Sunday, May 8, 2016

عيون محدقة في الفراغ





 منصورة عز الدين


أهو موجود حقاً؟ ذلك الولد الذي قابلته خمس مرات على الأكثر وأحادثه تليفونيا مرة كل أسبوع. أحرص على وضعه في ركن قصي من ذاكرتي، وأتحدث عنه كما أتحدث عن شخصية قصصية، وأرتعب حين يذكرني أحد معارفه بوجوده الواقعي.

أتأمل الجدران العارية لحجرتي الضيقة، وأختلس نظرات قلقة للمرآة، ثم تتجه يدي بلا وعي للهاتف، أرفع السماعة، وأضغط على سبعة أرقام أحفظها جيداً، أُطمئن نفسي بأن ما من صوت سوف يرد، لكن ابتسامتي تتلاشى، وأكاد أتوقف عن التنفس حين يأتيني صوته بلكنة أقرب للسوقية:
-         آلو.
-         ..............
-         آلو.. آلو.
-         .............
-         رد يا حمار!

في فندق أربعيني بوسط البلد رأيته مع مجموعة من أصدقائي، قال إنه يعرفني منذ وقت بعيد للغاية، وإنه ينتظرني منذ أن سمع باسمي، وابتسم بغموض، فعرفت أن ثمة قصة غريبة تنسج خيوطها، وشعرت بخوف من الثقة التي يتحدث بها.. تلك الثقة التي تبدو وكأنها تنبع من امتلاك الغيب.

الولد الذي انتظرني طويلا، أخبرني أن لي عينيّ نمرة متوحشة وعقلية قناص، فتذكرت صورة النمر التي أهداها لي أبي في عيد ميلادي التاسع، وتمرينات التصويب ببندقيته القديمة.
بعد دقائق انسحبت والولد. سرنا في الشوارع وأنا أحمل باقة ورود حمراء اشتراها لي، بينما يحكي هو عن لحظات رائعة عاشها وأخرى يتوقعها. كنت أشعر بخفة لا نهائية، واشتهي الرقص تحت الأضواء في ميدان واسع خالٍ تماماً، لكنني حين نمت وحدي في آخر الليل، حلمت به واستيقظت صارخةً، ولم أبح لأحد بما رأيت.

(في شارع أعرفه جيداً، أجلس بمقهى قديم، أحتسي قهوتي، ويدي ملطخة بالدماء، وفي شقة بالبناية المقابلة أراه يرقد غارقاً في دمائه، وببرود قاتل محترف كنت أنتظر قدوم الشرطة.
في مرة أخرى رأيت حبلاً غليظا يلتف حول عنقي ورجالاً يرتدون السواد يرمقونني بكراهية فيما تتابعني عيناه بلا أي تعبير).

كان يقف في منتصف المسافة بيني وبين النوم.. بيني وبين البنت التي أعرفها بنظراته الغامضة وابتسامة متشفية لم أخبرها فيه من قبل. يأتيني في الأحلام بصراخ، وبقع دماء تتسع، وخناجر تطير باتجاهي في الفضاء بيننا.

بعد أن رأيت نفسي مراراً في ذلك المقهى القديم، قررت أن أبحث عنه، ووجدته بالفعل في شارع 26 يوليو ببولاق أبو العلا، وهالني التطابق بينه وبين تخيلي له.
اعتدت التردد على المقهى يوميا بعد الانتهاء من عملي، ومراقبة شرفة بعينها في الطابق الثالث من البناية المقابلة، وكنت على يقين من أن الولد غير موجود فيها لسبب بسيط هو أنه يسكن في حلوان، وكان هذا هو الشيء الوحيد الذي يمنع عني الجنون الذي كنت أقف على حافته. مرات عديدة قررت أن أمتنع عن الاتصال به هاتفياً، ولأسباب مبهمة كنت أعجز عن تنفيذ قراراتي، كأن هناك شيئاً خفياً يدفعني إليه، وليس عليّ إلا الطاعة والامتثال لمصير محتوم.

أسمع صوته الناعس، وأتصنع حوارات عادية كالتي تدور بين الأصدقاء، يجيبني بهدوء، فأردد لنفسي أن ليس ثمة ما هو غير طبيعي، وأن الأمر لا يخرج عن كونه علاقة تقليدية من تلك التي تربطني بآخرين.

