يرتبط مصطلح "قراءات
الصيف" عادةً بالكتب الخفيفة، التي يمكن قراءتها على الشاطئ ولا تتطلب
مجهودًا كبيرًا من القارئ، لكننا –عبر الاقتراحات التالية- حرصنا على أن تكون
الجودة الفنية معيارنا الأساسي.
منصورة عز الدين
حلقات زحل:
القبض على لحظات التحول والفناء
في محاضراته عن الكتابة الإبداعية،
بجامعة إيست أنجيليا، اعتاد ف. ج. زيبالد أن يحدث طلابه عن إغواء الأشخاص
المهووسين وغريبي الأطوار وعن ما تحمله شخصياتهم من إمكانات فنية. لم يكن يقصد
الجنون التام أو الظاهر، إنما نوع آخر من جنون خافت يصعب الإمساك به أو تحديد
منبعه، حالة قريبة مما نصادفه لدى مجاذيب الريف.
وأظنني لست في حاجة لقول إن أعمال هذا
الروائي المهم والأكاديمي المتبحر في تاريخ الرواية الأوربية، حافلة بهؤلاء
الممسوسين بدرجة ما من درجات هوس مخاتل. ولا يخرج كتابه المهم "حلقات
زحل" عن هذا الإطار، لكننا في حالته أمام شخصيات حقيقية عاشت يومًا وتركت
أثرًا يجعلها جديرة بالتذكر والتأمل. من هؤلاء الطبيب توماس براون وإمبراطورة
الصين الأرملة تسو-هسي المجنونة بالسلطة وألغيرنون تشارلز سوينبرن المولع بتدمير
الذات وغيرهم. وأدبيًا يتوقف زيبالد أمام جوزيف كونراد وسيرته الثرية وشاتوبريان
وفلوبير وإدوارد فيتزجيرالد وآخرين.
في الكتاب الصادر مؤخرًا عن دار التنوير
بترجمة متميزة للكاتب والمترجم أحمد فاروق، يصحبنا زيبالد في جولة معرفية بالأساس
يتوغل فيها في طبقات الزمان ويربط حاضر معيش بماضٍ شهد ازدهارًا وأبهة أفلت ولم
يتبق منها سوى أطلال وخرائب. يحافظ كعادته على ولعه بالخراب والتدمير وعلى لحظات
التحول والفناء، ويعوض هذا بجمال أسلوبي يحيل المُدمَّر والمنخور بسوس الزمن إلى قطع
فنية فريدة لأنها مصاغة بعين تجيد التقاط جماليات الخراب ويد بارعة في إحالته (أي
الخراب) إلى مشاهد لا تنسى لأنها مشبعة بدلالات ومعان لا نهائية.
لا يكتب زيبالد
عن الطبيعة والأراضي والمدن المختلفة من خارجها، بل ينسل إليها، يحل فيها ليطّلِع
على ما تراكمه من ذكريات وأحداث انطوت بلا رجعة.
أهذا أدب
رحلة؟! قد يتساءل قارئ حائر في تصنيف ما يقرأ، ونصيحتي له ألّا ينشغل بالتصنيف حين
يتعلق الأمر بزيبالد، فإن كانت رواياته من الصعب وضعها في خانة بعينها أو تصنيف
محدد، فإن هذا الكتاب المميز عصي على التصنيف بدرجة مضاعفة. مزيج من سرد سيري
وتاريخي وكتابة مكان في أبهى صورها وتداعيات وتأملات لواحد من أهم العقول الإبداعية
في القرن العشرين.
إلمت:
لغة النار والدخان
حين وصلت فيونا موزلي إلى القائمة
الطويلة ثم القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر البريطانية 2017، كانت اسمًا جديدًا
على المشهد الأدبي العالمي. كاتبة شابة أصبحت تحت الأضواء فجأة بروايتها الأولى،
الأمر الذي حمَّس ناشرين من ثقافات مختلفة للسعي لترجمة الرواية. ومن حسن الحظ،
صدرت الطبعة العربية لروايتها "إلمت" مؤخرًا (دار جامعة حمد بن خليفة
للنشر) بترجمة ممتازة للشاعر والمترجم أحمد شافعي.
