Wednesday, April 9, 2014

طيف الصقلي



منصورة عز الدين

خرجتُ من بناية "وهبة" ليواجهني شارع شبه معتم لم أتعرف فيه على "قصر النيل" الذي أكاد أحفظ معالمه. بدا متعرِّجًا لا مستقيمًا كعهدي به، أسير فأراه مغلقًا من بعيد، وحين أصل إلى النقطة التي ظننتها نهايته أُفاجأ بانفراجة تقودني إلى الأمام. كانت الإضاءة خافتة، والبنايات مغايرة لحقيقتها، إذ استحالت حصونًا تحتضن تعرجات الطريق، فتبدو كمبانٍ تُشكِّل نفسها وفقًا للفضاء المحيط. كل شيء كان مغلفًا بغلالة داكنة أوحت لي بأن هذا الجزء من المدينة أضحى "نيغاتيف" صورة فوتوغرافية.
خطوتُ كما لو في حلم، أو وجود مُفلتر. العالم من حولي تحول إلى مشهد بصري مهتزّ، لا يرافقه أي صوت. أفكاري نفسها تبخرت، ولم أعد سوى ظل لأصلٍ مفقود.
شعرتُ كأنّي ولجت مساحة زمكانية مخفية من المدينة التي كلما ظننت أني صرت من أهلها أعود لأكتشف جهلي بها.  لم يعتريني خوف، بل رغبة في الفهم مصحوبة بعدم ارتياح. كنت واثقة من أنني لا أحلم، وضاعف هذا من انزعاجي. خُيِّل لي أن القاهرة  تهمس ساخرةً أني لن أعرفها، سأعيش فيها كعابرة سبيل، كمخمورة لن تستفيق أبداً.

اختفى الناس كأنّ عاصفة اقتلعتهم من الشارع. كأنهم لم يكونوا قط.

"في البدء كانت الأحجار وفي المنتهى ستبقى. الأحجار وحدها ماضي المدينة ومستقبلها!" كدت أقول هذا، لكني لم أقو على النطق. في لحظتي تلك لم يكن هناك صوت ولا صدى، فقط سكون تام. لبرهة فكرت أني غير موجودة، مجرد فكرة خطرت للطريق عن امرأة تسير فيه كأنما تحلم، غير أن سؤالًا لمع في رأسي؛ فكثَّف وجودي وجعله ملموسًا: أين أنا؟ وكيف أعثر على نقطة مألوفة؟!


هرولت بينما أتحاشى النظر يمينًا أو يسارًا، حتى وصلت إلى ميدان "مصطفى كامل"، فعادت المدينة كما اعتدتها، بناسها وضجيجها الليلي والمشاعر المتناقضة التي تثيرها بداخلي. احتضنتْ صورتها كمدينة منتشية بنفسها حتى الثمالة، وغير مكترثة بالعابرين في دروبها ممن تنظر إليهم كمجرد لحظة عابرة في تاريخ ممتد لعشرات القرون، وتختال عليهم بكل حجر قديم فيها، بل حتى بالغبار المتراكم على بناياتها العتيقة والعوادم التي تلوث هواءها.

* مقطع من "طيف الصقلي".. رواية قيد الكتابة نُشِر الفصل الأول منها بالعربية والإنجليزية في دورية "البوابة التاسعة عدد خريف 2013.

No comments:

Post a Comment