منصورة عز الدين
مثّلت رواية "أورشليم" للروائي
البرتغالي جونسالو إم. تافاريس مفاجأة مدهشة لي، مع أني بدأت قراءتها متوجسة من
المديح البالغ لها ولكاتبها، فكثير من الأسماء الشهيرة مُبالَغ في تقديرها، وكثير
من الأعمال التي تثار حولها ضجة، لا تكون بالضرورة بالجودة المرجوة.
يختلف الأمر طبعاً حين نجد كاتباً بحجم
ساراماجو بين المتحمسين لتافاريس، لكن قراءة جملته: "جونسالو إم. تفاريس
مرحلة يقف عندها الزمن، هناك مرحلة سبقته، وأخرى تلته." تجعلنا نظن أنه قد جنح إلى المبالغة وأخذته الحماسة
قليلاً.
الفيصل، في هذه
الحالة، هو القراءة والحكم دون وسطاء. وبقراءة رواية تافاريس أقول إنني لم أقرأ
كاتباً مقلقاً مثله من مدة طويلة.
"أورشليم" رواية عن عادية الشر
وسهولة العنف، أجواؤها صادمة وشخصياتها غريبة ومألوفة في آن. يحاول جونسالو
تافاريس في روايته كتابة تاريخ الرعب. حنا أرنت
ليست بعيدة عن الرواية؛ يستشهد بها أحد الأبطال (ثيودور) في بحث ينجزه عن العلاقة
بين التاريخ والوحشية، ويخايلنا طيفها بين السطور.
لا ينشغل ثيودور (وكذلك تافاريس) بأهوال الحروب
ولا بالمواجهات بين جيشين، بل بعنف البشر العاديين تجاه بعضهم بعضاً، القوة في
مواجهتها للضعف، فالحرب بحسبه "لا تعد صنفاً خالصاً من الرعب. أدرس الحالات
التي يقف فيها أحد الأطراف عاجزاً دون مقدرة – أو حتى رغبة – في إلحاق الضرر
بالطرف الآخر، الحالات التي – دون مبرر يذكر – سحق فيها القوي الضعيف."
ما يهم ثيودور ومن خلفه تافاريس هو الشر
المجاني والأذى غير المبرر. شر أن يقتل شخص ما طفلاً معاقاً بلا رحمة، ثم يشفق على
رجل وامرأة لا يعرفهما بعدها بقليل ويساعدهما، ويقف ليمزح معهما كأن شيئاً لم
يحدث، ويستمر المزاح حتى يأخذ منه الرجل المسدس ويقتله دون سبب. القتل في هذه
الحالة مزحة أو فعل بشري يكاد يكون تلقائياً كالتنفس.
كل شخصيات الرواية متورطة في شرور ما.
ثيودور يوقع ورقة تسمح بعزل زوجته المريضة عقليا ميليا عن بقية المرضى لمدة عام،
ويذهب في الحال للبدء في إجراءات الطلاق رغم وعده لمدير المصحة جومبرز بأنه لن
يتخلى عنها بعد التوقيع على طلب عزلها.
وجومبرز يحول المصحة العقلية إلى ما يشبه
معسكر اعتقال؛ إذ فيها يتم استئصال رحم ميليا، دون علمها، والتسبب لها في مرض قال
الأطباء لاحقاً إنه سيميتها خلال عامين.
وميليا، رغم فصامها، توصف بأنها اكتسبت
مهارة إذلال الرجال وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وهينريك يدفعه خوفه إلى العنف
والقتل وإرنست يقدم على القتل في غمضة عين دون سبب ويهرب تاركاً ميليا لمصير قاتم.
حتى المرضى العقليين من نزلاء المصحة أشرار
بطريقة ما من وجهة نظر جومبرز، فمفهومه للجنون لم يكن طبياً بل أخلاقياً، فالجنون
بالنسبة له هو "نقص بسيط في الأخلاق – سواء مؤقت، وبالتالي يمكن علاجه، أو
قاطع بلا نهاية، ولا يمكن علاجه. وفق ما يراه جومبرز، الفارق بين، ما يسمى،
الإجرام، وبين، ما يسمى، كذلك الجنون، تصنيفي: لأنهما أنماط من الجنون، وبالتالي،
نمطان من انعدام الأخلاق."