الرواية مكتوبة بحساسية فائقة، الطبيعة
ملتحمة ببنية السرد برهافة، والعلاقة بين الأخوين (دانيال وكاثي) لافتة. شخصية
دانيال تحديدًا من الصعب نسيانها، ينتهي القارئ من قراءة الكتاب وهو يفكر بمصير
دانيال وهل ما حدث معه في النهاية استغلال له من شخص أكبر أم أن المسألة بالفعل
لها علاقة بميول ورغبات أوحت بها المؤلفة بلمحات عابرة على امتداد الرواية؟!
منذ البداية نعرف أننا أمام مصائر
تراجيدية وأن عالم الرواية وشخصياتها يتهددها الحريق ويتعقبها الدخان ورائحة
الجمرات: "لا ظل لي. يعلق الدخان من ورائي، ويخمد نور النهار. أعد عوارض
السكة الحديدية فتتسارع الأرقام. أعد المسامير والبراغي. أمشي قاصدًا الشمال.
خطوتاي الأوليان بطيئتان، متململتان. لست على يقين من وجهتي، ولكنني ثابت على ذلك
الخيار الأول. لقد اجتزت الباب وأغلق من ورائي."
هكذا تبدأ موزلي روايتها وقد منحت
القارئ عقدتها وحدثها الأهم، ومع هذا تظل محافظة على درجة عالية جدًا من التشويق،
بحيث يلهث القارئ خلف الشخصيات لمعرفة الإجابة على سؤال كيف حدث ما حدث، وليس ماذا
حدث. وحتى بعد أن يعرف، سيعاود القراءة باستمتاع لجودة الأسلوب وبراعة الكاتبة في
رسم شخصياتها الفنية وطبوغرافيا المكان الذي تدور فيه الأحداث.
"إلمت"
رواية مؤلمة، لكنه ذلك
الألم الذي يكثِّف إحساس قارئها بالآخرين ويزيد من قدرته على الرؤية. بنية العمل بسيطة
ومحكمة في آن، وأهم ما يميزه ذكاء الكاتبة في التقاط الخفي في أكثر الأشياء عادية
ومهارتها في الوصف وفي مزج القسوة بالرهافة؛ قسوة النار حين تتأجج لتلتهم ما
يقابلها ورهافتها حين تصفو.
صداقة مع ابن شقيق فيتغنشتاين:
الخطو في غياهب الجنون
النمساوي توماس
برنهارد أحد أهم كتاب اللغة الألمانية في القرن العشرين واحد من الكتاب الحديين؛
إما أن يقع القارئ في هوى أسلوبهم مرة واحدة وإلى الأبد أو يأخذ موقفًا حادًا منهم
ويتوقف عن القراءة لهم بعد المحاولة الأولى. عن نفسي، أعتبره من كتابي المفضلين
وأغبطه دومًا على ثقافته الموسيقية والفلسفية الرفيعة. تتجلى هذه الثقافة بوضوح في
كتابه "صداقة مع ابن شقيق
فيتغنشتاين"، الذي صدرت طبعة جديدة منه، مطلع العام الحالي عن داري ممدوح
عدوان وسرد، بترجمة المترجم القدير سمير جريس بعد مرور سنوات على صدور الطبعة
الأولى. الكتاب حفر مدوِّخ في مفهوم
الصداقة والمرض وغياهب الجنون والعيش والإبداع على الحافة وضد كل ما هو سائد. من الكتب
التي تبقى مع قارئها طويلًا.
