Tuesday, March 16, 2021

منصورة عز الدين: بساتين البصرة

 



القدس العربي.. 19 سبتمبر 2020


مجازفة سردية جديدة هذه التي تقترحها الروائية المصرية منصورة عز الدين في عملها الجديد “بساتين البصرة”؛ لا يِجْحَدُ، مع ذلك، مقادير الجسارة الفنية في أعمال سابقة مثل “متاهة مريم”، “وراء الفردوس”، “جبل الزمرد”، “أخيلة الظل”؛ أو في “ضوء مهتز” و”مأوى الغياب” على مستوى القصة القصيرة. لكنّ براعة الإنجاز العالية، التي تناسقت عناصرها وتكاملت وظائفها خلف طموح تجريبي بالغ النضج، تكفلت بتحويل المجازفة إلى حصيلة ناجحة تماماً؛ ليس في مستوى خطوة كبرى إضافية إلى أمام، تقطعها عز الدين في مشروعها السردي، الروائي والقصصي، فحسب؛ بل كذلك، وربما قبلئذ، في الفوز بتعاقد رابح مع قارئ يلذّ له، حسب شيخنا الجرجاني، أن يتقبّل المشقة في سياق تذوّق الفنّ، وأن يُقبل على مقارعة الصعوبة خلال تلمّس المتعة غير المبسطة والتشويق غير المسطح.

 

“بساتين البصرة” تقود الحكاية (إذْ ثمة حكي هنا، بديع وسلس وشيّق وذو بنية ومعمار…) عبر منمنمات مجزأة لكنها تتوحد في ستة فصول، لا تخفي عناوينها أنساقا أخرى من جسارة التعبير ونزوع المجاز: “سماء تركوازية كما يليق بحجر كريم”، “شذرات من حياة يزيد بن أبيه”، “أيام تنفرط كحبّات العقد”، “داخل لوحة شاجال”، “امرأة في الكرخ.. بيت على أطراف البصرة”، و”خلف ضباب الجسد”. وهي حكاية تنعقد بين أزمنة متباينة وأمكنة متباعدة وعمارات سرد متقاطعة ورواة يتبادلون الأصوات وأسماء العّلّم كما شخوص التاريخ مسميات المخيّلة؛ من المنيا المصرية إلى البصرة العراقية، ومن واصل بن عطاء والحسن البصري إلى هشام خطاب وأمّه ليلى وصديقته ميرفت في مصر المعاصرة، ومن مُجيبة زوجة يزيد بن أبيه وحبيبها عدي بن مالك النساخ، إلى بيلا روزنفيلد زوجة مارك شاغال وبطلة لوحاته الشهيرة. وكما برعت عز الدين في توظيف تقنيات عديدة من ألف ليلة وليلة في “جبل الزمرد”، فإنها هنا تتجاسر بشجاعة قصوى على ربط معتزلة البصرة أواخر العصر الأموي بالمتشددين التكفيريين أبناء أيامنا هذه؛ ولا تُتمّ هذه الجسارة إلا بعد إخضاعها لمعايير الفنّ الروائي أوّلاً، وربما ثانياً وثالثاً وعاشراً!

هنا سطور من الرواية:

“يدلني هاجس مفاجئ على أن رحلتي تنتهي هنا. أفكر في حفر الأرض. لا أجد معولاً يعينني على فعل هذا، فأحجم عن الفكرة. أرقد على ظهري حالماً باخضرار العشب أسفلي، وعودة الكرمة إلى سابق عهدها. مؤكد أنها كانت يانعة مزدهرة يوماً ما. أعرف، على نحو مبهم، أنها يبست حزناً وقهراً. غزاها الموت يوم دُفنت ذاتي القديمة في عمق تربتها. لم يكن جسدي – بعد التحلل – صالحاً لمدّها بالحياة. كان ترياقاً، زادت جرعته، فاستحال سُمّاً لا شفاء منه. نُبش قبري المرتجل هذا، وتُرك لبرهة فاغراً فاه للسماء، فاختلّ توازن محيطه. قُتلت غيلة، وقُبرت بل غٌسل ولا صلاة جنازة، وزرع قاتلي شجرة ياسمين فوق قبري، فكبرتْ وتفرعت وتآمرت معه لإخفاء جرمه. لم يسأل أحد ما الذي أتى بالياسمين على حدود كرمة وارفة”.

دار الشروق، القاهرة 2020 

 

 

 


Wednesday, March 10, 2021

بساتين البصرة لمنصورة عز الدين.. رحلة في الزمن والحياة

 



علا الساكت


في روايتها الجديدة "بساتين البصرة"، تشيّد لنا الروائية المصرية منصورة عزالدين عالماً إبداعياً مفارقاً للسائد، إذ تعود بنا إلى التراث العربي القديم لتشييد عالم مركب، تتداخل فيه الأصوات والحبكة وتصنع روايتها كأنما تغزل ثوباً مزركشاً مرصعاً بأحجار لغة رفيعة، لا تغيب عنها تأثيرات التراث العربي، والأدب الكلاسيكي

وتنسج عزالدين في "بساتين البصرة" قطعة تتعدد فيها الأزمان وتتداخل الشخوص، إذ تقدم لنا رواية أقرب إلى حجر نرد، في كل مرة تلقي فيها براوٍ جديد، نكتشف معه وجهاً جديداً للحكاية ذاتها.

تبدأ الرواية بحلم مأخوذ من الكتاب المنسوب لابن سيرين "تفسير الأحلام الكبير"، بزوال علماء البصرة.

تنشغل عزالدين بالحالم، وتنسج حكايتها انطلاقاً من غياب تفاصيله هو، في مقابل الحلم وتفسيره بمصير كبار علماء البصرة، وتغزل روايتها بدءاً بهشام خطاب ابن المنيا الذي تخرج في كلية العلوم، الذي يصطدم بجدار الواقع سريعاً، ليعمل في مجال بيع الكتب القديمة والنسخ النادرة، ويحتل روحه حلماً بأنه يعيش في زمن آخر باسم آخر هو "يزيد بن أبيه".

تقول عزالدين، صاحبة رواية "متاهة مريم"، إن فكرة الرواية ظلت معها لفترة تقارب 25 عاماً، حين قرأت هذا الحلم وتفسيره في ابن سيرين، وتضيف: "شعرت أنى سأكتب عنها شيئاً ما، لا أدري ما هو لكن ظللت أفكر في تلك الرؤية وذلك الحلم".

وتتابع: "كتبت الرواية على أساس فصول، تروي كل فصلٍ شخصية مختلفة، لكن اكتشف بعد المسودة الأولى أن هذا النسق مربك للقارئ لأننا أمام زمنين، وأكثر من مكان، وشخصيات كثيرة، فأعدت الكتابة بتقسيم الرواية إلى أقسام، كل منها يكشف وجهاً جديداً للحكاية. وهذا جزء من متعة الكتابة، أن أمضي وراء احتمالات كثيرة للبناء".




اللحظة التاريخية

لا يخفى على القارئ أن زمني الرواية يجمع بينهما سمة مهمة هي أنهما زمنان لتحولات كبرى وشقاق، فهناك لحظة اعتزال واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري، والجدل الفقهي الناجم عن خلافهما، الذي يراه البعض أنه ثاني أكبر لحظة شقاق في التراث الإسلامي، وفق عزالدين.

لا تستسلم "بساتين البصرة" للسرد الأفقي التقليدي، الذي تتابع فيه الأحداث والصور، وفق ترتيب زمني أو مكاني، بل تقدم مع كل صوت جديد في الرواية تفاصيل جديدة للحدث ذاته، تكشف لنا رقعة جديدة من زمنين مختلفين، يعبر الأبطال فيهما قروناً من الزمن عبر الحلم، أو علامات قادمة من زمن بعيد، فتارة تقدم لنا الحبيبة المهووسة بالسينما، والأم التي ينفرط من رقبتها عقد الكهرمان المتوارث لأجيال، والتي تتشابه في حكايتها الجدة ذات الكنز المربوط على خصرها مع مجيبة زوجة "يزيد بن أبيه".

تجيد صاحبة "نحو الجنون" نسج العلامات، والتقديم للأحداث الكبيرة عبر سلسلة من العلامات على الطريق، فشخوصها يتشابهون إلى حد كبير، في الإيمان بالعلامات، وتمحور حياة كل منهم حول خطيئة، أو لحظة تتبدل فيها دراما حياته للأبد، تخبو وتذبل كما تذبل زهرات الياسمين، فمن خلال العلامات ربطت عزالدين أشخاصاً يبدون متباعدين ببعضهم.

