Saturday, July 6, 2019

أخيلة الظل لمنصورة عز الدين.. رواية الوعي والذاكرة



د. ممدوح فراج النابي


                قليلة هي الأعمال التي تبتغي الكتابة وسيلة لها، بل ونادرة جدًّا هي أعمال المرأة التي تشتغل بآليات الكتابة وحرفيتها. فقد عمدت المرأة في معظم نتاجاتها لأن تجعل من الذات موضوعًا لها، فمالت في كثير منها إلى ما يمكن وصفه بروايات اجترار الذات، وفي بعضها سعت إلى مقاومة بطريركية الرجل؛ لذا تأتي أهمية هذه الرواية الصادرة مؤخرًا "أخيلة الظل" (إصدارات دار التنوير 2017) للكاتبة المصرية منصورة عز الدين. من كونها مشغولة بهاجس الكتابة أولا وأخيرًا. فهي رواية تجريبية تنتمي إلى الروايات الكتابية حسب مصطلح آلان روب جرييه، التي تتوسّد بقارئها كمشارك فيها. فتضعنا السَّاردة التي تتبادل الأدوار مع الشخصيات الرئيسية، كاميليا، وآدم، وأولجا في لعبة افتراضية، تذيب فيها أوهام التخييل والواقع معًا. ونتساءل معها ومع شخصياتها: هل ما نعيشه نحن هو مجرد حكاية مرسومة سلفًا؟ أم واقعنا لا يفرق عن حكاية متخيّلة، نسير ونتحرك بذات الأدوار التي رسمها لنا ساردون مجهولون؟ لِمَ لا، ما دامت الكتابة في جوهرها كما جاء على لسان كاميليا "مطاردة للسراب، ولعب معه، بل واختراع له، تحويل الواقعي إلى سراب مخاتل، والإيهام بأن السراب حقيقة ماثلة تنتظر أن نرتوي بمائها المتطاير".

الذاكرة والوعي

                تبدأ الساردة الرواية التي تتبادل مواقعها مع آخرين ولا نعرف مَن الراوي الأصلي: هل هو كاميليا أم أولجا الكاتبة الروسية، أم سارد خارجي مُلم بالتفاصيل، بإدخالنا في هذه اللعبة الافتراضية، حيث تستحضر قارئها معها: "لننس مؤقتا كافكا ومتحفه والفلتافا وبراغ، لنترك أولجا شاردة أمام حاسوبها، وساندور محدقًا في أصابعه، وروز محبوسة في زنزانة من اللون الأرجواني، وفلاديمير سائرًا بلا هدف. ولنتسحضر رجلاً وامرأة جالسين على مقعد خشبي وأمامهما بئر".(ص، 81) في استعادة لصيغة سردية حاضرة في تراث سردي قديم، كما تمثلته ألف ليلة وليلة، وأيضًا بحكاياتها المتوالدة والمتشابكة، فتتردد قصص داخل النص كقصة "آميديا" التي تكتبها أولجا وهي قصة طفلة ناجية من مذبحة، وقصة "ناسك في غابة" التي كتبها آدم وأهداها إلى كاميليا ثم قصة كاميليا "حيث السحب منخفضة" كرد على قصة آدم؛ وهي تجلس على مقعد خشبي "في الباحة الأمامية لبيت على ضفة "الفلتافا" قريبًا من جسر تشارلز" في مكان وسيط هو "براغ" تجمع فيه بين سيدة قاهرية ورجل من سياتل، لا جامع لهما سوى المكان والمهنة وانثيال الذاكرة. وتنتهي الرواية بهما في ذات المكان وعلى نفس المقعد الخشبي مع اختلاف النظرة وقد انتهى كل شيء "تلاشى قبل حتى أن يبدأ" فلم تُبْدِ المرأة رغبة في الحديث كما حدث مع البداية. ومع هذه المتاهة السّردية القائمة على تبدل المواقع السردية، وتداخل الأماكن بين القاهرة وبراغ، نكتشف في النهاية أن كاميليا من اختراع أولجا الكاتبة الروسية فهي "أشبه بابنة تخيلاتها وأحلام يقظتها".(ص، 147).