يحكي الولد عن أمه وأخته وخلافاته مع أبيه، وعندما أشعر أنني على وشك التعاطف معه أنهي المكالمة بكلمات باهتة فراراً من تورط محتمل معه في مشاعر من أي نوع.
كثيراً ما اتصلت به لأجد أن لا أحد يرد، فأبتسم بظفر، وأقول إن كل ما سبق كان أوهاماً، وكي أؤكد رأييّ هذا أداوم على الاتصال إلى أن يهدم فرحتي بصوته الذي لم يتخلص بعد من أثر النوم. ينطق باسمي قبل أن أتكلم، دفعني هذا إلى الاعتقاد بأنني الوحيدة التي تتصل به هرباً من اعتقاد آخر كان يلح عليّ بأنه يعرف مواعيد اتصالي به حتى قبل أن أقررها أنا، وأنه يعلم كل ما أفكر به، بل ربما هو الذي يدفع هذه الأفكار لعقلي.

في منتصف مكالمة ما قلت دون مقدمات:
-         تعرف "أم قويق"؟
-         أيوه.. دي نوع من البوم.
-         جدتي كانت بتقول إن "أم قويق" لما تصرخ بالليل بتبقى عايزة تشوف دم إنسان، ولما ده بيحصل، بتسكت وتسيب المكان لمكان تاني. تعرف بأه إن فيه "أم قويق" ساكنة على شجرة جنب شباك أوضتي، وكل ليلة من واحدة لاتنين تبدأ تصرخ.
-         لا يا شيخة؟
-         والله.. من 5 شهور بالظبط، يعني من أول ما عرفتك.
-         إيه اللي بتقوليه ده؟ ويا ترى على كده عايزة تشوف دمي ولاّ دمك؟
قال جملته الأخيرة بتلقائية شديدة وهدوء مرعب، فتراجعت قائلة:
-         إنت صدقت ولا إيه؟ دا أنا كنت باشتغلك.
-         ما أنا بأقول إيه اللي حصل لك ما كنتِ عاقلة.

تعلمت ألاّ أتكلم أبداً عما يدور في ذهني خوفاً من أن يزداد رعبي من كلمات قد يقولها بعفوية ودونما قصد. على رغم مكالماتنا الهاتفية الطويلة، التقينا مرات قليلة جداً تحدث بالصدفة، نتعامل خلالها بحذر وقلق شديدين، ويسعى كل منا لإنهائها بسرعة كأننا شخصان آخران، أو كأن هناك اتفاقاً ضمنياً على قواعد محددة للعب.

كنت أهرب من حقيقة وجوده الفعلي أمامي، فعبر الهاتف كان يمكنني الارتكان لاعتقاد خافت بعدم وجوده، أما وأنا أراه أمامي يعد هذا الاعتقاد ضرباً من الجنون. آخر مرة التقيته فيها كانت مصادفة أيضاً بميدان مصطفى كامل بوسط البلد، سلّم عليّ فقط وغادرني مسرعاً كأنه مطارد من أشباح لا مرئية.
وقفت لبرهة في الميدان وكان أمامي عدة شوارع، اخترت أحدها لأعبره. في لحظة ما وجدت نفسي في شارع غريب عليّ خالٍ من العابرين، وبدت بناياته أكبر مما ينبغي.

في الحال قفز وجهه إلى ذهني وفكرت لأول مرة في أن ثمة شيئاً ما غير بشري في نظرته، تسارعت دقات قلبي وعدوت بأقصى سرعة أقدر عليها. كنت أشعر أن عيوناً مرعبة تحدق فيّ من الخلف.. أصبح الشارع طويلاً لدرجة أنني بلغت نهايته بعد أكثر من ساعة، وخلافاً للمنطق وجدتني أمام تمثال مصطفى كامل الذي بدأت رحلتي من أمامه.

في تمام الواحدة بعد منتصف الليل كنت قد وصلت لموقف عبد المنعم رياض، انتقلت عيناي بين المنتظرين فلم ألمحه. ركبت الميكروباص، ونظرت من النافذة، لم أفق إلا على لكزة جاري وهو يحثني على دفع الأجرة، ناولتها له دون أن أراه، بعد دقائق نظرت نحوه فوجدت ملامح غاية في الحدة وعينين مخيفتين تحدقان فيّ. استجمعت كل ما تبقى داخلي من شجاعة كي لا تنكسر نظرتي أمام العينين شديدتي التركيز والعمق.

فجأة صرخ في السائق "على يمينك"، ونزل من العربة بسرعة، وسار في الاتجاه المعاكس، بينما أخذت في الارتعاش، وأثناء النوم حلمت بعيون كثيرة ملتهبة مصوبة نحوي، بينما أرقد عارية على فراشي غير قادرة على النهوض رغم محاولاتي المستميتة.


في الصباح التالي، لم أذهب إلى عملي، وضعت سكيناً حادة - كنت قد اشتريتها منذ فترة - في حقيبتي وخرجت.

* قصة قديمة من مجموعتي القصصية الأولى "ضوء مهتز" - دار ميريت - القاهرة - 2001.

No comments:

Post a Comment