وهذا الربط الذي يشعرنا أننا أمام بناء دائري، فمنصورة تمسك أبطالها من ذنوبهم، والتي تحرك دراما حيواتهم، فلا عجب أن الأحداث تدور بحيث نكتشف أن يزيد الذي بدأ الرواية ضحية لجريمة قتل، انتهى قاتلاً، وأنه دُفن حيث دفن هو مفتاح جريمته الأولى.

قارئ غير متوقع

في هذا العالم المترامي بين زمنين وعدد كبير من الشخصيات، استخدمت عزالدين اللغة حيلةً روائية للتفريق بين أصوات كل عصر، فاستخدمت ديباجات الخطب لتمييز شخوص البصرة، فيما تنوعت اللغة الحديثة بين مستوى المثقف على لسان هشام، واللغة البسيطة الساخرة على لسان حبيبته.

تقول عزالدين: "كانت اللغة عاملاً أساسياً بالنسبة لي أثناء كتابة الرواية، فهي التحدي، واللعبة التي أحببت أن ألعبها، وأشرك القارئ الذي يقرأ بتمعن معي فيها".

تتماهى لعبة اللغة عند منصورة مع ولعها بالتراث العربي، فكتبت فصلاً على لسان واصل بن عطاء، بدون حرف الراء، الذي اشتهر هو بتجنبه في خطبه، تقول: "كان التحدي أن أكتب بمنطق واصل بن عطاء نفسه، لكن بلغة ليست مهجورة وصعبة بالنسبة للقارئ الحديث".

وتتابع عزالدين: "لم يكن هدفي أن أمرر رسالة بعينها، هناك أنواع أخرى من الكتابة ممكن اللجوء لها لتمرير الرسائل بطريقة مباشرة مثل المقال، في الفن هناك خيط تمشي وراءه، وهو يقترح عليك تفاصيل وأفكاراً تتولد أثناء الكتابة".

يذكر أن "بساتين البصرة" هى الكتاب الثامن لمنصورة عزالدين، سبقها 4 روايات، و3 مجموعات قصصية. وصلت روايتها "وراء الفردوس" إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، كما فازت روايتها "جبل الزمرد" بأفضل رواية عربية من معرض الشارقة للكتاب 2014، ووصلت مجموعتها القصصية "مأوى الغياب" إلى القائمة القصيرة لجائزة الملتقى للقصة العربية عام 2018، والقائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد.


نقلاً عن جريدة الشرق

6-10-2020


Sunday, March 7, 2021

بساتين البصرة: التجريب في بنية رواية الأصوات

 




 د. محمد سمير عبد السلام


تواصل الروائية المصرية المبدعة منصورة عز الدين مشروعها الروائي التجريبي الذي يعزز من جماليات التداخل ما بعد الحداثي بين الأصوات، والأزمنة، والفضاءات، ويحيلنا إلى وفرة العلامات واستبدالاتها الممكنة في فعل الكتابة؛ وما ينطوي عليه من تفكيك لبنية المدلول المركزي طبقا لدريدا؛ فضلا عن الإحالة التجريبية إلى الصوت الآخر، أو الأثر الجمالي الطيفي لحضوره المغاير في بنية الصوت المتكلم في صيرورة السرد؛ كما تؤكد منصورة عز الدين تجاوز مركزية الإدراك، وتعدديته النسبية في العالم الداخلي للشخصية الفنية وحضورها التجريبي، وخطابها المعرفي الاحتمالي في النص؛ وقد بدت هذه الجماليات واضحة في عمليها السابقين أخيلة الظل، ومأوى الغياب؛ إذ اتصلت شخصياتها الفنية برؤى وأحلام، وشخصيات فنية، وحضارية متباينة في خطاب سردي احتمالي ما بعد حداثي يتجاوز بنية إدراك الراوي، ويؤكد وفرة التداخلات، والإحالات إلى التكوين الإبداعي المتجدد للعلامة، أو الأثر، وتداعياته في الخطاب السردي.

وتحيلنا رواية منصورة عز الدين الحديثة "بساتين البصرة" – الصادرة عن دار الشروق بالقاهرة 2020- إلى مزج تجريبي آخر بين الأصوات، والأزمنة، ولكن من خلال الاستعادة الإبداعية للأصداء الفكرية للقرن الثاني الهجري عبر إشارة الساردة لثلاث شخصيات شكلت صورة للمشهد الفلسفي الثقافي العربي، وإمكانية تجدده في وعي ولاوعي شخصية هشام خطاب، وأسلوبه الحداثي العقلاني في التفكير؛ وهذه الشخصيات التاريخية الواردة في خطاب الساردة هي الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وواصل بن عطاء؛ وسنلاحظ أنهم جميعا عاشوا في البصرة في القرن الثاني للهجرة وقت مناقشة إشكاليات فكرية مازالت أصداؤها فاعلة في الأدب الحديث، وفي تطور الذاكرة الجمعية، ونماذج اللاشعور الجمعي؛ مثل الجبر والاختيار، وموقع مرتكب الكبيرة، والصلة بين العلامات الحلمية اللاواعية، والمصائر الواقعية، والتاريخية للشخصيات، وكذلك تجدد سؤال الهوية عبر الشخصيات المضافة المتخيلة، والتي اكتسبت أيضا روح العصر وثقافته؛ مثل يزيد بن أبيه، ومالك النساج، ومجيبة؛ لأن إرادة التشكيل النسبي للوجود كانت جزءا رئيسيا من تطور بنى هذه الشخصيات في تفاعلها مع القوى القدرية المهيمنة، وتحولات الحدث.

وقد أشارت ساردة منصورة عز الدين إلى شخصية أبي حيان التوحيدي في سياق استرجاعي في وعي هشام حينما كان يفكر في أهمية الحصول على الكتب النادرة (1) التي تعزز من التفكير العقلاني / الحداثي، وصلته بأستاذه المفكر الذي يحاول أن يواصل مسيرة التنوير؛ ومن ثم أرى أن رواية منصورة عز الدين تحمل دلالات ثقافية عميقة تقع فيما وراء هذا المزج بين الشخصيات، والأزمنة؛ فإحالتها إلى الخطاب العقلاني في سياق نقاش واصل والحسن، وتأثيره في دائرة الشخصيات الفنية التي حملت روح العصر، وكذلك التوسع في دلالات المستوى اللاواعي لعلامة الياسمين يوحي بأن خطاب منصورة عز الدين السردي يعزز من إمكانية تجدد أصداء العقلانية والمستويات العميقة من حضور الذات عبر أزمنة وسياقات زمكانية مختلفة تجلت في الصوت السردي التجريبي المتداخل بين وعي هشام ويزيد، ويذكرني بتصور آلان تورين حول تأكيد المشروع الحداثي للذات والعقل في كتابه نقد الحداثة؛ فتكرارعلامة الياسمين في وعي، ولاوعي شخصيات مثل الحسن البصري، وكتاب ابن سيرين، وأحلام يزيد ومصيره في العالم الآخر، وفي صيرورة هشام السردية وتطور حكمته الخاصة، يوحي بتجدد المستوى اللاواعي من الوجود الذاتي، وكذلك الحياة الأخرى لنماذج اللاوعي الجمعي ضمن ثراء مدلول الذات، أو ثراء الهوية السردية والصوت السردي من جهة، وإمكانية تجدد الخطاب الحداثي العقلاني عبر نقاط زمنية مختلفة، وشخصيات تبحث عن الحكمة من داخل الاتصال الحضاري بين الرؤى التنويرية، ووهجها الفكري المتجدد في لحظة حضور ملتبسة وإشكالية وتجريبية معا من جهة أخرى؛ وهو ما يذكرنا أيضا بالإشكاليات الثقافية، والتاريخية، وتفاعلات القوى الكامنة فيما وراء بنية الخطاب في تصور ميشيل فوكو؛ ويمكننا ملاحظة أثر هذه القوى المتفاعلة عبر تطور وعي هشام، وخطابه العقلاني الحداثي الممزوج بتأثير واصل، وتسبيحته، وقوة لغته الخطابية الخاصة، وهوية يزيد الخيالية، وامتدادها الحلمي في علامة الياسمين التي تتمركز حولها الإشكاليات الفكرية القديمة المتجددة، ومصائر الشخصيات، وعمق المستوى الذاتي من الوجود من اللاوعي إلى احتمالات تشكل بنيتي الإدراك، والهوية الشخصية.