                الذاكّرة والوعي هما محورا الرواية، فالشخصيات جميعها تعود إلى الطفولة، وتحكي عن أزمات حقيقية. ونكتشف مع هذه اللعبة التبادلية بين الرواة أننا أمام حكايات موجعة ومؤلمة في ذات الوقت، حكايات منفصلة زمكانيًا وإن كانت تتفق في الوجع والهم، فطفولة كاميليا تتقاطع مع طفولة ساندور؛ فهو كان مُفْتقِدًا للأم بعد أن هجرتهم فصار طفلاً وحيدًا، و"اقتصر عالمه على أبيه ورفاقه" فسعى أولا: لتجميع صور متنوِّعة لماريا كالاس مغنية الأوبرا اليونانية، حيث أرادها أن تكون بديلاً "للمرأة المغيَّبة والغائبة عن عالمه" مع أنها لم "تكن تشبه أمه إلا في لون الشعر والعينين"، فأراد استبدالها بامرأة لها ابنة فكانت أولجا التي التقاها في مصادفة عابرة في حديقة "جوركي" تبادلا فيها كلمات قليلة. ثم أحلّها محل الأم الغائبة، بعد أن شدّته علاقتها بابنها. وبالمثل كاميليا كانت مفتقدة للأب الذي كان دومًا يصفها أوقات غضبه بأنها دبدوبة "بطيئة الفهم والحركة". علاقتها بأبيها المتوترة، بدأت بركلة وهي في الخامسة إلا أنه استطاع أن يذيب الجفاء الذي ترسّب من الركلة بخروجاتهما معًا، وإن كان يرغمها على شرب مشروب شويبس الليمون، وإصراره على أن تُكرِّرَهُ حتى في الأشياء التي يحبُّها. فأرادتْ استبدال هذه العلاقة الشائكة بعلاقتها مع منير زوج فريدة صديقة أمها دولت، وقد غافلها من باب الحنان المفُتَقَد وانسّل إليها بعد حادثة الشمعة واحتراق شعرها في عيد الميلاد، ثمّ القبلات المسروقة في الشرفة المظلمة، إلى أن تتزوج به وسط رفض أمها، التي كانت تقول لو خُيِّرت بينها وبين صديقتها ستختار صديقتها. هكذا كانت علاقات كاميليا متوترة، على صعيد الأب والأم معًا، ولم يذب هذا التوتر الذي عبَّرت عنه أمّها في غلظة، بأنَّ قطع الأنتيكة الموروثة مِن أسرتها ذات قيمة على ابنتها. وكذلك بتباعد الأم عن ابنتها وانهماكها بأصدقائها وحديقتها أكثر من اهتمامها بها، لم يذب التوتر إلا بمرضها، فمارست الابنة دور الأم الذي كانت تفتقده، لدرجة أنها جازفت بحلم الأمومة إذا اقتربت منها، وفقًا لنصحية الطبيب، إلا أنها لم تبالِ، لتحقِّق لنفسها دورًا افتقدته في أمها. والأغرب أنه عندما جاء الحمل تخلصت منه، كردٍ على قسوة الأمومة عليها. كاميليا التي كانت حكاية على حاسوب أولجا كانت "منذ صغرها مسحورة بتخييل فضاءات أخرى إمكانيات وخبرات تتيحها لها أحلام يقظتها"، أرادت منذ صغرها أن تكون كاتبة، فهي تعشق صحبة الشخصيات المتخيلة. فالكتاب بالنسبة لها "فلك نوح يحمل شخصياتها وكلماتها إلى شاطئ نجاة مؤقت ينقذهم من فيضان اللغو المحيط." ومن هنا راحت تنسج حكاية كاملة لآدم؛ طفولته وقهره للخوف بالقبو. ومراهقته وكيف أختبر تجربته الجنسية الأولى في القبو مع فتاة كانت عصبية ونافدة الصبر، تبرمت منه عندما قذف سريعًا. وبما أورثته هذه التجربة من عدم الثقة بالنفس. و"القلق من ألا يكون قادرًا على إرضاء امرأة" (ص 15).