في "صداقة من ابن شقيق
فتغنشتاين"، لا يتوقف برنهارد عند صداقته بباول فتغنشتاين الذي يُعتبر الكتاب
بمثابة تأبين أدبي له، إنما يتجاوز هذا كي يحلل مفهوم الصداقة والجنون ويشَّرِح
عيوب ونواقص الوسط الأدبي النمساوي وتهافت المثقفين وجهل المسؤولين الثقافيين وحال
الجوائز في عصره، على هذا الأساس يمكن أيضًا اعتبار الكتاب شهادة كاشفة على الحالة
الثقافية والاجتماعية لأوروبا، أو على الأقل البلاد الناطقة بالألمانية، خلال فترة
مهمة من تاريخها. يبدأ برنهارد في الحفر في فكرة ما ويواصل حفره فيها وعرضها
بتنويعات عديدة كأننا أمام مؤلف موسيقي يسعى للبرهنة على أن التكرار ليس تكرارًا
بالفعل، إذ يضمر في باطنه اختلافات وتنويعات لا نهائية. بشكل ما هي كتابة رأسية لا
أفقية، إن جاز استخدام مصطلح مماثل.
يكتب برنهارد بقسوة وحِدة من عاش معظم
حياته في براثن مرض عضال وبصفاء من حدق في وجه الموت والجنون وأقام على حافتيهما.
هو يعرف جيدًا ما يتحدث عنه حين يكتب عن انقطاع التواصل الحتمي بين الأصحاء
والمرضى بمرض لا شفاء منه.
كان ياما كان:
هل يمكن نقض الحكايات الخرافية بتبني منطقها الخاص؟
لطالما ألهمت
الحكايات الخرافية الكتاب وأثارت مخيلتهم، بل واستفزتهم لكتابة سرديات مضادة لها
عبر حقنها بالعنف والإيروتيكا أو هدمها وتلوينها بصبغة نسوية أو قوطية داكنة.
قائمة هؤلاء الكتاب تشمل أنجيلا كارتر في مجموعتها "الغرفة الدموية"
وهيلين أوييمي وآخرين. وفي مجموعته القصصية الأحدث "كان ياما كان" (دار
العين) يدخل الكاتب محمد عبد النبي بدوره عالم الحكايات الخرافية ليعيد إنتاجها
بما يتناسب مع رؤيته هو للعالم ولها، غير أن صاحب "شبح أنطون تشيخوف"
يخطو خطوة أبعد حين يسعى لإنشاء بنيان يضم القصص معًا، كما أن هناك قصصًا لا ترتكز
على أصل سابق، وإن كانت تحمل بدورها بعض سمات العوالم الخرافية ومنطق الحواديت.
حين ذكرت أن
عبد النبي يدخل عالم الحكايات الخرافية، عنيت هذا حرفيًا، فالكتاب يبدأ بـ"مدخل"
يدخل منه الكاتب ومعه بالتبعية القارئ عبر باب أمامي على هيئة غلاف كتاب أو غلاف
أمامي على هيئة باب كبير. ثمة مراوغة منذ الجملة الأولى: "يبدو أنني كنت
شاردًا أو ثملًا فلم أتبين العنوان". هذه المراوغة وعدم اليقين في تحديد حالة
الراوي تعد القارئ لدخول أرض عجائب من نوع ما، أو على الأقل أرض حافلة بالتأرجح
بين حالات من الصعب تحديد كنهها، يختلط فيها الواقع بالأوهام والأحلام بالخرافات.
وبالمثل نجد في
النهاية مخرجًا، لكن إذا كان الدخول إلى أرض الحكايات سهلًا لا يتطلب سوى فتح باب
لا نعرف ماذا يكمن خلفه، فإن الخروج منها أصعب بكثير حد أن الرواي يبدأ مخرجه
بتساؤل: "هل نجوتُ أم غرقتُ؟" لم يعد التبلبل إذًا بين الشرود أو
السُكْر، بل بين النجاة أو الغرق، فالحكايات عاصفة ضربت سفينة الراوي وحطمتها، ما
يذكرنا بما قاله الأمير / الحطاب في قصة "قميص إنسان سعيد": "زهور
الكلمات لها شوك يدمي الأصابع، أم تحسبين أن وضع الحكايات نزهة في بستان؟"
أثارت
"كان ياما كان" في ذهني تساؤلين مفادهما: ما أهمية التناص إن لم يكن
هدمًا للنص الأصلي؟! هل يمكن نقض الحكايات الخرافية بتبني منطقها؟!