يمكننا إذا ملاحظة التفاعل بين القوى الثقافية ضمن الصوت السردي التجريبي لهشام والتباسه بصوت يزيد الذي يتدرج من الالتباس الزمني إلى الإيغال في علاقات القوى الثقافية المتعلقة بالماضي، وعودته كآخر محتمل في وعي ولاوعي هشام؛ ومن ثم سنلاحظ امتداد القوة الثقافية المتعلقة ببكارة علامات الحلم، وتفسيرها من خلال عمليات الإحالة المعقدة إلى استبدالات العلامة، واتصالها بالتاريخ، وبتجدد قوى اللاوعي في الخطاب الأدبي الحداثي الحديث؛ وسنلاحظ الحضور الخيالي الفني للأنثى الطائرة في لوحة مارك شاجال، واتصالها بالهوية السردية لميرفت وخطاب هشام حول حضورها الخاص، وأثرها الجمالي المتحول في الوعي، كما تتصل نقاشات الماضي حول الإرادة ومرتكب الكبيرة بالمصير السردي الخيالي لمالك النساج ومجيبة عقب مقتل يزيد؛ إذ تظل أفكار واصل في موضع نقاش سردي في حدوث الأوبئة وموقع مالك الملتبس وندمه، وفي عمق الإحساس بالتيه في مصير مجيبة، كما يتحول ذلك الوهج الفكري نفسه إلى عنصر ثقافي فاعل في اتصال عقلانية هشام بمصير التوحيدي، وأستاذه المفكر، ورسائله إلى ميرفت، وبحثه عن حكمة متجددة تصل بين التراث، وأثر القوى الثقافية الحداثية في تشكيل لحظة الحكي؛ ومن ثم أرى أيضا أن عتبة العنوان / بساتين البصرة تشير إلى تلك الدلالات الثقافية المتضمنة في الخطاب السردي؛ إذ تعكس مزج الوهج الفكري القديم في مدينة البصرة ببساتين الياسمين الممتدة في وعي ولاوعي الشخصيات عبر الأزمنة؛ مثل يزيد، وواصل، والحسن، وهشام، وصورة السيدة الغريبة في وعي ليلى والدة هشام، وفي فضاء قبر يزيد وخلوة مالك النساج؛ وكأن الساردة تشير ضمنيا إلى مبدأي التواتر، والتجدد في عمليات الإحالة الحلمية، والسيميولوجية، والوجودية إلى الآخر، أو إلى العلامات التفسيرية البديلة في مستويات الوجود العميقة اللاواعية واللامرئية.

التجريب في بنية رواية الأصوات
تقوم رواية بساتين البصرة لمنصورة عز الدين على تقديم منظور الشخصيات من داخل خطاب الشخصية وصوتها الخاص؛ ومن ثم فهي رواية أصوات تجريبية، وتؤكد البوليفونية أو التعددية في علاقة السارد بالشخصية طبقا لتصور باختين؛ وقد لاحظت أن ساردة منصورة عز الدين قدمت أصوات الرواية عبر الخطاب الداخلي المباشر بضمير المتكلم لكل شخصية على حدة فيما عدا الأجزاء الخاصة بوعي ليلى؛ والتي قدمتها الساردة عبر الخطاب الداخلي غير المباشر؛ أي أن الساردة هي من قدمت صوت ليلى الداخلي بضمير الغائب؛ وإن استبطنت أخيلة المياه، والآخر في تأملاتها الأنثوية، كما أشارت للحضور الظاهراتي للمرأة الغريبة، واقترانها بالياسمين في وعي، ولاوعي الشخصية؛ ومن ثم تؤكد الرواية تعددية الأصوات، وعمقها الداخلي، واتصالها الجزئي بروح الماضي في بعض الشخصيات؛ وبخاصة في تخييل صوت واصل.

ويميز جيرار جينيت منظور الشخصية - في رواية الأصوات – باصطلاح التبئير الداخلي المتعدد؛ حيث يمكن أن نرى الحدث الواحد بطرق متباينة من خلال وجهات نظر شخصيات عديدة في النص الروائي؛ ويمثل لذلك برواية الخاتم والكتاب لروبرت براونينك؛ حيث تروى القضية الجنائية عبر وجهات نظر عديدة للمجرم، والضحايا، والدفاع على التوالي (2). ولكن منصورة عز الدين قد توسعت في تقديم شكل تجريبي من رواية الأصوات؛ ورغم أنها قد قدمت كلا من حدث تفسير حلم الياسمين من أكثر من زاوية، وكذلك قدمت حدث اكتشاف يزيد لخيانة صديقه مالك مع زوجته مجيبة من أكثر من زاوية؛ فقد بني النص أيضا على تقنيات سردية تجريبية أخرى مضافة لجماليات رواية الأصوات بأشكالها التقليدية؛ فقد فككت بنية الصوت السردي عبر عمليات التداخل في الهوية، والإحالة إلى الآخر، كما حرصت الساردة على إيصال إشارات للمروي عليه، تؤكد أصالة عمليات التداخل بين الشخصيات الفنية في نشوئها، وفي مصائرها الملتبسة، كما استخدمت الساردة تقنيتي الإكمال، والإضافة في بنية الصوت السردي؛ فالاتصال الجمالي العابر للزمكانية بين الشخصيات منح الساردة القدرة على الإضافة لما قدمته الشخصية عن نفسها عبر أصوات أخرى؛ فنحن نعرف جزءا من عالم هشام من داخل وعي مرفت، ونعرف اتصال يزيد بعلامة الياسمين – في أخيلة العالم الآخر – عبر صوت مالك، ونعرف بعض الصور الحلمية المقطعة، وبعض الانطباعات المكملة لشخصيتي مالك ويزيد من داخل وعي ولاوعي واصل، ونعلم بعض اللمحات الحلمية، والأنثوية المجازية عن ليلي، وولادة هشام الملتبسة من خلال إشارات الساردة التي استبطنت عالمها الداخلي في علاقته المعقدة بأحلام المياه الانثوية، وبالمرأة الغريبة التي اقترنت بالفيضان، والتداخل الإبداعي بين المقابر، والمياه في اللاوعي.

ويمكننا قراءة التجريب في بنية رواية الأصوات عبر بعض التفاصيل في الخطاب الداخلي المباشر لكل من هشام، ويزيد، وواصل؛ فهشام يتحدث عن القوة النفسية الملحة لاسم يزيد في وعيه، واتصال اسمه بالحلم القديم عن الياسمين الذي تجمعه الملائكة من بساتين البصرة، وفسره الحسن بذهاب العلماء، ثم يحيلنا هشام إلى السديم المجازي المتخيل الذي حجب عنه الرؤية فيما عدا هذا (3).

يؤسس خطاب هشام – هنا – إلى التداخل في بنية الهوية، وفي بنية الصوت السردي؛ وتبدو علامة السديم كقوة حلمية مجازية تؤكد الاستبدال، والتداخل في بنية الصوت، وفي درجة اتصاله بروح الماضي عبر أخيلة شخصية يزيد، وحلمه الذي يؤكد تجدد الوهج الفكري للقرن الثاني الهجري في سياقات أخرى متخيلة و أدائية؛ فيزيد يعاين أفكار الإرادة الحرة في زمن الوباء، وهشام يحاول استعادة وهج التفكير العقلاني بصور تتداخل مع بحثه المعرفي العقلاني؛ ومن ثم يحيلنا الخطاب الداخلي المباشر إلى كل من الشخصية الفنية / هشام، والصوت الآخر المتخيل ليزيد، واستعادة روح العصر عبر الإحالة إلى حلم الياسمين ونبوءة وفاة واصل، وقوة الاستبدال المجازي في المراوحة بين التجسد، وطاقة السديم المتجاوزة لمركزية الصوت السردي في النص.