                الشخصيات الثانوية لا تخلو هي الأخرى من ماضٍ مُوجع تهرب منه بالأحلام، فروز زوجة آدم وقصة أختها التي سقطت من على الأرجوحة، بعدما دفعتها بسرعة زائدة وأرادت أن تعوضها بطفلة من خيالها، أو بإصرارها على الاحتفاظ بأشيائها، حتى في أحلامها كانت لا ترى في نفسها امرأة ناضجة في معظم المرات "تكون طفلة تتحرك في عالم ألوانه مموهة تغمره الظلال. وبالمثل قصة أولجا وفلاديمير، وقصة الأخير مع الأزرق الذي نشأ على حبه منذ طفولته، وقصة انفصاله عن أولجا وذهابها إلى ساندرو ثم أراد "اختراع العالم على مقاس أحلامه عالم أزرق كما ينبغي له أن يكون. "فقد كان الأزرق وطن خيالي مقطوع عن العالم"(ص، 142)، فواصل سيره الطقوسي باعتباره العزاء لكل ما يقابله من عثرات وخيبات"(ص، 79)  في حين أغرقت أولجا نفسها بحيوات أبطالها وبطلاتها.

المراوحة بين الواقعي والخيالي

                الرواية في الأساس قائمة على لعبة كتابية تراوح بين الخيالي / الافتراضي والواقعي. ولعبة التداخلات لا تقف عند الافتراضي والواقعي، بل تشمل أيضًا الأحلام والواقع. فالكاتبة التي جاءت في زيارتها إلى "واحدة من مدن أحلامها" تقودنا إلى كسر الحاجز الفاصل بين الوعي واللاوعي، الواقع والأحلام.

                الخيط الفاصل بين الخيالي / الافتراضي والواقع يتماهىى عبر سارد خارجي يسرد الحكاية وفقًا لترتيبها كما خطّط، بالضمير الغائب / الهو، من موقع محايث. وأحيانًا يحدث التداخل من قبل الشخصية نفسها فكاميليا تُصرِّح بأنّها "لست امرأة من لحم ودم. بل فكرة خطرت لكاتبة، وراحتْ تجترها بلا رغبة في تعميقها، أو التوسع في كتابتها" (ص، 17) ثمّ مرّة ثانية تعترف بوظيفتها ككاتبة ودورها في نسج شخصيات تمزج بين ذاتها وبين الشخصيات المستعارة. بل تذهب أبعد فتعترف بأن"حياتي نفسها مستعارة، لا تخصني ولا تشبهني، كأنني اقترضتها من عابر سبيل عجول. وتركت طفلة كنتها، امرأة كان من المفترض بي أن أكونها، هناك في مكان قديم، في ركن معتم يتراكم عليها الغبار" (ص، 17). كما يحلُّ الواقعي محل الافتراضي عندما تزور كاميليا بيت آدم بعد مئات الرسائل الإلكترونية المتبادلة معًا، وهناك في البيت تكتشف عالم روز وجحيمها الذي قبرته في غرفة "فيوليت" التي سيتضح أنها أختها، وقد دفعتها من على الأرجوحة ذات يوم، ولم تكن تدري أن دفعتها ستكون سببًا في موتها،كما أنّها انتبهت إلى أنّ "كل ما ألقاه آدم في عقلها من حكايات وحوادث، ينتمي إلى عالم طفولته ومراهقته وأسلافه ولا شيء يخص الرجل الذي هو عليه الآن".(ص، 52). هكذا تعيش كاميليا حالة من التخيُّلات والأفكار، فيتداخل الوقعي مع الخيالي الذي لا ينفصل عنه، على نحو ما كتبتها أولجا حيث كانت كاميليا تسير بجوار أمها في مشاوير قريبة للتسوق أو لزيارة إحدى الصديقات، حيث ثرثرات دافئة لا تنقطع مصحوبة بطقس تناول قهوة تركي ينتهي دومًا بقراءة دولت لطوالع صديقاتها في فناجين قهوتهن أو أوراق التاروت" (ص، 19) ويصير الاسم الذي من قبل وسبق للساردة أنْ أعلنت أنها ستُسمي الجالسة بكاميليا. ليصبح حقيقة، فتحكي الأم دولت في طريق عودتها لابنتها، سر اختيارها كاميليا اسمًا له، فقد سمتها أمها تيمُّنًا بممثلة الأربعينيات كاميليا.

