Monday, April 7, 2014

ترحال


منصورة عز الدين

أحب التوهان في المدن التي لا أعرفها، والسير لأطول وقت ممكن دون خرائط (لا أجيد التعامل معها على أية حال)، ودون خطط معينة في رأسي. عادة ما أخصص يومي الأول للتعرف على المدينة بمفردي بلا شرح أو دليل، ثم إذا سمح وقتي، أعود للأماكن نفسها مع أحد العارفين بها، لأقارن إحساسي بها مع "حقيقتها".

اكتشفت تدريجياً أن أكثر المدن بقاءً في نفسي هي تلك التي أتعرف عليها دون دليل. برلين التي تهت وتسكعت فيها مراراً مع زهرة، وكتبت المشهد الأول من "وراء الفردوس" في فندق صغير على مقربة من "ألكسندر بلاتس"، وعدت إليها بعد خمس سنوات لأتعرف على وجه آخر من وجوهها. وبراغ التي لطالما اعتبرتها واحدة من مدن أحلامي مثلها في ذلك مثل بوينس أيرس وموسكو وشيراز وبغداد.

ودوسلدورف التي تعرفت عليها مع عباس بيضون وتجولنا فيها لساعات مهتدين بنهر الراين، مخترعين تفسيرات للتماثيل التي نقابلها، بينما نتحدث عن الفن التشكيلي من حامد ندا حتى أندي وارهول.

مع الوقت يصبح السفر والانتقال من مدينة لأخرى بمثابة لعبة مع الذاكرة وبالتالي مع النسيان. مدن عديدة مررت بها، بعضها ليوم واحد فقط، وبعضها لأسبوع أو أكثر، وفي النهاية تبقى شذرات غامضة من كل مدينة. لا أستطيع القول أني زرت هذه المدن، أو أنني تعرفت عليها، فقط مررت بها كعابر سبيل، حاولت القبض على قبس منها، على لمحة من وجودها المتغير والمهتز، ولأني متشككة بطبيعتي، سأظن أني اختلقت هذه المدن، واخترعتها اختراعاً، بحيث حصلت في النهاية على نسخة تخصني وحدي.

حين كتبت عن جزائر البهجة كما يطلق عليها مواطنوها، شعرت بنزعة إكزوتيكية تغلف كلماتي، واعترض صديقي الجزائري على رؤيتي للمدينة كمعرض للهويات المتجاورة، رغم أن فعلا بسيطاً كارتدائي حلي قبائلية من الفضة في شارع ديدوش مراد دفع البعض للظن أني قبائلية، كأن أي إشارة بسيطة تصبح فعل إشهار لهوية ما في مواجهة الهويات الأخرى.

"الفكرة في شبهك من ناحية الشكل بالأمازيغيات لا في الحلي الفضية نفسها"! قال صديقي دون أن يفسر لي لماذا لم يبدأ المارة في الكلام معي بالأمازيغية متوقعين أن أفهمها وأرد بها إلاّ بعد خروجي من محل الفضة بالقلادة والسوار القبائليين.

كنت أتحدث عن نسختي المخترعة من الجزائر، فيما يتكلم هو عن مدينة طفولته وصباه التي اضطر لمغادرتها خلال العشرية السوداء ولم يعد إليها بعدها إلاّ لماماً.

في ثاكاتيكاس تذكرت الجزائر، المدينة الصاعدة ابداً الهابطة أبداً، كما وصفها رشيد بوجدرة. في المدينة المكسيكية ثمة جبل (جبلان تتوسطهما المدينة)، تكسوه الأشجار، وشوراع صاعدة هابطة، وبيوت على النمط الكولونيالي.

في الحقيقة، قد لا يوجد شبه فعلي، إنما هي ألعاب الذاكرة، ورغبتها في اختلاق خطوط وهمية بين أشياء وأماكن أحببتها. هي الألعاب نفسها التي دفعتني لتذكر أشبيلية طوال وجودي في ثاكاتيكاس، لكن هذه المرة ثمة روابط أكثر متانة بين المدينتين، كون ثاكاتيكاس من المدن الكولونيالية في ما يُعرف بأسبانيا الجديدة، ومبنية على النمط الأسباني.

No comments:

Post a Comment