وتنتقل الساردة من تقديم خطاب هشام الذي يستحضر يزيد إلى الإعلاء من الحضور القديم لصوت يزيد في حيرته بين المتناقضات، وتأملاته في قضية اختيار الإنسان، وصراعها مع أهوال مرض الطاعون في عصره، ثم تجدد حلم الياسمين في لاوعيه؛ ورؤيته للملائكة تقطفه هذه المرة من البيت الذي دخله. (4)

إننا نعاين – في خطاب يزيد – الإعلاء من أخيلة الصوت القديم، وتجدد القضايا الفلسفية المتعلقة بالجبر والاختيار، واتساع صور الحلم التجريبية في آن؛ وكأن الصوت القديم يحمل بداخله بذور التجدد في وعي الآخر، وفي لحظات زمنية مغايرة تستلهم تلك التأملات ضمن تفاعل مغاير للقوى الثقافية المشكلة للخطاب؛ فيزيد يوحي بنبوءة موته، وفي الوقت نفسه يومئ إلى الفاعلية التفسيرية الإبداعية الكامنة في علامات الحلم، وطرائق صياغتها، وتحولاتها السيميائية النسبية، وإمكانية تشكيلها لبلاغة نصية تجريبية في المزج بين البهجة، والانقطاع ضمن بنيتها الرمزية التجريبية الخاصة؛ ويحيلنا صوت يزيد أيضا إلى تجدد سؤال حرية الاختيار، وتشكيل الهوية الذاتية، وازدواجية ذلك السؤال ببحث هشام عن صوته الذاتي، والعقلاني الخاص ضمن صراعات البنى الثقافية في زمن الحكي المعاصر.

وتتجلى إشكالية تشكيل الهوية في خطاب مالك النساج الذي يسعى للحصول على لحظة إبداعية عبر نسخ كتاب مؤثر، أو في علاقته بالرموز والعلامات وإحالاتها إلى رؤى تفسيرية نسبية، وتحمل قدرا من الشعرية، ثم نعاين علاقته السردية بموضوع مرتكب الكبيرة عند واصل في علاقته بمجيبة وقتله لصديقه يزيد، وندمه واستغفاره بجوار قبر يزيد وعلامة شجرة الياسمين. (5).

هكذا تتواتر – في نص منصورة عز الدين – القضايا الفلسفية في سرد يحتفي بالمزج بين الفكري، وصخب الصيرورة السردية التي تعيد طرح سؤال مرتكب الكبيرة عبر خطيئة مالك، وتعيد تشكيل فكرة الإرادة الحرة في رؤيته لمهنته، وتعزز من اتساع العلاقة بين المستوى اللاواعي من الوجود، والمصير المؤجل لكل من مالك ويزيد في علاقتهما السيميائية بشجرة الياسمين في الفضاء التجريبي والحلمي الآخر للخلوة.

أما واصل بن عطاء فيحكي أن قوة شدته للخلف أمام بيت بحديقة مغطاة بالياسمين، واستحال إلى زهرة ياسمين ضمن كومة من ياسمين ذابل، حملته العاصفة إلى البيت (6).

لقد تضاعف الحضور الحلمي لعلامة الياسمين في صوت واصل المتخيل، وعلت درجة الاستبدال في بنيته الرمزية؛ لتدل على حدة التباين، والاختلاف بين قوتي الإرادة الحرة، والقوة الحلمية للعاصفة، أو التحول الشعري إلى زهرة ياسمين تقع ضمن انتشار لانهائي للعلامة التي تؤكد كلا من بلاغة اللغة الرمزية الحداثية للحلم من جهة، والغياب في رمزية الحديقة التي تنطوي على التدمير من جهة أخرى.

ومثلما شكلت بعض شخصيات نص منصورة عز الدين حضورها الخاص من داخل تأملات الإرادة الحرة قديما، أوالتشكيل الوجودي للذات في السياق الحديث؛ فقد أسهم إغواء الصورة في إثراء الهوية الذاتية لكل لمجيبة، وليلى، وميرفت؛ ومن ثم يكشف النص عن اتصال وعي الأنثى بأخيلة الآخر، وحلم اليقظة، والأثر الجمالي المتحول للصورة.

تحولت شخصية مجيبة إلى الوحدة، والتيه، ومواجهة مصيرها الوجودي عقب مقتل يزيد؛ وأعادت قراءة تطورها الخاص من داخل إغواء أخيلة مجنونة الحي التي حملت اسمها؛ وقد شاع أن النظر إليها يورث الجنون؛ فضلا عن اشتياقها لمشهد بساتين البصرة، وحاراتها القديمة، وباعة السمك، وصور المجاذيب والأشرار(7).

يمكننا – إذا – أن نلمح ذلك التنازع السيميائي بين كل من علامات فضاء البصرة البهيج، وفضاء الوحدة الذي تسكنه أخيلة مجنونة الحي، وإمكانية تجسدها الخيالي في عالم مجيبة الداخلي.

وقد أشارت الساردة إلى اقتران الفيضان – في وعي ولاوعي ليلى – بأخيلة المقابر المفتوحة، وإيماءات الغضب، وصرخات المرأة الغريبة، ثم اتصلت صورة المرأة بحالة من الهدوء والصمت، وتنظيم زهور الياسمين في أشكال هندسية؛ وكأن كل زهرة تحمل صورة روح نبيلة (8).

تجلت – إذا – إيماءات البهجة، والتدمير، والتأملات الأنثوية في حلم اليقظة الذي يتصل بحضور المرأة الغريبة، وأخيلة النشوء والتجدد في الصورة القديمة للعاشق في وعي ليلى؛ وكأن هشام قد نشأ ضمن هذه الصور، والأخيلة المتداخلة، والمتناقضة التي تشير إلى ثراء مدلول الياسمين، واتصاله بالموت، والحياة، وأخيلة الولادة المجازية، والانبعاث معا.

أما شخصية ميرفت فتشير – في خطابها الداخلي – إلى تأويلها لحضورها الخاص من داخل إغواء صورة بيلا في لوحة مارك شاجال، وتحويرها لمظهرها؛ ليكتسب جماليات الأثر(9).

وإذا تأملنا صورة بيلا في لوحات مارك شاجال سنلاحظ اقترانها ببنى العشق، والطيران، والصخب، والتعالي الشعري في المشهد المتضمن في الواقع، وما يتجاوزه من فضاءات إبداعية مجازية تتجاوز البنية الأولى للفضاء المستقر عبر حدث الطيران؛ وقد امتزجت صورة بيلا بانطباعات هشام الأولى عن ميرفت عبر صورتها – في أحلام يقظته – كأنثى متخيلة طائرة تشبه نساء شاجال؛ وقد حاولت ميرفت أن تؤكد ذلك الانطباع الشعري بتحوير هويتها الأنثوية الجمالية؛ لتشبه اللوحة؛ وإن أشارت – في خطابها الشخصي (10) – إلى اختلافها عن امرأة شاجال؛ وكأن السرد الروائي يواصل لعبة التكرار الشعري، والاختلاف، ويؤكد رؤية الذات من خلال الآخر؛ وهي العملية السيميائية الرئيسية في تحولات الدال، والمدلول في الكتابة الأولى، والتي أكدها دريدا عبر الاستبدال، والإكمال، والتأجيل؛ وسنعاين هذه العملية بصورة أسبق حين نعود إلى تصور فرويد حول بنية الحلم التي تحيلنا إلى المدلول الآخر دائما الذي قد يصل إلى النقيض؛ وربما تعود هذه الاستبدالات إلى منطق الحلم الداخلي نفسه، وإلى تفسير ابن سيرين، ولكن بصورة تؤكد جذور الثقافة العربية والإسلامية في بنية التأويل؛ وسنجد أن صوت ميرفت أحالنا أكثر من مرة إلى اهتمام هشام بمطالعة كتاب ابن سيرين؛ وكأن المتوالية السردية الظاهرة المتعلقة بالتشابه بين امرأة شاجال، وميرفت تتضمن متوالية أخرى خفية تتضمن لعبة الإحالات الحلمية الواسعة إلى صورة الآخر، والمدلول الآخر، والفضاء الآخر الذي يشبه فضاء شاجال الذي استنزف بنية الجاذبية، واستقرار الأشياء في عالم شاجال الواقعي الأول.

هكذا تضيف الأصوات السردية – في رواية منصورة عز الدين – تنويعات جمالية سردية وتقسيرية جديدة لحدثي حلم الياسمين، وخطيئة مالك ومجيبة؛ فضلا عن الإحالة إلى تطور هشام والشخصيات المحيطة بحضوره الآني مثل ليلى / الأم، وميرفت، والكشف عن تعدد مستويات هويته، ووجوده الذي ينطوي على بلاغة صوت الآخر، أو حياته الجمالية الأخرى.