السؤالان
مترابطان كما هو واضح. بالنسبة للأول فهو ليس سؤالًا بقدر ما أعتبره قناعة فنية
شخصية، فالهدم وإعادة تشييد بنيان جديد أو سردية مضادة بلغة النقد، مبرر التناص من
وجهة نظري. أما السؤال الثاني، فكان معياري الأساسي خلال قراءة النصوص المتماسة مع
أصل سابق؛ كلما ابتعدت عن بذرتها الأولى وتناقضت معها ارتقت فنيًا، لكن هذا طبعًا
لم يكن المعيار الوحيد خاصة أن الكتاب يحوي قصصًا لا تعتمد على أصل سابق، وأننا لا
يمكننا إغفال عناصر أخرى متمثلة في اللغة الرائقة السلسة للكاتب وعوالمه التي
تأتيه طيعة وقدرته على ابتكار حكايات خرافية تشتبك مع أسئلة الواقع المعاصر،
ومهارته في تحسس المناطق البينية المخاتلة بين الذكورة والأنوثة بلا مباشرة.
في المجمل
استمتعت على وجه خاص بقصص "جنة الأقزام السبعة"، "كان ياما كان..
في بلد الجمال"، "قميص إنسان سعيد"، "قبل أن ينتهي
السباق"، "رحلة عازف الناي"، أما قصة "مفقود في الترجمة"
فتساءلت عن جدوى دسها في وسط النصوص، إذ بدت لي صالحة أكثر لتكون قصة/ مقدمة تسبق
المدخل نفسه، بحيث لا تشوِّش على العالم المتجانس للكتاب أو "جزيرة الحكايات
الخرافية" لو استعرنا كلمات المؤلف.
أعياد الشتاء:
جسد منفى وذاكرة موشومة!
تتناول رواية
"أعياد الشتاء" للكاتبة نغم حيدر (دار نوفل/ هاشيت-أنطوان) طرفًا من
التغريبة السورية برهافة ودون مباشرة أو صوت عالٍ. تتمحور رواية حيدر، التي وصلت
إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد 2019، حول لاجئتين سوريتين تتقاسمان غرفة
واحدة في بلد اللجوء؛ ألمانيا، في انتظار الموافقة على قبول طلبي لجوئهما ومنحهما
الإقامة: شهيناز فتاة الليل والعشيقة السابقة للضابط قتيبة، وراوية التي أُعتقِل
أبوها المتعاطف مع الثوار بوشاية من جارتهما. تتعامل راوية مع اعتقال أبيها بحياد
يقارب البرود، ولا تتقبل دأب أمها المثقلة بضيق ذات اليد وبتربية طفلين صغيرين على
ملاحقة أي أخبار محتملة عن الأب المغيب في السجن. تنشغل راوية بتفاصيل حياتها في
بلد اللجوء الذي أرسلتها أمها إليه طمعًا في توفير مصدر مالي ثابت للأسرة في مسقط
الرأس الذي صارت علاقة راوية الوحيدة اتصالات هاتفية من أمها، ترسخ الانفصال بين
طرفيها.
قد يوحي ما سبق
بأننا أمام رواية سياسية صرفة، غير أن تقنية كتابة المؤلفة لروايتها تبعدها تمامًا
عن المباشرة، وتجعلنا نتلمس ملامح البطلتين، المختلفتين تمام الاختلاف، تدريجًا.
يُحسب لنغم
حيدر إخراج شخصية اللاجئ من الصورة النمطية التي عادة ما ترتبط بها، بحيث تُقدم في
كضحية كاملة بلا أبعاد خارج كونها لاجئة. شهيناز وراوية وكذلك فهد وبدرجة أقل
عرفان شخصيات حقيقة بنواقص وعيوب بشرية. ومن جهة مقابلة، قتيبة؛ الضابط/ الجلاد
مقدم في الرواية أيضًا كشخصية لها جانبها الإنساني، في علاقته بشهيناز وبأمه وهو
صغير وبأبنائه لاحقًا.