"البشر العاديون لا يعرفون أن كل شيء
ممكن." جملة عابرة ترد في الرواية منسوبة لأحد
الناجين من معسكرات الاعتقال النازية، لكنها – في رأييّ – بين المفاتيح المهمة
للعمل، إذ وحدهم من غرقوا في جحيم الجنون أو الخوف أو التعذيب، يدركون أن كل شيء
ممكن، وأن طاقة الشر "العادي" والمجاني الكامنة في البشر يمكنها، إذا
وجدت المحفز أو الظرف المناسب، أن تصل إلى حدود غير مسبوقة.
واللافت أن هذه الجملة ترد بعد الفصل
الخامس عشر مباشرةً، وهو الفصل الخاص بكتاب "يوروبا 02" بتفاصيله
الكابوسية حيث يعذِّب الضحايا بعضهم بعضاً، إذ عليهم فقط اتباع الأوامر:
"ستكون الضحية أو المُعذِّب لا شيء آخر، وفي النهاية ستتمنى لو أنك أنت
المُعذِّب لا الضحية".
***
أحداث "أورشليم" ليست بطلة العمل، بل تفاصيله ومنمنماته الصغيرة، والأفكار التي يبثها تافاريس بين ثناياه والشخصيات المفزعة والمفزوعة. الحكاية نفسها، لو حكاها لي أحد، بمعزل عن الرواية، لما حمستني لقراءتها، كنت لأجدها تراجيديا مبالغا فيها وميلودراما فاقعة، لكن السحر كله يكمن في كيفية تقديمها، وكيف خرج منها المؤلف بهذا العمل المتميز، مخلصاً إياها من الميلودراما والسنتمنتالية.
تجري الأحداث الرئيسية في ليلة أرق. الأرق
المصحوب بألم أو خوف أو رغبة هو دافع الشخصيات للخروج إلى شوارع المدينة قبل
انبلاج النهار، وبالتوازي مع ليلة الأرق هذه أو بالتداخل معها نتعرف على ماضيهم
والعلاقات الرابطة بينهم. لا يسمي تافاريس مدينته رغم أن روايته تحمل اسم واحدة من
أشهر مدن التاريخ، والتي يرد ذكرها فقط على لسان ميليا بجملة مستعارة من سفر
المزامير: "إن نسيتك يا أورشليم تنسى يميني."، قبل أن تحولها لاحقاً
إلى: "إن نسيتك يا جورج روزنبرج تنسى يميني"! في إشارة للمصحة العقلية
التي يديرها جومبرز، لتتحول الجملة من تعبير عن الحنين إلى أورشليم والتعهد بعدم
نسيانها خلال السبي البابلي، إلى تذكر مكان مثّل جحيماً شخصياً لميليا، ليصبح
قسمها أشبه بـ: "إعلان حرب، أو نبوءة يائسة".
يبقى القول إن رواية جونسالو إم. تافاريس
الصادرة مؤخراً عن دار مصر العربية بترجمة لكل من: أحمد صلاح الدين ومحمد عامر، رواية
مهمة وتثير في نفس قارئها أسئلة عديدة لا عن ما تطرحه من أفكار فقط بل عن فن
الرواية وعن الكتابة عموماً. شخصياً تساءلت بينما أقرأها عن مفهوم الجدة، وكيف
يمكن لكاتب عبر أفكار وثيمات وتقنيات مطروقة أن يحقق فرادته على هذا النحو،
والغريب أن تافاريس كأنما يجيب على سؤالي ذكر، في حوار معه، مقولة أؤمن بها
تماماً: "أكره فكرة أن يكون كل شيء تفعله جديداً. هذا سخيف. فقط شخص لا يعرف التاريخ
ولم يقرأ كثيراً يجد كل شيء جديداً ومبتكراً."
لكن ما لم يقله
تافاريس، هو أن الأصالة والفرادة متاحتان مع هذا، كما في حالته، رغم أنف المهووسين
بـ"جدة" يرونها كذلك لأنهم لم يقرأوا بما يكفي.
زاوية كتاب.. نقلاً عن جريدة أخبار الأدب..