رمزية الحلم واستبدالاته
يؤكد فرويد الإحالة إلى المدلول الآخر في تفسير البنية السيميائية للحلم؛ وسنجد أنه أعاد إنتاج الدوال ضمن المدلول الآخر، أو النقيض أحيانا في كتابه تفسير الأحلام؛ فالحلم يقع ضمن شبكة واسعة من الإحالات، والاستبدالات التي تذكرنا بتعددية الرموز، والدوال في الكتابة؛ وتجاوزها للمدلول المركزي الظاهر أحيانا.

يؤول فرويد – في تفسير الأحلام - حلما لامرأة غاصت في مياه مظلمة ينعكس فيها قمر شاحب، بأن مثل هذه الأحلام توحي بحدث الميلاد على عكس الحدث المبلغ عنه من قبل الرائي في الحلم الظاهر؛ إذ يؤول حدث الغوص في المياه المقمرة بالخروج، أو بالولادة. (11)

يؤكد فرويد – إذا – التحولات السيميائية للعلامة في بنية الحلم من جهة، ولعبة الإحالات الخيالية الواسعة إلى الآخر سواء أكان شخصا، أو مدلولا، أو صورة فيما وراء البنية الأولى للحدث الظاهر من جهة أخرى؛ وهو ما تؤكد – ضمنيا – ساردة منصورة عز الدين في بساتين البصرة؛ فدائما المتوالية القصصية تومئ إلى الآخر في بنيتها الخاصة؛ وقد أشار صوت هشام – الملتبس بأخيلة يزيد – في بداية الرواية إلى ذلك القمر الذي رآه كمصدر للنبوءات حول تاريخه، وهويته؛ ليصل إلى هيمنة البنية الرمزية واللغوية / الشعرية لحلم الياسمين الذي تقطفه الملائكة من بساتين البصرة. (12)؛ وأرى أن القمر - في لعبة إحالات الدوال في صوت هشام، وخطابه السردي – يومئ أيضا إلى نوع من الولادة المجازية الأخرى للصوت، يشابه حدث الخروج الباطن طبقا لفرويد؛ فمتوالية حلم الياسمين – طبقا للجمل الأولى في خطاب هشام – كانت مقدمة لحياته السرية الأخرى في شخصية يزيد؛ ولا يمكننا فهم خاتمة النص التي عايش فيها هشام قبر يزيد المحاط برائحة الياسمين إلا بالعودة إلى المدلول المجازي البديل لتذكر حلم الياسمين؛ وهو الحدث الخفي المتضمن في الجمل الأولى من الخطاب التي تستلهم نبوءات القمر بولادة متجددة للصوت السردي؛ وأرى أن تلك الولادة الشعرية الخفية للصوت من أهم ما يميز التجريب في بنية رواية الأصوات في نص منصورة عز الدين، ويمنح السرد التحرر من التأويل الظاهر للإشارات، والوظائف، والمتواليات بصورة مركزية؛ ومن ثم تأكيد الصيرورة السردية والاتصال بين الأصوات حلميا، ومجازيا.

التجانس، والاختلاف في بنية الخطاب
الرواية – بوصفها حوارا بين السارد والمروي عليه – تنتج خطابا فيه مجموعة من العلامات، والصور التي تتكرر؛ لتوحي برسالة بعينها للمروي عليه، أو تنتج تأثيرا بلاغيا وسياقيا نسبيا لكلمة ما في الوعي، وطرائق الإدراك؛ وقد أكدت الدراسات التداولية المعاصرة هذه الطرائق في توصيف الخطاب، وطرائق تجانسه، وتناول بعض الكلمات ذات الأثر الجمالي في سياقها النسبي في بنية الإيصال المتضمنة في الخطاب؛ ويمكننا ملاحظة بعض الظواهر اللغوية والأدبية – في رواية منصورة عز الدين – انطلاقا من المقولات المنهجية التداولية؛ مثل بنية التجانس طبقا لجمل النص وعلاماته الأولى، وأفعال الكلام، وأثر الكلمة، ومدلولها السياقي.

أولا: التجانس في بنية الخطاب طبقا للعلامات والجمل الأولى
يحيلنا صوت هشام – في الفصل الأخير من الرواية – إلى تضاعف علامة الياسمين في واقعه، وكينونته، وتجاوزها لنطاق الحلم، ثم ذبول ذلك الياسمين مع قوته الشبحية، ويختم خطابه بتصاعد رائحة الياسمين الطيفية من داخل أخيلة قبر يزيد (13) الممثل الاستعاري لصوت هشام الآخر؛ ولا يمكن تأويل هذه الجمل – في خطاب هشام السردي – إلا بالعودة إلى الجمل الأولى التي وردت فيها علامة الياسمين؛ لنكشف عن قيمتي التجانس، والاختلاف في بنية الخطاب؛ فهشام يعاين تحولات للياسمين لا يمكن إدراكها إلا بالتصور السياقي الحلمي لعلامة الياسمين الأولى ورؤية ابن سيرين لرمزيته، ودلالة موت العلماء؛ ومن ثم فتضاعف الياسمين الأخير في النص؛ يمثل تضاعفا آخر لمدلول الموت، أو الموت المجازي؛ حيث يضاعف الخطاب – في النهايات – من قوة الياسمين الشبحية، وحضور صورة قبر يزيد المتخيل في وعي هشام وكينونته؛ وكأنه يضاعف من التجانس المتصل بدلالة الموت، أو الحضور الشبحي التي ارتبطت بتأويل ابن سيرين في المقاطع الأولى من الخطاب.

ويستعيد صوت هشام أيضا تسبيحة واصل بن عطاء – في نهاية النص – ليكشف عن التجانس بين صوته الخاص في بحثه عن العقلانية، وصوت واصل الذي ارتبط بتأملات الاختيار، والتجارب السردية لكل من يزيد، ومالك، ومجيبة؛ فكل منهم اتصل – سرديا – بالخطيئة، والاختيار، وطرائق قراءة الكينونة الذاتية؛ ومن ثم صارت تسبيحة واصل هي الرابط اللغوي المؤكد للتجانس بين الأصوات، والأزمنة حين نعود إلى مدلولها الأول، وبكارة تأثيرها في مصائر الشخوص المتخيلة، وفي حكمة هشام الأخرى.

ثانيا: التأكيدات الاستعارية في أفعال الكلام
يميز جون سيرل التأكيدات الاستعارية – في دراسته المعنونة بالتعبير والمعنى، دراسات في نظرية الأفعال الكلامية – بوجود علاقات المقارنة، والمشابهة، وبأنها لا تفترض تأكيد عملية التشابه حرفيا؛ وإنما تقوم على إنتاجية الاستعارة، وفهمها، والحديث عن المجال الدلالي المتمركز حول التعبيرات المجازية حول المسند إليه مثلا. (14)

هكذا يمكننا قراءة حلم واصل – في رواية منصورة عز الدين – من داخل مفهوم التأكيدات الاستعارية طبقا لجون سيرل؛ فالمتوالية السردية التي تشير إلى حلم واصل بتحوله لزهرة ياسمين أمام المنزل المملوء بالياسمين الذابل وقت هبوب عاصفة، تتضمن فعلا كلاميا يختص بالتأكيدات الاستعارية؛ فالبنية المتضمنة – فيما وراء المتوالية السردية – تشير إلى تأكيد نبوءة وفاة واصل ضمن زمن للوباء، وإلى انبعاث الجدل الفلسفي حول حرية الاختيار في أزمنة أخرى؛ ويؤكد ذلك التصور الحضور الشبحي لرائحة الياسمين في السياق السردي الاستعاري في النص. وسنلاحظ أيضا أن مزج الساردة بين الياسمين، ومشهد اختلاط الفيضان بالمقابر في وعي ليلي، يتضمن – فيما وراء ذلك الخطاب التأكيدي الاستعاري – المزج ما بعد الحداثي بين بهجة الياسمين المعلقة، وفراغات المقابر الداكنة؛ وهو مزج متوافق مع نشوء هشام الملتبس، وصيرورته الغامضة في النص.

ثالثا: الأثر الجمالي للكلمة
تتواتر كلمة الياسمين في خطاب ساردة منصورة عز الدين، وفي أصوات الرواة بدرجات مختلفة؛ وهو ما يوحي أنها تحاول أن تؤثر في إدراك المروي عليه للمجال المرتبط بالكلمة في كل من الحلم، والواقع، والذاكرة الجمعية؛ كما تتواتر تسبيحة واصل؛ لتوحي بعبورها للزمكانية، وتجددها في البحث عن الحكمة بدلالاتها الثقافية، والوجودية، والفلسفية.