                لكن لعبة الاستبدالات والإحلالات المغرمة بها السّادرة، تُعاود الظهور مرّة ثانية، فبعدما تُؤَسِّس حياة لكاميليا على مستوى الواقع، وتكشف علاقة أمها دولت بالفنانة كاميليا التي ستسمي ابنتها تيمُّنًا بها، وإن كانت معبرًا لحبها الخفي للممثل أحمد سالم، فتى أحلامها، نفاجأ في الوحدة الثانية المعنونة ب ـ"فليكن اسمها أولجا" بأنها تكسر توهّم المتلقي الذي كوَّنه من حقيقة كاميليا فتقول" لنفترض أن الكاتبة الروسية التي حلمت بها كاميليا، تُدعى أولجا". فيتحوّل التخييل واقعًا فأولجا التي حلمت بها كاميليا كاتبة صارت واقعًا. وكاميليا صارت ابنة أحلام أولجا. لعبة التداخلات لا تقف عند الافتراضي والواقعي، بل تشمل أيضًا الأحلام والواقع. فالكاتبة التي جاءت في زيارتها إلى "واحدة من مدن أحلامها" تقودنا إلى كسر الحاجز الفاصل بين الوعي واللاوعي، الواقع والأحلام. ففي حلمها تكتب عن كاتبة "روسية تعيش في براغ، تكتب بدورها عن طفلة ناجية من مذبحة" (ص، 6) بل لا تكتفي بهذا وإنما تتبع مسار هذا الحُلم في الواقع، فمنذ أنْ وصلتْ تسير على جسر تشارلز وتتجوّل بحثًا عن "بناية عتيقة تقع فيها شقة كاتبة روسية رأتها في حلمها" مدعمة هذا بأنها بيقين داخلي يوعز لها "من أنها موجودة، بكل تفاصيلها، في انتظارها" (ص، 9) لكن ما يلبث هذا الحلم أن يتحول إلى واقع، وفيه تُمارس ذات الأدوار التي قامت بها كاميليا. وتتمحور أحلام يقظة أولجا حول شخصيتيْن متخيلتين، رجل اختارت اسمه آدم وتخيلته مقيمًا في سياتل، وامرأة سمتها كاميليا احتارت في تحديد مكان عيشها" (ص، 22).

                الكل يهرب إلى عالم الأحلام، فساندور عازف البيانو صار فقدانه للقدرة على العزف واقعًا مقيمًا، فراح يستبدل هذا الفشل بالهروب "يحرك أصابعه في الهواء فتطاوعه بمرونة تدهشه لكن ما إن يضعها على المفاتيح حتى تتخشب" (ص، 32). الغريب أن ساندور يؤسِّس عالمه وحياته من الأحلام، فالمرأة التي ما زال أثر الندبة في أنفه موجودًا بعدما تعرّض للضرب عندما كان يسيران معًا أمام كوخ على أطراف غابة خيمكي. كانت هي ذات المرأة الجالسة إلى جواره إلى حد الالتصاق في الحفل وتتحسس موضع الندبة أسفل عينه.

