منصورة عز الدين
في كتابه الأول "اضطرابات وراثية..
قصص، حكايات رمزية ومشكلات" يقدم الكاتب الأمريكي آدم إرليك ساكس 117 قصة
قصيرة تتمحور حول الآباء والأبناء وتتسم بالسخرية والعبث واللعب على المفارقة دون
التخلي عن العمق، وبالحس الفلسفي المغلف لكثير من القصص دون أن يقترن هذا بالضرورة
بالجدية أو التعقيد.
في "اضطرابات وراثية" نجد أنفسنا
أمام 117 تنويعاً على لحن العلاقة بين الآباء والأبناء وما يكتنفها من تعقيدات
ورغبات دفينة في القتل الرمزي أو الفعلي، وبالأساس لعنة أن يرث الأبناء الآباء،
لكن رغم قتامة الموضوع يقاربه ساكس بطريقة تحوله، بكل تنويعاته، إلى طرفة غارقة في
اللامعقول، والأكثر طرافة أن دار النشر (ريجان آرتس) أصدرت الكتاب يوم عيد الأب في
مايو الماضي.
شبه البعض الكاتب
الشاب ببورخيس وقارن آخرون بينه وبين كافكا، ووصف أحدهم هذه المجموعة بأنها
إسكتشات "ساترداي نايت لايف" مكتوبة بقلم كافكا، لكن ساكس نفسه يعتبر
النمساوي توماس برنهارد؛ أستاذه الأول والكاتب الأكثر تأثيراً عليه.
في كتاب ساكس الأول
هذا، على القارئ ألّا يبحث عن شخصيات بالمفهوم التقليدي أو عن حبكة أو تصاعد
درامي، الأفضل أن يقرأ النصوص ويتفاعل معها بعيداً عن القوالب الجاهزة أو القواعد
المألوفة. بعضها بالفعل أقرب لإسكتشات ضاحكة، ومعظمها يتسم بحس عالمي على الأقل
لجهة تنوع جنسيات الأبطال والمدن التي ينتمون إليها أو يعيشون فيها، لكن هذه المدن
في معظم الحالات مجرد خلفيات تضاعف من طرافة الأقاصيص ومن المسحة التجريدية المغلفة
لها.
في قصة "شاعر
الطبيعة" شاعر نمساوي ينتمي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كافح طوال
حياته لتحرير شعره من ظل أبيه الذي كان ضابطاً نازياً، لكن المشكلة أن كل أشعاره
يتم تأويلها من جانب النقاد على أنها تأملات في جرائم الأب، رغم أن الابن كان يكتب
فقط عن الطبيعة: الجبال، الصدوع والسراخس. ناقد ما لاحظ الغياب التام للناس،
التاريخ، السياسة والآباء عن قصائد الشاعر، ورأى في هذا الغياب علامة على أنهم، في
الواقع، موضع اهتمامه الأول، أو الفراغ المسكوت عنه في قلب سراخسه! ومع ديوانه
الرابع، المنشغل كالعادة بالطبيعة وحدها، تساءل ناقد عما إذا كان لدى الشاعر أي
شيء آخر ليكتب عنه غير جرائم والده!
على مدى الثلاثين
عاماً التالية لم ينشر الشاعر شيئاً، وبدأ مشروعه الأدبي الأكثر طموحاً، فبما أن
كل وصف للسراخس تم تأويله كتأمل غير مباشر في جرائم الأب، قرر كتابة قصيدة ملحمية
عن جرائم أبيه على أن تكون في باطنها وصفاً غير مباشر لسرخسة. اختار واحدة معينة
تنمو في غابة قريبة من بيته، لم يكن وصفها صعباً، تمثلت الصعوبة في كيفية فعل هذا
دون أي إشارة للغابة أو السراخس، وأن يستخدم فقط كلمات تحكي كيف أن والده قتل 150
يهودياً مجرياً، ومع هذا يرسخ في ذهن قارئه، حين ينتهي من القراءة، صورة دقيقة
وتفصيلية لنبتة سرخس قريبة من منزله.
أراد من قارئه أن
يفكر: "قرأت لتوي عن الهولوكوست. لماذا تتراءى لي نبتة السرخس هذه؟ ماذا حدث
لي؟"
مات الشاعر في
الليلة السابقة على نشر ديوانه؛ غير واثق إن كان قد نجح في مسعاه أم لا، ولم يقرأ
مراجعة نقدية وصفت قصيدته الملحمية عن جرائم والده بـ: "تجسيد أدبي ممتاز
لنبتة سرخس!"
من نماذج الأقاصيص
الأقصر في المجموعة، أقصوصة "ندم": "فعل كل شيء ممكن لتفادي
الالتحاق بمهنة والده. درس شيئاً مختلفاً تماماً. انتقل إلى مكان بعيد جداً عن
البيت. ومع هذا، الآن، بعد سنوات، لا يمر يوم دون رؤيته لكلبة حبلى والتفكير:
أتمنى لو كان بإمكاني مساعدتك. (كان والده أخصائي توليد كلاب.)"
وأقصوصة
"كلمات أخيرة": "أصيب والد صديقي ثيو، أستاذ التخطيط العمراني،
بجلطة خطيرة، لم يعد بعدها قادرًا على النطق سوى بكلمتين: "ثيو"
و"بنية تحتية". خلال الشهر الأخير في حياته، كانت هاتان الكلمتان هما
فقط ما ينطق به من كلمات.
ثيو الذي لطالما
شعر بأنه مثَّل خيبة أمل فظيعة لوالده، كان متأثراً بشدة لأن اسمه كان على لسان
والده المحتضر. اعتبر هذا علامة على أن أباه قد سامحه وتقبله أخيراً.
بعد سنوات، وكلما
ناقشنا هذه المسألة، كنا ببساطة نتجاوز حقيقة أن والده لم يكن يقول
"ثيو" فقط، بل "بنية تحتية" أيضاً."
وعلى هذا المنوال
العابث ينتقل آدم إرليك ساكس من قصة إلى حكاية رمزية أو مشكلة، مستعرضاً بسخرية
أوجه عبء الوراثة، ومتلاعباً بالمصطلحات والمفاهيم الفلسفية كأن هذا التلاعب غاية
في حد ذاته. في قصصه الطريفة والعميقة ، في معظمها، يبدو آدم إرليك ساكس كأنما
يقول لنا: نحن محكومون بالعبث، وعلينا التكيف مع هذه الحقيقة وتعلم التعامل على
أساسها، والسخرية منها بعبث مضاعف.
زاوية "كتاب".. نقلاً عن "أخبار الأدب".
No comments:
Post a Comment