ويؤكد ديفيد كوفير وآخرون – في كتاب قوة الكلمات – أن تمثيلات العلامة اللغوية تتصل بسياقات الخطاب والنص، والدلالات الاجتماعية، وكذلك سياق التلقي (15)؛ وهو ما يؤكد عمليات التحول، والتغير في تأثير بنى الكلمات في الخطاب؛ ومن ثم ستظل علامة الياسمين تحمل رمزية موت العلماء في التراث، وتلك البهجة الخفية التي توحي بانبعاث قضايا التراث نفسه في السياق النسبي للمتلقي، وستظل الكلمات التي وصفت بها ميرفت نساء شاجال الطائرات مفتتحا لأخيلة متجددة حول الهوية، والهوية الأنثوية المجازية ضمن تمثيلات الكلمة، ومجالاتها الدلالية المتحولة.

هوامش الدراسة:
(1) راجع، منصورة عز الدين، بساتين البصرة، دار الشروق بالقاهرة، سنة 2020، ص-ص 23، 24.

(2) راجع، جيرار جينيت، خطاب الحكاية، بحث في المنهج، ت: محمد معتصم وعبد الجليل الأزدي وعمر حلي، المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، ط2، 1997، ص-ص 201، 202.

(3) راجع، منصورة عز الدين، السابق، ص-ص 36، 37.

(4) راجع، السابق، ص-ص 43، 44.

(5) راجع، السابق، ص 52، 57، 67.

(6) راجع، السابق، ص 56.

(7) راجع، السابق، ص-ص 72، 73.

(8) راجع، السابق، ص 86، 96.

(9) راجع، السابق، ص-ص 106، 107.

(10) راجع، السابق، الصفحتين نفسيهما.

(11) Read, Sigmund Freud, The Interpretation of Dreams, Edited and Translated by: James Strachey, Basic Books, New York, 2010, p. 410, 411.

(12) راجع، منصورة عز الدين، السابق، ص 10.

(13) راجع، السابق، ص 155، 163.

(14) Read, John R. Searle, Expression and Meaning, Studies in The Theory of Speech Acts, Cambridge University Press, 1999, p. 88, 89.

(15) Read, David S. Kaufer, Sugura Ishizaki, Brians S. Butler and Jeff Collins, The Power of Words, Unveiling The Speaker and Writer's Hidden Craft, Routledge, New York, 2013, p. 49.

منصورة عز الدين تكشف أغوار النفس وتطرح أسئلة جدلية

 




 نشوة أحمد

في المنطقة الشائكة، التي نشبت فيها وما زالت تنشب، معارك الفلاسفة وعلماء الكلام، اتخذت الكاتبة المصرية منصورة عز الدين قرارها بالشروع في الولوج إلى "بساتين البصرة" (دار الشروق– القاهرة 2020) وقد انطلقت خلالها من فكرة تناسخ الأرواح، ذلك الاعتقاد الذي توزع أثره- على مدار تاريخ البشرية ودياناتها- بين الحقيقة والفانتازيا، لتعيد إذكاء المعركة الفلسفية ذاتها وتطلق شرارتها من جديد.

تبدأ الرحلة بالإشارة إلى ما رآه رجل في منامه وقصه على الإمام الحسن البصري، من أن الملائكة نزلت من السماء تلتقط الياسمين من البصرة، وفسر الإمام الرؤية بذهاب علماء البصرة. ثم انتقلت الكاتبة إلى بداية ثانية عبر حلم آخر لأحد الشخوص المحورية بالنص هشام خطاب- في مطلع الألفية الثالثة- الذي رأى في منامه أنه يأكل قمراً.

بهاتين البدايتين أرادت الكاتبة الإعلان عن فضاءين مختلفين، اختارت أن يسلكهما السرد في خط متواز، أحدهما في أواخر عصر الدولة الأموية، حيث مجالس علماء البصرة ومناظراتهم واختلاف رؤاهم إلى حد دفع واصل بن عطاء لاعتزال معلمه الحسن البصري، كاشفاً عن رأي يضع مرتكب الكبائر في منزلة بين منزلتين (الكفر والإيمان)، ثم تبعه فريق من مؤيديه وأطلق عليه وأتباعه "المعتزلة". أما الفضاء الثاني، فيمتد منذ بداية القرن الحادي والعشرين حتى اللحظة القريبة الراهنة، جامعاً بين القاهرة، وشمال مصر وجنوبها.

تبدأ الكاتبة رحلة السرد عبر فضاءاتها المختلفة والمتوازية بتوظيفها الحلم، لتستنطق اللاوعي وترفع صخرة النسيان عن صدر الذاكرة وتمنح خرائبها حق إفشاء الأسرار، وتعطي شخوصها المحورية صوت السرد فيعلن هشام خطاب عن شعوره بانتماء روحه إلى جسد آخر ومدينة أخرى. ويشي باغترابه عن المنيا في جنوب مصر حيث يقيم، وعن امرأة يقال عنها أمه، متتبعاً رائحة الياسمين التي تفوح من الماضي فتقوده إلى حكايته الأولى حين كانت روحه لا تزال تسكن جسد يزيد بن أبيه، تتجول في شوارع البصرة.

 

يمضي السرد جيئة وذهاباً بين الحاضر والماضي، ويستمر ذاتياً على لسان الشخوص، مقسماً بين هشام خطاب، واصل بن عطاء، مالك بن عدي النساخ، يزيد بن أبيه الخواص، مجيبة زوجة يزيد، وبيلا، ثم تحيل الكاتبة مهمة الحكي إلى الراوي العليم فتنقل عبر صوته صوراً من عالم ليلى؛ أم هشام خطاب. وربما كان الدافع لاستحواذ الراوي على صوت السرد-كمرة وحيدة- عند الدخول إلى عوالم ليلى؛ عائداً إلى حادثة موت هذه الشخصية والتي لا يوافقها منطق السرد الذاتي من الداخل، ولم يكن يتسنى للوصف أن ينطلي بكل هذه الدقة وكل هذا الصدق إلا عبر صوت الراوي.

المراوغة والاستباق

ظلت الكاتبة تراوغ ببعض الحيل الاستباقية، فتمنح طرف خيط من الحدث ثم تترك القارئ يلهث خلف البقية؛ أملاً في إشباع غريزة الكشف. فتارة يستبق يزيد بالإشارة إلى البيت الذي غير حياته من دون أن يخبر عن قصة هذا البيت. وتارة يستبق مالك بن عدي النساخ بذكر ضياع حلمه فيزج باسم مجيبة زوجة يزيد ويبرئها من أن تكون هي السبب في ما آل إليه، وبذلك يحفز التساؤلات حول علاقة مالك بمجيبة. وتارة أخرى تستبق بيلا بالإشارة إلى تغير هشام بعد الحريق، فتثير تساؤلات أخرى حول الحريق والجاني والدافع والضحايا. وهكذا تضمن الكاتبة عبر هذه التقنية؛ أسر قارئها حتى اللحظة الأخيرة حيث لا عدول عن الإبحار في عوالم النص، ولا فكاك من قيده.

تضرب "بساتين البصرة" مثالاً فذاً لرواية نفسية فلسفية بامتياز، حيث بدت الكاتبة مهمومة بتشريح النفس وخطاياها، تعلن انحيازاً ضمنياً للجانب الذي يعتقد في عودة الروح إلى جسد غير جسدها الأول، ربما بغية الحصول على فرصة ثانية لتأكيد الاختبار والاختيار، فيزيد بن أبيه الذي قتل شيخاً مريضاً، لم يفعل فعلته من أجل مال أو سلطان وإنما– كما ارتأت نفسه- لمساعدة الشيخ على تجاوز أنينه واستعجالاً لموته المحقق جراء إصابته بالطاعون. ثم إنه ما إن أنهى جريمته حتى تجرع خيانة الزوجة وغدر الصديق الذي ساقه إلى الموت ودفنه من دون جنازة أو غسل.