أخيرًا هذه الرواية
القصيرة البسيطة ظاهريًا، مكتوبة بدربة ومكر كبيرين، فتقريبًا كل جملة، موظفة بحيث
تدل على ملمح ما من ملامح البطلتين والماضي المدفون داخل كل منهما. تحب شهيناز
الجميلة الغزلان معلومة مدسوسة بعناية في بداية العمل، ولاحقًا سوف نعرف أن الغزال
مفتاح لفهم شخصيتها وعلاقتها بقتيبة ذي اليدين الملطختين بدماء الضحايا، فقد سبق
ووصفها بـ"الغزالة التي سأصيدها وأحنطها". وقرب نهاية الرواية توشم شهيناز غزالة على كتفها
في واحد من أفضل مشاهد العمل، حيث يتوازي نغز الوشم مع ذكريات عنف قتيبة الجسدي
تجاهها في لقائهما الأخير. هل يشير الوشم إلى رغبتها في وشم علاقتها به في ذاكرتها
ورغبة في استعادتها إن سنحت الفرصة أم إلى التطهر منها عبر الألم الموازي لعلقتهما
السادو-مازوخية؟
قد يكون
الاحتمال الأول وجيهًا، بالنظر إلى أنها وافقت على فكرة العمل في الدكان العربي،
بشرط أن تترك العمل وتعود إلى سوريا إن اتصل قتيبة أو أرسل خبرًا. لكن يظل
الاحتمال الثاني قائمًا إن تذكرنا المقطع التالي: "يجب أن يحتوي الجسد كل
هفوات المرء. إن أراد أن يثقب ذاكرته لينسى أفعاله فعليه أن يختار مكانًا ما من
جسده ويدس فيه قطعة معدنية. لقد فكرت شهيناز مرة أنها قد ناورت كثيرًا. تقلبت.
تلونت. هربت وعادت. صعدت وهبطت. ماتت وعاشت. ولهذا عليها أن ترسم على جلدها أيضًا
طبعة لا تزول حتى بأسيد الندم الذي تصبه على نفسها."
بياصة الشوام:
حروف الهذيان
كعادته يمزج
أحمد الفخراني، في روايته الأحدث "بيَّاصة الشوام" (دار العين)، الواقعي
بالهذياني والمقدس بالعبثي الخالي من المعنى. يجيد الفخراني التقاط شخصية من
الهامش بامتياز؛ سعيد الصبي في ورشة معلمه إدريس ببياصة الشوام، شاب بعين خاملة
وبلاهة ترافق ملامحه وعدد لا نهائي من من الأسئلة، والأهم بأم مجنونة انتحرت
ليحمله انتحارها بذنب لا خلاص منه ويدفعه، بشكل ما، لأحضان الجارة ثريا. شخصية
الأم من الشخصيات التي لا تنسى في الرواية رغم أنها لا تظهر سوى في الصفحات
الأولى، امرأة مزروعة في ركن النافذة كأصيص، مهووسة بتدوين كل شيء في كراسات، ثم
تصعد إلى السطح لتمزق الكراسات ورقة ورقة وتطيرها، أوراق مكتوبة بحروف غريبة،
يصفها الراوي بـ"حروف الهذيان"، وأجازف بقول إن أجزاء عديدة من الرواية
مكتوبة بحروف الهذيان أيضًا. أما شخصية ثريا، فعلى الرغم من اهتمام الكاتب برسمها
ومن كونها من الشخصيات الرئيسية، إلّا أنها جاءت أقرب للصورة المعتادة للمرأة الغاوية.