لعبة الكتابة

                تأخذنا الكاتبة وهي تسرد عن شخصياتها، إلى دهاليز العملية الكتابية وكل ما يحيط بها من طقوس، وخلق الشخصيات، فتخبرنا وهي تخلق شخصية آدم "فلنفترض أنه حفيد لاجئة شرق أوسطية تزوجت بحارًا يونانيا وانتقلت معه من ميناء لآخر حتى استقر بهما المقام في ستايل". يتكرر في حديثها عن فلاديمير زوج أولجا. فتقول "من غير المنصف حصر من اخترنا له اسم فلاديمير في تفصيلة عجوز يذرع جسر تشارلز جيئة وذهابًا في حلم كاميليا"(ص، 135). وكذلك حالات الحيرة وهي تتتبع مصائر أبطالها فهي تعلن "لا يمكنها الجزم بمصير بطلها النهائي، قد يفاجئها أثناء الكتابة مقترحًا عليها مسارًا آخر للأحداث، وقد تحذف المشهد الافتتاحي" (ص، 107)، وقد نرى هذه الحيرة أثناء كتابة أولجا قصة عن طفلة ناجية من مذبحة، حيث: "لهثت أولجا بخيالها، خلف آميديا، من مكان لآخر. توقفت فجأة حائرة. ماذا ستفعل بطلتها الآن؟ أو للدقة، ماذا ستفعل هي ببطلتها الآن؟ لازمتها الحيرة لأيام، تحملق في الكلمات المكتوبة، لها كرسوم فارغة، يغيب عنها معنى كل كلمة على حدة، ويتلاشى المعنى العام لكل ما سبق سطرته يداها"(ص، 25). كما تنقل لنا أعراض فترات الجدب لمن يمتهن حرفة الكتابة، وهي تصف مشاعر أولجا التي أخذت تستسلم "للتوتر والإحباط، تشرب طوال اليوم تقريبًا، ولا تطيق أنْ يقترب منها أحد، ثم وفي تطور تفاجأ هي نفسها به، يصبح الطهو ملاذها حين تراوغها الشخصيات المتخيلة، وتفلت من بين أصابعها"(ص، 25). ولا تنسى أن تشير إلى وحي الكتابة الذي يأتي دومًا دون تخطيط وقد خايل أولجا مشهد "لآميديا على سرير ضيق في دير محاط بحديقة معتنى بها.الطفلة غائبة عن الوعي، وبجوارها راهبة أربعينية، تقرأ في سفر الخروج". حيث" كانت تعجن بيتزا" (ص،.26).

                تتنقل السَّاردة بين مكانين القاهرة وحديقتها المخفية التي تخلو من المتنزهين، وصارت ملجأها "كلما شعرت بضيق ورغبة في الغرق داخل ذاتها" إضافة إلى أماكن كلها تشير إلى الضيق والحصار كالملجأ والقبو كما في حكايتها عن آدم وجدته، والدير الذي قضت فيه خمس سنوات من عمرها، وثمّة أماكن عابرة كانت بمثابة الانتقالات من وإلى. لكن يبقى حضور القاهرة وبراغ مائزًا، في وصف الحدائق وبيت كافكا وجسر تشارلز. وهذه التنقلات منحت الزمن انسيابية ومرونة لأن يكون مستوعبًا لحركة التنقلات بين الحاضر والماضي القريب البعيد أيضًا. حيث الوقفات التي عاد بها الزمن إلى زمن جدة آدم وحكاية المذبحة، وقصة هروبها، وهي القصة التي أعادت صياغتها أولجا بطريقة مغايرة. في الأخير نحن مع نص كاشف لمعاناة الطفولة عبر لغة مصقلة بالدلالات بعيدة عن الإسراف اللغوي، وجمل مشهدية دقيقة العبارة مختزلة، عبرت عن وطأة المنافي والافتقاد في آن معًا. وثمة اهتمام بالعبارة الروائية التي ميزت النص وصنعت له فرادته، ولا يمكن تقليدها وهو ما منح النص "بناءً جوانيًا متماسكًا بخيوط لا مرئية له سره الإيقاعي ونسيجه النغمي" بتعير لطفية الدليمي وكأنها أشبه بالبصمة الموسيقية الخاصة بها وبالنص. لكن تبقى قدرة الكاتبة على صيغه بشكل ملائم لحالات الاغتراب والافتقاد، في استعارتها ثنائيات الوعي واللاوعي، الذاكرة الحلم في استنطاق مكنون شخصياتها، وقد جعلت هذه التقنيات الشخصيات وكأنها أمام مرآة في حالة بوح وصدق للتخلّص من عثرات وإخفاقات الماضي، علاوة على الاستفادة من المحكيات التراثية واستلهام طرائقها الشفاهية في استحضار قارئها، وتحفيزه ليكون فاعلاً بملء ثغرات وفجوات السرد، وهو ما دعمه اعتناء الكاتبة بالأفكار وألاعيب الكتابة التي خلقت هي الأخرى مساحات رؤيوية متعدِّدة، فشدَّت النص في كثير من مناطقه إلى النصوص المعنية بالتعددية الثقافية التي تهتم بالأقليات والجماعات المهاجرة، وهذا ظاهر بوضوح في حكاية الجدة الناجية من المذبحة، وكذلك في قصة آدم "ناسك في غابة".

* نُشرت المقالة في جريدة العرب.. 6يوليو 2019

No comments:

Post a Comment