هكذا بدا يزيد مستحقاً لميلاد جديد، لكنه في حياته الثانية لم يحد عن خياره الأول، ومرة أخرى تلوثت يداه بالخطيئة ذاتها، فقتل أمه وقتل معلمه. ولأجل تحقيق غايتها في سبر أغوار النفس لجأت الكاتبة إلى الحلم الذي اتخذ منحى إشارياً يعتمد على الرمز والشفرة، سواء في ما اقتبسته من روايات وردت في كتاب "تفسير الأحلام" لابن سيرين، أو في ما ساقته مخيلتها عبر الشخوص لمنح الذاكرة متنفساً، والوصل بين عالم المخبوء في النفس وعالم الواقع، وكذلك للربط بين عالم مضى وطوى التاريخ صفحته فما بقي منه إلا أثراً، وعالم آخر من الواقع المعيش. وهكذا بات الحلم وسيلة ناجعة أتاحت نسج الأحداث على اختلاف فضاءاتها في لوحة واحدة منسجمة التفاصيل. واعتمدت عز الدين تقنيات تيار الوعي والمونولوغ الداخلي وكشفت عبر تلك الأدوات عن تناقضات النفس البشرية التي جبلت على الخطيئة والندم ثم معاودة الخطيئة والندم. وكشفت أيضاً عن كثير من أمراضها وأعطابها الأخرى مثل التعاطف مع الجاني (متلازمة استوكهولم)، فـهشام خطاب يتعاطف مع معلمه الذي يسرق أفكاره وينسبها لنفسه، بل يتجاوز الأمر حدود التعاطف إلى الشعور بالخجل؛ ما يدفعه للاختفاء بعض الوقت كي لا يشعر معلمه السارق بالحرج!

الماضي والحنين

ظل الحنين إلى الماضي سمةً غلبت على كل الشخوص في النص كأنما هي جزء أصيل في تكوين النفس. فبينما يحن هشام إلى البصرة وبساتينها حيث موطن روحه في جسدها الأول، يحن مالك بن عدي إلى براءته قبل أن يتجاوز خطاً رفيعاً يفصلها عن الخطيئة. وتحن ليلى إلى أهلها الذين فارقتهم هرباً للزواج، وتحن بيلا أو مرفت لصباها وشبابها، فنداهة الماضي ظلت تمارس سحرها للاستحواذ على عقول الشخوص. ويعدو حضور النوستالجيا في النص الروائي كونها سمة رئيسة للشخوص، إذ تجسد حالة وتعبر عن صورة حقيقية من واقع معيش، فالكل مسكون بهذه النوستالجيا وذاك الحنين.

بين ثنايا السرد الذي وصل بين الماضي والحاضر، مرّرت الكاتبة العديد من القضايا الشائكة، ضمناً تارة وصراحة طوراً، فالأرواح حين تعود في أجساد جديدة لا تكرر إلا خطاياها، والتاريخ يعيد إنتاج مآسيه، أما الطبيعة، فلا تنفك تواجه العالم بكوارث وأوبئة، ولم يزل العوز ينخر في أجساد الفقراء، وما زالت الشهوة تدفع النفس إلى الخزي والندامة. ومثلما تنافر واختلف فكر علماء البصرة في القرن الثاني من الهجرة وباتوا يكفّرون بعضهم بعضاً، لا يزال المفكرون في الألفية الثالثة يرمون بعضهم بالكفر والخروج عن الملة عند اختلاف الآراء.

زادت الكاتبة في نكأ مواضع الجروح فعرجت على لصوص الأفكار ولصوص الأحلام ولصوص الحياة؛ ربما لتضع مقدمات صادقة ومنطقية تبرر بها وقوع الإنسان في براثن الخطيئة؛ تلك التي جبلت نفسه عليها.

التناص واللغة

بلغت اللغة ما كان عليها أن تبلغه من جمالية وبلاغة ودلالة تتسق مع فضاء الحكي وأحداثه التي يدور بعضها في البصرة في زمن الحصافة وتنافس العلماء. وعلى الرغم من بروز اللغة الفصحى كأسلوب رئيس للسرد، تسللت- في غير موضع- ومضات من العامية فأضفت مزيداً من الجاذبية والحميمية على النص. وقد دفعت الخصوصية التاريخية للفضاءين الزمني والمكاني- في البصرة- بالكاتبة للاستشهاد والتناص مع الموروث الديني والشعري والمأثور من الأقوال بما زاد من قوة السرد وجماليته. راحت تستدعي شعر امرئ القيس، وخطبة واصل بن عطاء، وتستخدم الأسلوب المنمق ذاته في مستهل كل صوت لتزيد من حالة التماهي مع تلك الشخوص والحقبة التي عاشت فيها وتستحضر سماتها التي وشى بها التراث الإنساني.

ثم توجت الحكاية بضبابية تتسق مع الروح الفلسفية للنص مثيرة الأسئلة الجدلية ذاتها حول تناسخ الأرواح ومسائل أخرى من قبيل الحرية والقدرية وإمكانية أن ينجو الإنسان من ارتكاب الخطأ نفسه. فهل تقود الفرص الثانية إلى النتيجة ذاتها؟ أم كما قال أمل دنقل في أحد استشهادات الكاتبة: "رفسة من فرس/ تركت في جبيني شجاً/ وعلمت القلب أن يحترس"!

نقلًا عن إندبندنت عربية
28-10-2020

عن القمر الذي أكله هشام خطّاب





ألفت عاطف*

خرجت الرواية من رحم رؤيا في كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين، وفي هذا مفارقة في غاية اللطف؛ فالرؤيا بوجه عام تحتمل تعدد التأويلات والتفاسير. رموزها تعيد خلق نفسها في ذهن كل متلقي، وكذلك كانت رواية بساتين البصرة للكاتبة منصورة عز الدين، في حبكة مراوغة وسرد ذكي قابل للبناء والهدم وإعادة البناء على أكثر من أساس وفي أكثر من هيئة.

هل هي حكاية عن تناسخ الأرواح، أم عن المرض العقلي، أم عن متاهات الذاكرة و أبعادها الماورائية، أو ربما هي إعادة نبش للتراث والتقاط لحظة ذات خصوصية في التاريخ الإسلامي وربطها بحدث فارق في تاريخ مصر الحديث؟

يحلو لي دائما الحديث عن الجنون، والجنون المحتمل في هذا العمل يتبدى كشبح هادئ، يثب بخفة بين السطور. يتعمد إلقاء بذور الشك في موضع، ثم يحرص على طمس أثرها في موضع آخر، متنكرًا في ثوب الواقعية السحرية؛ فالتنقل بين الأزمنة لا يتحقق فقط للقارئ الذي يجد نفسه ساعيا ما بين القرن الثامن الميلادي، والقرن الحادي والعشرين؛ بل إن هشام خطاب بطل الرواية هو الآخر يترنح بين الزمنين، من خلال استحضار ذاكرة شخصية يزيد ابن أبيه، ودمجها مع ذاكرته الخاصة. ولأن الذكريات هي اللبنات المشيدة لهوية الفرد؛ يحدث هذا الاضطراب في هوية البطل، فيجد نفسه عالقا في دائرة مفرغة برزخية، بين أكثر من حياة.

هل هو هشام خطاب، أم يزيد بن أبيه؟ أم كلاهما؟! وهل نشأ هذا الصراع الغرائبي نتيجة حلول روح قديمة في جسد إنسان معاصر؟ أم نتيجة شطط ما في عقل هذا المعاصر وتقمصه لتلك الشخصية القديمة؟

السطور الأخيرة من الرواية ترجح الاحتمال الثاني، رغم إصرار الكاتبة على تجنب المباشرة بقدر المستطاع، من خلال عدم استخدام مصطلحات طبية أو حتى تسمية المكان الذي آل إليه مصير البطل، والتعريف بشخصية المرأة المرافقة له فيه، إلا أنه من اليسير توقع وجود هشام في مستشفى للأمراض العصبية، حيث الصراخ الهستيري في الغرف المجاورة والمرأة التي تجلب له الطعام وتحقنه بالمهدئات، وتعتبر الناس مجرد حالات!

وهنا تبدأ التفاصيل المنثورة بعناية هنا وهناك في الفصول السابقة- في التجمع لتشكيل نمط ما. تفاصيل بدت للوهلة الأولى كمواضع غموض، أو تساؤلات بإجابات مؤجلة أو حتى محذوفة، إلى أن جاءت السطور الأخيرة لتؤطرها وتمنحها معنى واضح.

