافة مطلوبة بين قارئه وبين شخصياته؛ مسافة تكرِّس حس الغرابة وتوحي للقارئ بأنه يتابع مشاهد تتالى أمامه على سطح مرآة يكسوها بخار الماء، ما يسم العمل بملمح شبحي يتلاءم مع جوه الملتبس.

في "النوفيلا"، الصادرة عن قطاع الثقافة بأخبار اليوم بترجمة لصالح علماني، يقترن الحب بالموت والشباب بالشيخوخة على نحو فاتن، ويخطو فوينتس على حافة أدب الرعب والتشويق دون التنازل عن شعرية اللغة والعالم.

يقرأ فيليبه مونتيرو إعلاناً يطلب مؤرخاً شاباً لآداء مهمة مقابل مبلغ مرتفع، يبدو الإعلان كأنه موجه له شخصياً، فيقرر – في النهاية - الذهاب إلى العنوان المذكور، حيث السيدة كونسويلو؛ أرملة جنرال رحل قبل ستين عاماً، وابنة أختها الشابة "آورا"، ويعرف أن المهمة المطلوبة هي تدقيق مذكرات الجنرال الراحل وإعدادها للنشر.

بنعومة شديدة يسرِّب لنا فوينتس منذ جملته الافتتاحية، أن ثمة غرابة ما تكتنف المسألة برمتها، فمن المفترض أن مركز المدينة القديم غير مأهول بالسكان، والبيت شبه مظلم دائماً باستثناء أضواء مخاتلة تتلاعب بوعي البطل. في الأركان تسرح الفئران، وعبر كوَّة في الحائط يراقب فيليبه قططاً تلتهم النار أجسادها، في الحديقة الخلفية!
وحين يلتقي بالعجوز كونسويلو لأول مرة ويمد يده نحوها، لا يلمس يداً أخرى، بل أرنبها الأليف "ساغا"، فنتهيأ لفكرة أنه على وشك ملامسة الوهم، وملاحقة سراب ما.

ينتبه فيليبه إلى محاكاة "آورا" لحركات السيدة كونسويلو، كأن الأولى مجرد انعكاس للثانية في مرآة سحرية تمحو أثر الزمن وتعيد الشباب، لكن لاحقاً ثمة ما يشير إلى أن آورا قد تكون المرآة نفسها لا مجرد انعكاس يخلِّد وهم الشباب والجمال لدى العجوز المسكينة: "آورا سجينة كمرآة". كما أننا في لحظة ما، لا نقدر على تمييز أي المرأتين الأصل وأيهما الانعكاس في لعبة المرايا البارعة هذه، فحين تذبح "آورا" جدياً وتسلخه، يُفاجَأ فيليبه بأن العجوز، في غرفتها، تحاكي حركات الشابة، كأنها تسلخ حيواناً لا مرئياً.

تيمة القرين مركزية في كتابات فوينتس عموماً، وهي هنا لا تتوقف عند المرأتين، ففيليبه حين يرى الصور القديمة للعجوز وزوجها الجنرال، لا يكتشف فقط أن المرأة في شبابها هي نفسها آورا، بل يُفاجَأ  بالتدقيق في وجه الجنرال بأنه ينظر إلى نفسه في مرحلة عمرية متقدمة!

هذا الاكتشاف المدوِّخ يمنح جملة: "ستتعلم الكتابة بأسلوب زوجي." - التي قالتها كونسويلو له في البداية – دلالات أخرى: سيحل زوجي فيك! أو أنت هو، وهو أنت! هو الغائب؛ الحاضر دوماً حتى على مائدة الطعام المعدة، باستمرار، لأربعة أفراد لا ثلاثة، كأننا أمام مربع لا نرى سوى ثلاثة من أضلاعه.

في "آورا" يوجه فوينتس، الكاتب الإندروجيني بامتياز، صفعة لأسطورة الرجل المهيمن؛ فالمرأة هنا تسيطر على خيوط اللعبة، أما الرجل فمُتحكَّم به، عالق في فخ لا يفهم أبعاده. لذا من الطبيعي أن يبدأ الكاتب المكسيكي عمله باقتباس من جول ميشليه، يقدم المرأة باعتبارها "أم التخيل، أم الآلهة".


ربما تكون "آورا" أجمل عمل أدبي مكتوب بضمير المخاطب، كما أنها تُذكِّر - على نحو ما - برائعة كاواباتا "منزل الجميلات النائمات"، إذ رغم اختلافات لا تُحصى بين العملين، تجمعهما الرهافة نفسها، والدخول إلى بيت لا يشبه غيره، وثنائية الشباب في مواجهة الشيخوخة، كما أن كلا العملين أشبه بقصيدة موجزة ومحكمة؛ وإن كانت "آورا" قصيدة قوطية تخطف الأنفاس!

زاوية "كتاب"- أخبار الأدب.

No comments:

Post a Comment