أما سعيد نفسه،
فكان التحدي الأهم للكاتب كيف يعبر عن أفكار ومشاعر مركبة بلغة جزلة مثقفة في
رواية مروية بلسان الأنا، في حين أن البطل لم ينل حظًا كبيرًا من التعليم؟!
والحقيقة أن الحل الذي لجأ إليه الكاتب كان ناجحًا وطريفًا. فمع أنا الحكي كله
يبدو للوهلة الأولى بصوت سعيد ولسانه، إلّا أنه سرعان ما يتضح أن سعيد يوكل مهمة
الحكي إلى راوٍ مجهول ومتفاصح: "حتى الآن لا أعرف كيف سترويها، هل ستحذف
معاناتي؟ أم سترضي نزعة القراء للمونولوج والدراما؟ أنا لا أعرف معناهما، ستضعهما
على لساني، وسيذوبان كما تذوب سنة الأفيون الحلوة، لكن قل لي، من منا لا يرغب في
أن يصعد فوق مسرح ويثرثر بمنولوج طويل وزاعق عن حياته؟"
هكذا سوف يظهر
صوت سعيد عابرًا من وقت لآخر معترضًا على تكلف الراوي المنتدب بلغته نفسها، كما في
جملة مثل: "أهناك أغبى من أن تجعلني أنطق بكلام كهذا؟" أو أن يسرد الراوي فقرة مصقولة، يوضح في نهايتها:
"لم يقل لي سعيد ذلك كله، اكتفى بما قاله للشيخ أعمى البصيرة: "ينعل
أبوك"."
ينجح صاحب
"ماندورلا" في حياكة ملحمة للهامشيين و"النكرات"، ملحمة
محتشدة بالأسئلة والشكوك والهلاوس، تستدعي "اللص والكلاب" حينًا،
وتذكِّر بأسطورة بيجماليون حينًا آخر، وكعادته ثمة دومًا سر ليس سرًا بالضرورة،
ورحلة من نوع ما. ينحت سعيد تماثيله على نحو مخالف للمتوقع، يرى أنه وُهِب شهوة
الخلق كإدريس، لكن الناس سيئو الطوية "تخبرهم أنك ستنحت عصفورًا، فيجيبونك أن
فكرتهم عن العصفور قد اكتملت ولا حاجة بهم للمزيد. تقول لكن عصفوري شيء آخر. لماذا
يغفرون شيئًا غريبًا كأصابع جميلة وفاتنة على جسد قبيح ولا يغفرون لي تماثيلي التي
لا تشبه العصافير؟"
وعلى خطى سعيد،
ينحت الفخراني شخصيات غير متوقعة، يبدون مقنعين عادة، وتنزلق عنهم عباءة الإقناع
أحيانًا، لكنهم مثيرون للدهشة دائمًا.
من ناحية أخرى،
فإن التمايزات بين البشر هنا ليست تمايزات طبقية بالمعنى المعروف، فجميعهم تقريبًا
ينتمي إلى عالم البياصة، لكنهم ينقسمون على ليلها ونهارها: النهار للكادحين أمثال
سعيد، والليل لملوك البياصة والمتحكمين فيها من البامبو ورجاله إلى ملك السمان
وزبائن مطعمه.
تصلح أمثولة
"النملة والملك" لتقريب فكرة التمايزات بين البشر المنقسمين في
"بياصة الشوام" بين نمل وملوك؛ تظهر الأمثولة لأول مرة حين يسأل البامبو
(ملك الليل) سعيد (النملة): ما أجمل حكاية سمعتها في حياتك؟ فيجيبه الأخير بأنها
حكاية "النملة التي خاطبت الملك"، "لأنها لحدث لم يحدث، هذا ما
يجعل الحكايات جميلة". الجملة الأخيرة، في رأيي، مفتاح مهم لفهم الرواية
كلها، وهل هناك وسيلة لفهم رواية مكتوبة بحروف الهذيان ولا سبيل للتحقق إن كانت
أحداثها قد حدثت أم لا سوى أمثولة كهذه؟
نقلًا عن أخبار الأدب.
No comments:
Post a Comment