هشام خطاب شاب من محافظة المنيا. ربته أمه ليلى، في ظل وجود شبحي للأب المفتون بالسيرة الهلالية، إلى حد هجر بيته والتنقل مع منشديها في القرى والنجوع. وبمرور الوقت وصل به الأمر للسفر إلى ليبيا والموت بها مغمورا بنشوة الحكي. كان هذا هو مستقبل حكاية حب ضحت لأجلها برضا أسرتها وعلاقتها بهم، بعد أن هربت معه في صباها وتزوجته رغما عنهم، وفي النهاية كان مآلها هو الهجر وتحمل أعباء تربية ابنها وإعالته وحدها تماما، مما صنع منها تلك الأم الشكاءة المتذمرة القاسية الدائمة التبكيت لولدها الوحيد. تقوم بمهامها اليومية وهي تندب حظها، وتسترجع ذكرياتها الأليمة وتوبخ هشام لأتفه الأسباب. علاقة مضطربة وطاردة وضاغطة تشكلت بين الأم والابن، وعلى الرغم من ذلك، لم نر أي رد فعل غاضب من قبله، كان يبتلع كل همومها ومشاعر الذنب التي تشحنه بها، حتى تشكلت بداخله تلك النزعة العدوانية السلبية التي انفجرت لحظة دفعه لها في النيل!

ظل هشام محتفظا بسلوكه البار بأمه، ولأنها كانت لا تكف عن الكلام عن جمالها وشبابها المنصرم، اعتاد هو الآخر على تجاهل اسمها الحقيقي ومناداتها بـ“قمر”…

فهل يمكن أن نخمن علاقة ما بين تلك التفصيلة، والجملة الافتتاحية المدهشة للرواية

بالأمس أكلت قمرا”!

استخدمت الكاتبة تقنية تعدد الرواة، فالأحداث يتم سردها على لسان أكثر من شخصية في أكثر من زمن، ومن خلالهم تفرعت خطوط الحكي وتقاطعت، وبمرور الفصول يكتشف القارئ العلاقات ونقاط الالتقاء بين الأبطال وحكاياتهم، لكن تظل قصة الأم على الرغم من الحيز الذي تشغله تقع في هامش الرواية، وإن نحينا جانبا صفة الأمومة، سنجد صعوبة في فهم الغرض من سرد كل تلك التفاصيل عن حياتها؛ لكن مع التقدم أكثر وصولا إلى الصفحات الأخيرة، ستبدوا قصتها بشكل مختلف، أو بقيمة مختلفة.

سندرك أن ليلى هي الجذر الحقيقي للأزمة التي يمر بها البطل، ليس فقط بإساءة معاملته والحط من قيمته وزرع الإحساس بالذنب في الطبقات العميقة من وعيه، بل أيضا بالتماس الواضح بين قصة حياتها وقصته المتخيلة عن حياته القديمة كيزيد بن أبيه. تمر الكاتبة بحذر على بعض تلك التفاصيل المشتركة مثل الذكرى التي استعادتها لحظة احتضارها عن جدتها خديجة، التي تقطع الصحراء القاحلة وحيدة، وتتوقف كل حين لتطمئن على شيء ما معلق بخصرها ثم تواصل المسير، وهو ما انطبع في خيالات هشام من خلال حكاية مجيبة وهروبها بمفردها قاطعة الصحراء بما سرقته من كنز خبأته في خصرها. ولا يتوقف أثر الأم عند هذا؛ بل يظهر بشكل أكثر تشعبا في غرس نمط التفكير الخرافي في عقل صغيرها، ليصبح في النهاية ابن لأم عالقة في مرحلة بائدة من عمرها تغص بالعفاريت المتربصين بالطرق، وجثث الموتى الطافية فوق الماء، والكثير من التفاصيل الغرائبية، وأب مهووس بالحكي الشعبي إلى حد التيه إثر الحكائين أينما وجدوا تاركا وراءه صغيره، مخلفا فيه بذرة جنونه.

نشأ الفتى محفوفا بكتب التراث، متأثرا بوجه خاص بكتب تفسير الأحلام، إلى أن وقعت بين يديه تلك الرؤيا عن رحيل علماء البصرة. رؤيا صاحبها مجهول، ولهذا كانت نقطة الجهل تلك ثغرة مثالية يتدفق من خلالها الماضي إلى الحاضر والعكس، من خلال شخصية يزيد ابن أبيه المخترعة، وفي هذا يقول البطل:

كنت بشرا من دم ولحم وأعصاب، ثم وجدت رؤياي لنفسها مكانا داخل المؤلَّف المنسوب لابن سيرين، فصرت كائنا ورقيا

تحررت روحي من سجن الجسد، ودُفِنَت في بقعة منسية على حدود كرمة قريبة من شط العرب، أعرف الآن أن أحاسيس شتى كانت تتناوب علي في مستقري ذاك، وأنني كنت أنمي غضبي وأقتات على ذكرياتي، لكنني ظللت باقيا (لن أقول حيا) داخل “تفسير الأحلام الكبير”، ثم انبثقت –بطريقة ما- في المنيا، تلك المدينة الهادئة على ضفاف النيل، لأب يحيا وفق ما تمليه عليه نزواته، وأم لا يرضيها شيء“!

وبهذا تكون الكاتبة قد اختارت ذكر أبيه وأمه في مستهل سرده لحكايته، وما فعله بها في الختام، وكأنها تقصد تأطير  الحكاية بأكملها بهما، لأنهما كانا بالفعل الإطار والمنبع لكل هذا الجنون. الجنون الذي تسلل إلى تفكيره بمكر وثبات إلى أن أحكم عليه قبضته.

هل يمكننا أن نتجرأ على النص ونطلق مسمى طبيا واضحا على تلك الحالة؟

لو فعلنا فسيكون (الفصام البارانويدي) هو التشخيص الأمثل. لقد تفككت شخصية البطل. فقد إحساسه بالواقع بالتدريج وصولا إلى الانفصال التام الذي عبر عنه المقطع الختامي للرواية.

يتكاثف الظلام أكثر ويصير حاجزا قاتما يفصلني عن كل ما عداي. يتراخى جسدي، لا، بل يتراخى العالم كله، فلا يعود منتبها إلي ولا أنتبه إليه بدوري، وأشعر كأنني في حفرة، مغطى بطبقات من التراب وسط ظلمة حالكة يتخللها الشذى المؤرق للياسمين“.

وما بين البداية والنهاية رحلة سقوط مؤلمة، تبدأ فيها الضلالات بالترسخ في عقله، سواء ضلالات توحده مع يزيد، أو تلك التي ظهرت في سلوكه على مواقع التواصل عندما بدأ يتحدث عن مخططاته الفريدة لإنقاذ البلاد، وعن اقتناعه التام بأبوته لابنة حبيبته القديمة. سلوكه المضطرب في الأماكن العامة وكتابته غير المترابطة على هوامش الكتب، ثم ارتيابه في حبيبته التي كان يراها تتقمصه في التفكير والحديث وطريقة الكلام، وكذلك في أستاذه الذي توهم أنه يتحدث بكلماته ويقتبس أفكاره، بل وينتوي نشر الكتاب الذي هو بمثابة كنزه الخاص الثمين، والذي نكتشف بعدها أنه غير موجود من الأساس، إلى أن وصلت ضلالاته لدرجة من الحدة دفعته لحرق منزل أستاذه بمن فيه، بل ولقتل أمه!

كل ما سبق تمثيل لمراحل التفكك العقلي التي تصيب مريض الذهان، إلى أن تؤدي به إلى الموت أو التشرد أو إلى قضاء ما تبقى من حياته بين جدران مصحات الأمراض النفسية والعصبية، وهو ما حدث بالفعل.

هل يمكننا إذن أن نصنف رواية بساتين البصرة ببساطة على أنها رواية عن المرض العقلي؟

بالطبع لا.

ففي الكثير من الأحيان يكون التصنيف بترا لامتدادات الجمال، ووأدا لأرواح أخرى ربما تنفلت من شخصية أو حدث أو رمز هنا أو هناك، وتجاهلا لجماليات حبك نسيج من ألف خيط مختلف، وهو ما قامت به الكاتبة عندما مزجت الأزمنة والشخوص والأفكار والأساليب اللغوية ومستويات الترميز، في رواية لم تتخط المئتي صفحة.

جدير بالذكر أن منصورة عز الدين كاتبة وروائية مصرية، صدرت لها سبعة أعمال أدبية، وحصلت على عدد من الجوائز الأدبية الدولية، وقد صدرت روايتها بساتين البصرة عن دار الشروق في أغسطس 2020.

* كاتبة وروائية مصرية

نقلًا عن موقع الكتابة
8-12-2020